لا يوجد تعريف عالمى موحّد للإرهاب، ويرجع الاختلاف فى التعريفات حسب المصالح السياسية للدول، ويُعرف الإرهاب بأنه "بث الرعب والخوف فى نفس الفرد أو أفراد المجتمع بأكمله"(فريد صلاح الهاشمى،مفهوم الإرهاب وآثاره المدمّرة)، فمثلًا: الحرب الإسرائيلية ضد فلسطين -من وجهة نظر الغرب- دفاع عن الوطن، بينما دفاع الفلسطينيين عن أرضهم ضد إسرائيل يُعتبر إرهابا، وبالتالى، المصالح الغربية -لاسيما الأمريكية- هى التى تحدد قطعًا ما هو إرهاب من عدمه. ويحظى المقنن فى السياق الدولى باعتراف من قبل الجماعة الدولة، أو يتم دمجه ضمن أطر رسمية. ولكن يبدو من وجهة نظرنا أن" المُقنن هو كل ما تراه الولايات المتحدة وتفرضه بالقوة، بحيث يخدم مصالحها".
دراسة حالة.. من الجولانى إلى الشرع:
أصبح رئيس المرحلة الانتقالية فى سوريا أحمد الشرع ( المعروف سابقًا بأبى محمد الجولاني) حالة فريدة فى العلاقات الدولية، وقد اكتسب شرعية وجوده بعد وجود عداوة كبيرة مع عدة دول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ولذلك علينا التمعُن فى خطواته الانتقالية من اعتباره جهاديا إلى كونه قائد دولة.
فى مايو 2025، كشف السفير الأمريكى السابق لدى سوريا "روبرت فورد" عن تفاصيل جديدة بشأن صعود أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم "الجولاني"، إلى رئاسة سوريا، كما أوضح أن منظمة بريطانية غير حكومية لعبت دورًا أساسيًا فى إعادة تأهيل الشرع سياسيًا بعد سنوات من انخراطه فى جماعات متطرفة، "فورد" الذى التقى الشرع ثلاث مرات، أشار إلى أن أول لقاء بينهما كان فى إدلب عام 2023، وشهد حوارًا مفاجئًا وصريحًا بين الطرفين، ورغم أن الشرع لم يعتذر عن ماضيه، إلا أنه أبدى وعيًا بضرورة تغيير أساليبه وتقديم تنازلات سياسية تتناسب مع تعقيدات الحكم فى سوريا، لكنه لم يقدّم اعتذارًا عن هجماته السابقة فى العراق وسوريا، وأكد "فورد" أن دوافع التحول لدى الشرع كانت واقعية وبراجماتية، وليست قائمة على مراجعة فكرية أو أيديولوجية([1]).
فى 27 سبتمبر 2014، تعهّد المتحدث الرسمى باسم جبهة النصرة –عُرفت بهيئة تحرير الشام فيما بعد- بالرد على التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة، مُحذرًا من انتقال الصراع ليشمل دولًا غربية وعربية شاركت فى الضربات الجوية([2])، وحينذاك كان قائد التنظيم هو "الجولاني". وفى يناير 2025، أثناء حديثه مع مجلة "The Economist"، صرح "الشرع" بأن حكومة سوريا تسعى لإعادة العلاقات مع الولايات المتحدة فى الأيام المقبلة، لكن لم يكن هناك أى اتصال مع إدارة ترامب حتى وقت المقابلة، وقال إنه يعتقد بأن ترامب يريد السلام فى المنطقة، وأن أولويات الحكومة السورية هى رفع العقوبات، فالولايات المتحدة ليس لديها أى مصلحة فى استمرار معاناة الشعب السوري([3]).
