توحى تقلّبات المشهدين الدولى والإقليمى للمنظّر الجيوسياسى بكم هائل من النظريات التى تصلح كمقاربات نظرية للتفسير والتحليل على أساسها من منظورها فى مجال الدراسات الاستراتيجية والجيوسياسية على السواء، هنا أطلق عليه شخصيا اسم "نظرية الأثر التتابعى" على الحالة التى شهدها النسق الدولى أثناء اندلاع ما سمى مجازا بـ "الحرب الإيرانية–الإسرائيلية"، ومفاد النظرية: "أن أى خلل بالنسق الدولى لا سيما فى حالة الحروب وما ينجم عنها من تداعيات، يصيب بالضرر مصالح بقية الوحدات والفواعل الدولية، وتبقى مهددة بحالة تقلّب وعدم استقرار إلى أن ينتفى المسبب ويعود النسق الدولى إلى حالة التوازن الذى تتكفل به آليات تسوية المنازعات الدولية أو الإقليمية لأن ما ينطبق على النسق الإقليمى من منظور هذه النظرية ينطبق على النسق الإقليمى بحكم التكوين والعلاقات الحاكمة"، وبمعرض الحديث إن فكرتى (نظرية الارتداد السلبى فى أنساق النظام الدولى)، تلتقى مع "النظرية البنيوية" التى تؤكد على أن بنية النظام الدولى سواء كان أحادى القطبية أو ثنائى القطبية أو متعدد الأقطاب، هى التى تحدّد سلوك الوحدات (الدول) وتؤثر فيها، وتبين أنه عندما تتغير بنية النظام، تتغير معها سلوكيات الدول والعلاقات بينها، كما تلتقى الفكرة مع نظرية "الأنظمة المعقدة" التى ترى أن النظام العالمى يتكون من مجموعة من الأجزاء المتصلة ببعضها بعضًا بطرق معقدة، وأن حدوث أى تغيير فى أحد أجزاء هذا النظام قد يؤدى إلى تأثيرات غير متوقعة فى أجزاء أخرى، علما ومن باب التنظير بطابع علمى بحت ومن جهة الرد على الانتقادات، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن نظرية "الأثر التتابعى" ممكنة الإسناد إلى وقائع تاريخية تؤكد صحتها من قبيل كيفية تأثير أزمات معينة، مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008، أو الحرب العالمية الأولى على كل الدول بطريقة سلبية، ومن ثم تحديد آليات التأثير أى كيفية انتقال الارتداد من النسق الدولى إلى الوحدات الدولية سواء عبر التجارة، أو التحالفات العسكرية، أو عبر وسائل الإعلام، دون أن نغفل عن قاعدة منطقية مهمة بصدد هذا التنظير ألا وهى تجنّب التعميم المطلق، إذ ليس كل ارتداد يؤدى بالضرورة إلى نتائج سلبية، بل هناك دول تستفيد من بعض الأزمات، إذ إنّ معالجة هذه الاستثناءات قد تعطى نظريتك عمقًا أكبر.
فى معرض الحديث، نشير إلى أن معالم النظرية السابقة مأخوذة بالكامل من المشهد الإقليمى الذى ارتسم عقب اندلاع المواجهة الإسرائيلية–الصينية، وما أفرزته من تداعيات، اخترنا كقالب تطبيقى لإثبات جوهر فكرة النظرية مشروع الحزام والطريق وتداعيات حرب إسرائيل – إيران عليه، حيث أثرت حرب الـ 12 يوما أو الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، من المنظور الجيوسياسى على مشروع "الحزام والطريق" الصينى (BRI)، بسبب الدور المحورى لإيران كمركز جيوسياسى واقتصادى فى هذا المشروع، الأمر الذى تجلّى بعدة نواحٍ منها:
أولا- تعطيل الممرات البرية والبحرية:تُعتبر إيران نقطة عبور رئيسية فى الشق البرى لطريق الحرير، حيث يمتد المسار من الصين عبر آسيا الوسطى وإيران إلى تركيا وأوروبا، كما أن موقعها الاستراتيجى على مضيق هرمز وبحر العرب يجعلها حيوية للشق البحرى، هذا من حيث الأهمية الجيوسياسية لإيران فى مشروع طريق الحرير، أما تداعيات الحرب الإسرائيلية-الإيرانية، التى شملت ضربات جوية واسعة النطاق على منشآت عسكرية ونووية إيرانية، فقد أدت إلى:
·اضطرابات لوجستية:أثرت الهجمات الإسرائيلية التى استهدفت البنية التحتية مثل مصانع الصواريخ ومنشآت الطاقة على شبكات النقل والسكك الحديدية التى تمولها الصين، مثل مشروع الربط السككى بين إيران، والعراق، وسوريا.
