فى ظل التحديات الاقتصادية والبيئية المتزايدة، لم يعد النهج التقليدى لتمويل التنمية كافيًا. لقد أثقلت القروض والمنح الموازنات العامة، بينما ظلت مشروعات التنمية المحلية فى أمسّ الحاجة إلى التمويل. من هنا، يبرز التفكير فى أدوات مالية مبتكرة تستطيع أن تحول المدخرات الصغيرة إلى قوة تمويلية هائلة.
هذا المقال يطرح رؤية جديدة للتحول من الاعتماد الكلى على السندات الحكومية التقليدية إلى تبنى نموذج أكثر شمولية ومشاركة: السندات المجتمعية. وكمثال عملى على هذا التوجه، نقدم مقترح "سند قريتى"كآلية لتمكين المواطنين من المساهمة المباشرة فى تمويل مشروعات التنمية المحلية مثل محطات الطاقة الشمسية، بما يحقق عائدا مستداما لهم ولمجتمعاتهم، ويسد فجوة التمويل بطريقة ذكية ومسئولة.
وحيث إن سوق السندات المستدامة العالمية تشهد نموًا مطردًا، وتتوقع التقديرات أن يبلغ إجمالى إصداراتها نحو تريليون دولار أمريكى فى عام 2025، مما يعكس توجهًا عالميًا راسخًا نحو التمويل المستدام والمسئول. أما على المستوى المحلى فى مصر، وفى إطار سياسة ترشيد الإنفاق، فقد تم تخفيض المخصصات لدعم الوقود فى مشروع موازنة السنة المالية 2025/2026 إلى نحو 75 مليار جنيه مصرى، مقارنة بـ 154 مليار جنيه فى الموازنة السابقة. هذا التخفيض يؤكد الضغط المستمر على الموازنة العامة والمواطن ويزيد من الحاجة إلى بدائل تمويلية مبتكرة.
تأتى السندات المجتمعية كأحد أبرز هذه الأدوات المبتكرة، حيث تمثل نموذجًا تمويليًا يربط بين أهداف التنمية المستدامة ومصالح المجتمع، من خلال توجيه عوائد السندات نحو مشاريع اجتماعية أو اقتصادية ذات أثر مباشر على الفئات المستهدفة، مثل البنية التحتية المحلية، والتعليم، والصحة، وتحسين البيئة الحضرية.
نموذج "سند قريتى".. التمويل المحلى للمشاريع الخضراء:
يمكن بلورة آلية مبتكرة لطرح هذه السندات تستهدف المواطنين بشكل مباشر، تحت اسم "سند قريتى"أو "سند محافظتى". يقوم هذا النموذج على طرح سندات بقيمة اسمية منخفضة، تبدأ من ألف جنيه مصرى، ليتمكن الأفراد من مختلف الشرائح الاجتماعية من المشاركة.تُوجّه عوائد هذه السندات لتمويل مشروعات محددة فى قراهم أو محافظاتهم، مثل إنشاء محطات طاقة شمسية صغيرة. هذه المشروعات لا توفر فقط مصدرا مستداما للطاقة للمجتمع المحلى، بل تتيح أيضا بيع الفائض من الكهرباء للشبكة القومية، مما يدرّ عائدا مستمرا على حاملى السندات. هذا النموذج يحقق عدة أهداف فى آن واحد: فهو يعبئ المدخرات المحلية، ويقلل من فاتورة استيراد الوقود، ويخلق شعورا بالملكية المجتمعية للمشاريع، بالإضافة إلى تعزيز الوعى بأهمية الطاقة النظيفة، مما يجعله مثالا حقيقيا على التنمية الشاملة التى تنطلق من القاعدة الشعبية.
تتوافق السندات المجتمعية بشكل كامل مع مبادئ الحوكمة البيئية، والاجتماعية، والمؤسسية(ESG)، حيث توفر للمستثمرين فرصة لتحقيق عائد مالى مع إحداث أثر اجتماعى إيجابى وقياسه. هذا التوافق يجعل هذه السندات أداة مثالية لجذب صناديق الاستثمار الدولية والمؤسسات التى تضع الاستدامة فى صلب أولوياتها، مما يعزز من مكانة مصر كوجهة جاذبة للاستثمار المسئول.
يجب أن يكون القطاع الخاص شريكًا أساسيًا فى نجاح السندات المجتمعية. يمكن للمصارف التجارية وشركات التأمين أن تلعب دورًا حيويًا فى الترويج لهذه السندات وتوزيعها على الأفراد والمؤسسات، كما يمكن لشركات القطاع الخاص الكبرى أن تكون مستثمرًا رئيسيًا فيها. هذا التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص يضمن التغطية الواسعة للإصدارات وتوفير السيولة اللازمة للسوق>
ولضمان جاذبية السندات المجتمعية وتحقيق ربحية مجزية، يمكن هيكلة عوائدها لتشمل أكثر من مصدر. فإضافة إلى العائد المباشر من بيع الكهرباء الفائضة، يمكن ربط المشروعات الخضراء بسوق الكربون. حيث تسمح مشروعات الطاقة الشمسية بإنتاج شهادات لخفض الانبعاثات الكربونية، يمكن بيعها فى الأسواق المحلية أو العالمية. هذا يضيف مصدرا جديدا ومستداما للإيرادات، مما يعزز من العائد الإجمالى على السندات ويجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين المحليين والدوليين على حد سواء.