وقد ظهرت جبهة النصرة فى عام 2012، وتُعد النسخة الثالثة من فرع تنظيم القاعدة فى بلاد الشام، وأعلنت ولاءها لأيمن الظواهرى، خليفة أسامة بن لادن، ففى منتصف عام 2011، أرسل تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق "داعش" تسعة مقاتلين إلى سوريا، لتقديم الدعم اللوجيستى للجهاديين الذين ينتقلون من سوريا إلى العراق، وبحلول يناير 2012، حاز هؤلاء المقاتلون على دعم كافٍ فى سوريا، لإعلان تشكيل جبهة النصرة، وكان زعيمها هو "أبو محمد الجولاني"، لقد انفصلت النصرة رسميًا عن تنظيم داعش فى العراق فى إبريل 2013، بسبب خلافات استراتيجية، فقد ورد أن الجولانى يرفض تنفيذ أوامر من زعيم التنظيم أبوبكر البغدادى، حيث حاول دمج الجماعتين تحت اسم جديد هو "الدولة الإسلامية فى العراق والشام"، إلا أن الجولانى اختار الانفصال، وأعادت جبهة النصرة تأكيد ولائها لتنظيم القاعدة، ومنذ ذلك الحين، باتت النصرة وداعش تتنافسان عسكريًا على المناطق نفسها فى شمال سوريا([4])، ومن خلال فيديو تم بثه فى 28 يوليو 2016، أعلنت جبهة النصرة رسميًا انفصالها عن تنظيم القاعدة و"أى جهة خارجية أخرى"، كما غيّرت اسمها إلى هيئة تحرير الشام، وظهر قائد التنظيم "الجولاني" مكشوف الوجه لأول مرة([5]).
فى فبراير2022، اتهمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان هيئة تحرير الشام بانتهاك الحقوق والحريات الأساسية للأفراد فى جميع المناطق الواقعة تحت سيطرتها، حيث بلغ عدد القتلى منذ الإعلان عن تأسيس جبهة النصرة فى يناير 2012 ما لا يقل عن 505 مدنيين، من بينهم نحو 28 شخصًا توفوا، نتيجة التعذيب والإهمال فى الرعاية الصحية، و106 مدنيين تم إعدامهم بعد محاكمات موجزة وتعسفية، وبحسب الشبكة، لا يزال ما لا يقل عن 2,327 شخصًا، من بينهم 43 طفلًا و44 امرأة، رهن الاعتقال التعسفى أو الاختفاء القسرى على يد التنظيم([6])، وبحسب التقارير، فمنذ سيطرة تحرير الشام على الحكم فى سوريا 8 ديسمبر 2024، وصل عدد قتلى العلويين إلى ثمانية آلاف([7]).
خرائط التقسيم وتداعياتها:
تعود فكرة تقسيم الوطن العربى إلى عام 1980، مع اندلاع حرب الخليج الأولى، وذلك عقب تصريح مستشار الأمن القومى الأمريكى آنذاك، زبيجنيو بريجنسكى، الذى ألمح إلى إمكانية إعادة النظر فى اتفاقية سايكس-بيكو الموقعة عام 1916، بهدف تجنب اندلاع حرب خليجية ثانية، وقد اعتُبر هذا التصريح بمثابة ضوء أخضر للمفكر السياسى برنارد لويس، الذى عُرف بدوره المحورى فى رسم ملامح مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وفى عام 1983، صادق الكونجرس الأمريكى بالإجماع على إدراج خطة التقسيم ضمن وثائق السياسة الأمريكية المستقبلية، ولم يكن تبنى الولايات المتحدة لهذا المشروع من باب دعم إسرائيل فحسب، بل لخدمة مصالحها الاستراتيجية، وأهمها السيطرة على النفط والممرات البحرية –وفقًا لنظرية عالم الجيوبوليتيك نيكولاس سبيكمان فى كتابه"America’s Strategy in World Politics: The United States and the Balance of Power"عام 1942- ، كما استغلت الولايات المتحدة أحداث "2011" كفرصة ذهبية، لتنفيذ مخططها، الذى شهد بعض التعديلات مع تسارع التطورات فى المنطقة، وقد تحولت سوريا إلى الساحة البديلة الأنسب لاستكمال هذا المخطط بعد أن كانت لبنان مرشحة لذلك، وبناءً عليه، يمكن التنبؤ بإمكانية تقسيم سوريا إلى أربع دويلات: دولة علوية شيعية، وأخرى سنية فى منطقة حلب، وثالثة سنية حول دمشق، ورابعة للدروز فى الجولان ولبنان([8]).