·مخاطر الأمن:التصعيد الذى وقع وأى تصعيد عسكرى مستقبلا فى المنطقة، يزيد من مخاطر استهداف البنية التحتية للمشروع، مثل الطرق والموانئ، مما قد يؤخّر تنفيذ المشاريع أو يرفع تكاليف التأمين والحماية.
·تأثير على الاستثمارات الصينية فى إيران: استثمرت الصين بكثافة فى إيران ضمن إطار مبادرة الحزام والطريق، بما فى ذلك تطوير ميناء شهبار والبنية التحتية للنقل، والأمثلة كثيرة، منها اتفاقية التعاون الإيرانية-الصينية لمدة 25 عاما، الموقعة فى 2021، التى عززت هذه الشراكة، لكن الحرب كحالة أو واقع مفروض، تُسبب تأخير المشاريع لأن الضربات الإسرائيلية على أهداف استراتيجية، مثل منشآت فوردو ونطنز النووية، تعيق تنفيذ مشاريع البنية التحتية بسبب حالة عدم الاستقرار، إضافة إلى تراجع الثقة الاقتصادية، فقد يدفع الوضع الأمنى المتدهور الشركات الصينية إلى إعادة تقييم المخاطر الاستثمارية فى إيران، خاصة مع تصاعد العقوبات الدولية المحتملة بعد الحرب.
ثانيا- التوازنات الجيوسياسية والصراع الصينى-الأمريكى: تعتمد الصين على إيران كحليف استراتيجى لربطها بشبكة التحالفات المناهضة للنفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط فى إطار التمهيد للنسق المستقبلى الذى تحاول جاهدة مع روسيا إرساءه، عالم متعدد الأقطاب، ورغم المشهد الذى اتسم بحياد الصين ميدانيا وتدخل أمريكا، فقد شاركت الولايات المتحدة بالحرب بشكل مباشر من خلال ضربات على منشآت نووية إيرانية، ساهمت بتعقيد ديناميكية الصراع بين الصين والولايات المتحدة، إذ إن:
·عامل التدخل الأمريكى:مشاركة الولايات المتحدة فى عملية "مطرقة منتصف الليل" تُظهر تصعيدًا ضد إيران، مما قد يُفسر كتحدٍ مباشر وغير مباشر بالوقت ذاته للمصالح الصينية فى المنطقة.
·عامل المنافسة مع المشروع الأمريكى:تدعم الولايات المتحدة مشروعا منافسا لربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، مما يهدف إلى تقويض طريق الحرير الصينى، والحرب الأخيرة عززت هذا المشروع المنافس من حيث المبدأ، ولو أنها استمرت لقادت إلى إضعاف إيران كشريك للصين وبالتالى تقويض المصالح الجيوسياسية للصين على الجغرافيا الإيرانية.
ثالثا- تأثيرات على أسواق الطاقة والتجارة: تعتبرإيران موردا رئيسيا للنفط إلى الصين، وأى اضطرابات فى إمدادات النفط، مثّل تهديد إيران بإغلاق مضيق هرمز، سيؤثر على أسواق الطاقة العالمية، مما يرفع تكاليف النقل عبر الشق البحرى لطريق الحرير، كما أن ارتفاع أسعار النفط قد يؤدى إلى زيادة تكاليف الشحن واللوجستيات، مما يؤثر على جدوى المشروع الاقتصادية.
