فى أواخر ليلة 21 يونيو 2025، قامت الولايات المتحدة بتنفيذ ما أسمته رسميًا "عملية مطرقة منتصف الليل"، وهى أكبر ضربة جوية تستخدم فيها قنابل ضخمة من طراز Massive Ordnance Penetrator (MOP)تحمل كل منها نحو 13 طنًا، أُلقيت بواسطة سبعة قاذفات B‑2 Spirit، إضافة إلى صواريخ "توماهوك" انطلقت من غواصات أمريكية، مستهدفة ثلاثة مواقع إيرانية نووية تحت الأرض فى فوردو، نطنز، وأصفهان وشارك فيها نحو 125 طائرة مقاتلة ومساندة. تصريح وزير الدفاع الأمريكى، بيت هيجسث، ورئيس هيئة الأركان المشتركة، دان كاين، رسم صورة لضربة دقيقة وقلّ نظيرها فى العمق والتنسيق، بينما وصفها البيت الأبيض بأنها تهدف إلى إعادة إيران إلى طاولة التفاوض تحت ضغط الردع العسكرى، وليس بهدف تغيير النظام .
أما الجانب الآخر، فتكشّف فورًا أن هذه الضربة لم تكن أمريكيةً بحتة، بل تمت بتنسيق مع إسرائيل، التى دعمّت العملية بإبلاغ قيادتها مسبقًا، حتى قبل إعلانها على الجمهور، وهو ما عبر عنه نتنياهو باعتباره ردًا دفاعيًا مقنعًا يحفظ أمن إسرائيل . هذه الاستراتيجية الشاملة، بقيادة أمريكية إسرائيلية، تستهدف بناء ردع فعّال ضد أى محاولات إيرانية لاستئناف التخصيب بعيدًا عن العلم العميق، بينما فُهمت الضربة محليا وخليجيا كرسالة لتعقيد كفة السياسة النووية الإيرانية، وتهديد أى حراك دبلوماسى يعاكس هذا التوجه.
المشهد السياسى المحيطة بالعملية كان محمومًا: فى الجانب الأمريكى، استنكر نصف الجمهوريين استخدام القوة دون تصويت الكونغرس، بينما تحفظ عدد من الديمقراطيين على أى خطوة عسكرية خارج إطار دولى واضح . أما فى الخليج، فقد سادت حالة من القلق الشديد فى السعودية، والإمارات، والبحرين، بين خوف من رد فعل إيرانى بلا تمييز، وبين حسابات أمنية تستعيد التوازنات بعد سنوات من نسق "خفض التصعيد" . من الناحية الدولية، لم يعد الأمر مجرد نزاع عابر، بل تحول إلى إشارة إلى بداية فصل جديد من استخدام القوة كأداة ردع، يصاحبها تساؤلات عن مدى تحوّل أمريكا من القوة الدبلوماسية إلى آلة ردع بامتياز.
ما لم يناقَش كثيرًا، رغم أهميته، هو الأثر الذى تخلفه هذه الضربة النفسية فى وعى شعوب الشرق الأوسط. فالمعسكرات لم تكد تجهز لهذا التحوّل السريع فى قواعد اللعبة، الذى نقل المنطقة من مرحلة الدفاع والتهدئة إلى احتمالات جديدة من الصراع المفتوح تحت راية الردع. وقع ذلك كله على المجتمع كزلزال نفسى، وتحوّل من كون الأزمة سياسية ضيقة إلى مشكلة نفسية جماعية، ترتبط كل يوم بسلوكيات واقعية.
دخل مفهوم "تطبيع الخوف" إلى حيز الفعل. فقد صارت كل أزمات متلاحقة توعد بانفجار جديد، وأصبح شعور الخطر لحظة يومية: الأطفال يُحَضّرون لحرب كما يُحضّرون للمدرسة، الشباب لا يُفكّر إلا فى يوم بيوم، البرامج الاجتماعية أصبحت عن: "أين أذهب إذا ما حدث الانفجار؟"، والتزيين أصبح للإخلاء. هذا التحول لا نراه فى الخرائط العسكرية، لكنه حقيقى، إذ يؤثر على تنسيق فكر الناس، ويصنع جيلًا يربط الأمن بالبقاء لا بالحياة النشطة. ولم يعد الخوف موضوعًا فرديًا، بل متلازمة مكتسبة من البيئة، وهنا يبدأ دور الضحية الجماعية.