( انظر كتاب برنارد لويس، ترجمة: عادل الجوجرى، سياف الشرق الأوسط ومهندس سايكس بيكو 2)
-
بينما نشرت شبكةCNNالأمريكية يوم 10 ديسمبر 2024 خريطة لسوريا عقب الإطاحة بنظام بشار الأسد.
-
ومن خلال مقارنة الخريطتين، نستنبط أن مخطط التقسيم يسابق الزمن، لإرساء دولة سورية مقسمة عدة دويلات.
سوريا بين الاستقلال والتبعية:
يرى "هانز مورجن ثاو" فى كتابه ( السياسة بين الأمم: الصراع من أجل القوة والسلام عام 1948)، أن الدولة هى الفاعل الرئيسى فى النسق الدولى، وتقوم على عناصر أساسية هى (الشعب، والإقليم، والسيادة، والاعتراف الدولي)، كما يؤكد أن الإقليم عنصر جوهري، لأنه مصدر للسلطة والصراع، بينما الشعب هو حامل المصلحة الوطنية التى تُحرّك سياسات الدولة، والسيادة عنده تعنى القدرة الفعلية على التحكم داخليًا والتصرف خارجيًا باستقلال، لا مجرد وضع قانونى، أما الاعتراف، فيراه أداة سياسية تمنح الشرعية الدولية لكنه ليس معيارًا كافيًا لوجود الدولة الواقعى. فى هذا السياق، ترى الباحثة أنه فى سياق النسق أحادى القطبية (بدأ النسق فى التراجع)، ضرورة تعديل الشرط الرابع كى يصبح "الاعتراف الأمريكي". إن صعود نظام سياسى جديد، أو الإبقاء على نظام سياسى يستلزم الاعتراف به من قوى كبرى –الولايات المتحدة حاليًا-، وبالتالى أى محاولة لرفض التدخل الأمريكى، أو محاولة مجابهة النفوذ الأمريكى يستوجب من الإدارة الأمريكية الإطاحة بالنظام، بداية من فرض حصار اقتصادى إلى تدخل عسكرى مباشر، ولذا، فالعديد من النظم السياسية تكتسب شرعيتها من ولائها لأمريكا.
وتكمُن أهمية سوريا فى موقعها الجغرافى، فهى نقطة التقاء ثلاث قارات: آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، وتشرف على الساحل الشرقى للبحر المتوسط، مما يمنحها موقعًا استراتيجيًا كممر طبيعى لطرق التجارة والطاقة، كما تحدها خمس دول رئيسية (تركيا، والعراق، والأردن، ولبنان، وفلسطين/إسرائيل)، لذا تُعد سوريا محورًا جيوسياسى بالغ الأهمية فى المنطقة، نظرًا لموقعها الاستراتيجى الذى يجعلها ملتقى لتضارب المصالح الإقليمية والدولية، حيث تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا باعتبارها ساحةً رئيسية لضبط توازن القوى، لاسيما فى مواجهة النفوذين الإيرانى والروسى، بينما ترى إسرائيل فى الساحة السورية تهديدًا محتملًا يستوجب منع أى تموضع عسكرى طويل الأمد لقوى مدعومة من طهران قرب حدودها، أما تركيا، فترتبط مصالحها فى سوريا بمسعاها، لمنع قيام كيان كردى مستقل على حدودها الجنوبية، إضافة إلى رغبتها فى الحفاظ على نفوذها فى الشمال السورى، من جانبها، تعتبر إيران سوريا حلقة أساسية فى مشروع "الهلال الشيعي"، وممرًا استراتيجيًا يربط طهران ببيروت، وبالمقابل، تنظر الصين إلى سوريا من زاوية جيواقتصادية، حيث تمثل موقعًا واعدًا ضمن مشروع "الحزام والطريق"، ومسرحًا محتملًا للاستثمارات فى البنية التحتية، فى هذا السياق، تسعى الدول العربية إلى إعادة احتواء سوريا ضمن الإطار العربى كأداة استراتيجية، للحد من النفوذ الإيرانى فى المشرق، وذلك من خلال إعادة دمجها سياسيًا واقتصاديًا فى النظام الإقليمى، بما يعزز الاستقرار ويعيد التوازن فى معادلات القوة داخل الشرق الأوسط.