رابعا- رد فعل الصين وتداعيات استراتيجية: تتجنّب الصين عادةً التورط المباشر فى النزاعات الإقليمية، كما فعلت بحرب حليفتها إيران مع إسرائيل، ومن المبالغ فيه القول إن الصين توظّف إيران كوكيل لتأمين مصالحها فى الشرق الأوسط خلف الكواليس دون ظهور مباشر، دون أن نكر الدعم غير المباشر عسكريا وتكنولوجيا، ولكن الصين ليست بمنأى عن التصعيد العسكرى المصحوب بكسر قواعد الاشتباك فى أى حرب قادمة، هذا ما لا ينطبق على الحرب الأخيرة التى كانت بقواعد مرسومة لحد بعيد، ولكن مستقبلا مع تصاعد أى حرب قادمة، قد تضطر الصين إلى:
·إعادة تقييم استراتيجيتها عبر إعادة توجيه استثماراتها إلى دول أخرى أقل مخاطر، مثل تركيا أو دول الخليج، لضمان استمرارية المشروع.
·الوساطة الدبلوماسية عبر لعب دور الوسيط، كما فعلت فى اتفاقيات سابقة مثل التقارب السعودى-الإيرانى عام 2023، لتخفيف التوترات وحماية استثماراتها.
ختاما:
شكلت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية تهديدا مباشرا لمشروع طريق الحرير الصينى من خلال تعطيل البنية التحتية فى إيران، وزيادة المخاطر الأمنية، وتفاقم التوترات الجيوسياسية، على الرغم من أن الصين استثمرت بكثافة فى إيران كجزء من مبادرة الحزام والطريق، إلا أن الصراع قد يدفعها لإعادة توجيه بعض الموارد أو تعزيز الدبلوماسية لحماية مصالحها، خصوصا أن استقرار الوضع لا يزال قيد الاختبار والمراقبة، والتأثيرات طويلة الأمد تعتمد على مدى استقرار المنطقة بعد وقف إطلاق النار فى يونيو 2025، والنقطة الجوهرية هنا، أن الحرب الإسرائيلية–الإيرانية أثرت على المشاريع الجيوسياسية العالمية عموما سواء مبادرة الحزام والطريق من جهة، أو ممر الهند-أوروبا من جهة أخرى، ولكن من حيث الزمن أى مؤقتا وليس دائما، وكان هذا سببا فى الانخراط الصينى بالوساطة لوقف إطلاق النار. وليس من حيث النطاق جزئيا كان أم كليا، كما أن الصين لم تحرّك قواتها لحماية مشروعها الجيوسياسى، لأنه بحكم طبيعتين تضبطان السلوك والتوجه الصينى: الأولى: أداة تحقيق مشروعها عبر البوابة الاقتصادية وليس العسكرية، والأخرى: النهج السياسى الدبلوماسى القائم على الحوار والتعاون وتحييد الخلافات وتجنب هدر مقومات القوة، رغم أن الزحف البطىء يثبت مساعى الصين لإحياء إرثها الإمبراطورى عبر مشاريعها السياسية، ولكن بالمقابل كان لهذا السياق مكامنه التى كشف عنها من قبيل أن الصراع الإيرانى-الإسرائيلى مضبوط ومحكوم بقواعد اشتباك وليس خارج نطاقها، وإلا لكانت التداعيات فيما لو استمر النزاع كفيلة بانخراط فواعل أخرى إقليمية ودولية، كما أن معالجة الثغرات الأمنية والعسكرية الإيرانية بدأت عقب توقف القتال بتعزيزات عسكرية متطورة لإيران، أى إن إيران مصلحة جيوسياسية صينية، ونقطة ارتكاز تعمل كل من روسيا والصين على تدعيمها لتكون اللبنة الأساسية فى تشكيل الهيكلية الجديدة للنظام الدولى الذى تحلم به القوى المترصدة لأمريكا بالغرف المظلمة فى حين تمارس سياسات الضحك بالوجه والتحوط وغيرها، والنتيجة الأهم ما بين الصين وأمريكا كقوى كبرى هو بإخفاء الأمر (إدارة صراعا) وليس (صراع) فى مناطق نفوذهما الجيوسياسية.