العامل النفسى الأكثر خطورة يتمثّل فى تحول الخوف إلى "قناع" يحجب الشعور بالحياة. ليس المهم فقط أن الضربة مؤلمة أو أنها لم تُقَدر، بل إن قدرة المواطن على أن يحلم تبدو ممزّقة. تتراجع الخطط المستقبلية، وتنكسر الأحلام الجامعية، ويقلّ الإبداع والمبادرة. تكثر المجهودات الفردية تجاه البقاء، لكن الأطر الجماعية تتصدّع. فإذا كان الطفل يقرأ خبر الضربة قبل وجبة الفطور، فهل يمكن أن نلومه على عدم بناء فكرة مجتمعية؟
من الخدمات البحثية فى علم النفس الاجتماعى، نعرف أن "الخوف المزمن" يضعف السيطرة المعرفية، ويقلّل التفاعلات الاجتماعية-الصحية، ويخفض مستوى الثقة بالمفاصل السياسية. هذه نتائج لا تُقاس بالدم أو الدمار، لكنها تمسّ بنية الدولة وجيشها قبل الاقتصاد. إن دولة لا تملك قوة، من الداخل، على أن تبقى مركزًا منتجًا، ليست دولة بالشكل الذى نعرفه.
هذا لا يعنى الدعوة للانفلات أو إغراق العالم فى الوعود الكاذبة، وإنما المقاربة الذكية: لا سلام بلا أمان، ولا أمان بدونه. يجب أن يحمل الإعلام المسئول توازنًا بين نقل الوقائع والتوعية، بحيث لا يضخّم الخبر لخدمة "خديعة الخوف"، بل يؤكد على الموارد النفسية المتاحة. التعليم عليه مسئولية أن يخصص برامج مسايرة "للإنسان المهدّد"، مدرّب على الصمود النفسى، لا فقط الإنسانى. والحكومة عندما تصدر بيانات، لا يهم فقط محتواها السياسى، بقدر ما يهم أن تعطى جُرعة ثقة – أنها تسمع، وترى، وتتعاطى مع عنوانها الأكبر: الإنسان فى لحظة الانكسار.
إذا رجعنا إلى خرائط السياسة، نجد أن التحالف الأمريكي–الإسرائيلى أراد تبريد النزعة الإيرانية، وأرسل رسالة ردع. لكن الرسالة الأعمق، إذا لم تُقابل برفع وعى جماعى، ستكون: "ما بداخلك خُط للنار". وهذا أمر أشد خطورة، لأنه يحدث داخل العقول والقلوب، بعيدًا عن المقار العسكرية.
ومع ذلك، الشعوب ليست بلا صمود. نبض المقاومة الداخلى بقى حيًا: فى الخليج، قامت احتياطات مدنية بعد الحرب، رغم الخلافات بين القادة والإدارات، وظهر نقاش شعبى واقعى لا يهاون بالأمل. فى إيران نفسها، رغم الاحتقان داخل النظام، عبّر جزء من الشارع عن رفضه التام لمصير على خلفية سياسة جائرة، وغرد "الموت لخامنئي" كنداء شعبى لمناهضته .
بالتالى يمكن استثمار هذه اللحظة كفرصة. فإذا كان إرهاب الخوف قد نال من الإنسان، فإن مقاومة الخوف قادرة على إعادة صياغة عجلة السياسة. فلنطرح السؤال: هل نريد أن نصبح شعبًا مجرد مشاهد، أم نريد أن نكون صاحب قرار؟ لأن القرار يبدأ من الداخل، وليس برصاصة أو قنبلة. دولة ليست مقياس قوتها بالدبابات، بل بقدرتها على تجديد نفس شعبها وترسيخ معنى الأمان.
إلى جوار الرادارات والردع، هناك إشارات داخل المجتمع يمكن أن تُوجهها الدولة والإعلام والمجتمع المدنى لتقويض ترسيم الخوف. فيما يلى تشريعات ذكية:
1- تثبيت برنامج وعى نفسى فى المدارس والجامعات يشبّه بالتجول فى الحقل النفسى: "كيف تخبئ حقيبة الطوارئ، دون أن تخبئ أملك".
2- فتح خطوط دعم مجانى للمواطنين، كخط احتياط للتعامل مع الانفجار الداخلى.
3- تدريب إعلامى وثقافى يُسهم فى تقليل الغاشية الإعلامية، واستبدال بها نمط "مواطنى واعٍ"، يعرف أن الأمن لا يُخلق إلا من داخل نفسه.
4- حضور منظمات المجتمع المدنى للحظات الانقسام والخوف، ببيانات تثقيفية تعيد اللهفة الأولى للأمل.
هذه السياسات ليست رفاهية، بل ضرورة إذا أردنا أن نعيد بناء مجتمعات تنبض حياة، لا فقط تبقى بأعجوبة.
عندما يُكتب بعد عقدين أن الضربة الأمريكية كانت مرحلة، فالصمود النفسى كان حركة النصرة الحقيقية. فالدولة التى تجعل جنديها لا يخاف، تكون لها دولة قوية. والدولة التى تجعل شعبها لا يضعف نفسيا، يكون لها نفوذ لا يقاوم.
يظل السؤال الأخير: هل نريد أن نتحدث عن "سلام مزيف" مسنود بخطابات القوة فقط، أم نريد "سلاما عميقا" مبنيا على مجتمع يعافى نفسيًا من الداخل أولًا؟ وإذا كان الخيار الثانى فى بالك، فاعلم أن المعركة الحقيقية تبدأ فى وعى البشرية، وبصمود العقول والقلوب.