ولتعزيز المشاركة، يمكن تقديم حوافز غير مالية للمساهمين، مثل شهادات تقدير أو عضوية فى لجان إشراف محلية، مما يمنحهم شعورا بالملكية والفخر. كما يمكن ربط كل إصدار سندات بشكل واضح بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، مثل الهدف السابع (الطاقة النظيفة بأسعار معقولة)، مما يسهل قياس الأثر ويجذب المستثمرين المهتمين بالاستثمار المسئول. ولضمان الشفافية، يمكن استكشاف تقنيات مثل البلوك تشين لتتبع الأموال ونشر تقارير الأداء بشكل فورى وموثوق. هذا النموذج يحقق عدة أهداف فى آن واحد: فهو يعبئ المدخرات المحلية، ويقلل من فاتورة استيراد الوقود، ويخلق شعورا بالملكية المجتمعية للمشاريع، بالإضافة إلى تعزيز الوعى بأهمية الطاقة النظيفة، مما يجعله مثالا حقيقيا على التنمية الشاملة التى تنطلق من القاعدة الشعبية.
كما يمكن لصندوق مصر السيادى أن يلعب دورًا محوريًا فى إطلاق هذه الأداة وتمكينها. يمكن أن يعمل الصندوق كجهة ضامنة أو كمستثمر أساسى فى الإصدارات الأولى، مما يمنح الثقة للمستثمرين الأفراد. كما يمكنه أن يساهم فى تحديد المشروعات ذات الأولوية وتطبيق أفضل الممارسات فى الحوكمة والرقابة، مما يضمن نجاح هذه التجربة الرائدة>
آليات العمل:
تعتمد السندات المجتمعية على إصدار سيادى أو شبه سيادى، يتم فيه تخصيص العوائد حصريًا لتمويل مشاريع ذات أثر اجتماعى محدد مسبقًا، مع الإفصاح الدورى عن النتائج المحققة، بما يعزز من ثقة المستثمرين ويدعم المساءلة.
كما يمكن ربط العائد بمؤشرات أداء محددة(KPIs) .تعكس تحقيق الأهداف الاجتماعية أو التنموية، مما يخلق حافزًا مزدوجًا للحكومة والمستثمرين لضمان نجاح المشروع.
البدائل الممكنة لآليات الطرح:
يمكن إصدار السندات المجتمعية عبر عدة نماذج، بما يتناسب مع قدرات السوق والمستثمرين المستهدفين:
1- إصدار محلى موجه للمستثمرين الأفراد والمؤسسات داخل الدولة.
2- إصدار مزدوج يجمع بين السوق المحلية والدولية لجذب استثمارات المغتربين والمهتمين بالتأثير الاجتماعى.
3- طرح عبر منصات تمويل جماعى مدمجة مع التكنولوجيا المالية(FinTech) لتوسيع قاعدة المشاركين.
4- هيكلة هجينة تربط بين السندات المجتمعية وأدوات أخرى، مثل الصكوك الخضراء أو السندات المرتبطة بالمؤشرات الاجتماعية.
استراتيجيات يمكن تبنيها لإنجاح تلك المبادرة:
· إطلاق برامج تدريب وتثقيف مالى تستهدف شرائح مختلفة من المجتمع.
· صياغة قوانين تنظيمية خاصة بالسندات المجتمعية بمشاركة القطاعين العام والخاص.
· إنشاء وحدة متابعة وتقييم مستقلة تضمن التزام المشاريع بالأهداف.
· دعم تطوير سوق رأس المال المحلى وتبنى أدوات تكنولوجية لتسهيل التداول.
· اعتماد هياكل تمويل هجينة تقلل من مخاطر تقلبات الفائدة.
دعوة إلى العمل:
يمكن أن يكون للمؤسسات التمويلية الدولية، مثل البنك الدولى، والبنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية(EBRD)، والوكالات الإنمائية التابعة للأمم المتحدة، دور محوري فى دعم إطلاق السندات المجتمعية وتوسيع نطاقها، كما يمكن لهذه المؤسسات أن تساهم فى عدة جوانب أساسية، منها تقديم الدعم الفنى لتصميم الأطر التنظيمية والحوكمة، وبناء القدرات للعاملين فى القطاع الحكومى والمالى.
كما يمكنها توفير ضمانات ائتمانية جزئية للإصدارات الأولى من هذه السندات، مما يقلل من مخاطرها بالنسبة للمستثمرين ويشجع على الإقبال عليها. بالإضافة إلى ذلك، تعمل هذه المؤسسات على ترويج الأداة على المستوى الدولى وجذب استثمارات خارجية، مما يساهم فى تعميق السوق وتوفير السيولة اللازمة لنجاحها. هذا الدعم الدولى يعزز من مصداقية السندات المجتمعية ويحولها إلى أداة تمويلية معترف بها عالميا.
وفى ضوء التحديات الاقتصادية والبيئية التى تواجهها مصر والمنطقة، بات من الضرورى أن تتكاتف الجهات المعنية لإطلاق مبادرات تمويلية مبتكرة مثل السندات المجتمعية. ندعو كافة الجهات المعنية، والهيئات الرقابية، والمستثمرين، والمجتمع المدنى إلى تشكيل لجان عمل مشتركة تهدف إلى وضع الأطر التنظيمية وتطوير آليات الطرح والرقابة، مع إطلاق برامج تجريبية تعزز الثقة فى هذه الأدوات وتفتح الباب أمام شراكات جديدة تسهم فى تمويل التنمية الشاملة والمستدامة.
التغيير يبدأ الآن، وبتضافر الجهود يمكننا بناء مستقبل أكثر استدامة واقتصاد أقوى يرتكز على تمويل ذكى ومسئول.