وفى حالة سوريا، اكتسب الرئيس السابق " بشار الأسد" عداوة صريحة مع الولايات المتحدة، فلم يسجل منذ توليه الحكم عام 2000 حتى الإطاحة بنظامه فى ديسمبر 2024 أى لقاءات رسمية بينه وبين رئيس أمريكى، وكان توجه " الأسد" نحور روسيا وإيران، أما رئيس المرحلة الانتقالية " أحمد الشرع" التقى بالرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" فى مايو 2025 بالمملكة العربية السعودية، أى عقب مرور نحو 6 أشهر من الإطاحة بنظام الأسد، بل أعلن " الشرع" أيضًا أن روسيا دولة كبرى، لكن لن يُسمح بأن تُدار شئون سوريا من الخارج، فقد انتهى زمن الاحتلالات المقُنعة، أما إيران، فقد صرح " الشرع" خلال مقابلة مع وكالة رويترز البريطانية فى يناير 2025، بأن وجود الميليشيات الإيرانية وحزب الله كان السبب الرئيسى فى تقدم إسرائيل داخل المنطقة، موضحًا أنه منذ تحرير دمشق، لم يعد لتلك الجماعات أى حضور فعلى.
لقد نجح النظام السورى الجديد فى توطيد علاقاته الدبلوماسية مع بعض الدول، وبات اتجاهه نحو الدول العربية، كما حاز على اكتساب الشرعية الأمريكية، فقد أعلن "ترامب" عن إزالة العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وبذلك تبلورت مرحلة جديدة من الانفتاح الاقتصادى، تمثل فى مؤتمر الاستثمار السوري-السعودى 23–24 يوليو 2025 بمشاركة وزير الاستثمار السعودى "خالد الفالح"، حيث تم توقيع 47 اتفاقيّة ومذكّرة تفاهم بقيمة إجمالية تبلغ نحو 24 مليار رىال سعودى (بمعدل 6.4 مليار دولار)، ليس هذا فحسب، بل وقّعت سوريا اتفاقًا مع دولة الإمارات بقيمة 800 مليون دولار مع الشركة الإماراتية DP Worldلتطوير ميناء طرطوس، إحدى الموانئ الحيوية المطلّة على البحر، كما تعهدت قطر بـ تمويل ثقة يبلغ سبعة مليارات دولار عبر شركةUCC لتطوير بنية الطاقة والبنية التحتية فى سوريا، بالتعاون مع شركاء من تركيا والولايات المتحدة، بهدف تشغيل مشاريع كهربائية بإنتاجية تصل إلى خمسة آلاف ميغاواط، و شاركت أيضًا فى تغطية ديون سوريا للبنك الدولى (15 مليون دولار)، وتخطط الأمم المتحدة لتقديم 1.3 مليار دولار لإعادة إعمار سوريا ودعم مشاريع البنية التحتية وريادة الأعمال الرقمية، وخلال اجتماع نظمته المفوضية الأوروبية فى مارس 2025 ببروكسل، تعهد المانحون الدوليون بتقديم ما يقارب ستة مليارات يورو (6.5 مليار دولار) كمساعدات لسوريا، لتشجيع القادة الجدد على المضى نحو انتقال سياسى سلمى.
كما ذكرت بعض المصادر، أن " الشرع" التقى بمسئولين إسرائيليين أثناء زياراته لدولة الإمارات، وأفادت بوجود توجه لإلحاق سوريا باتفاقيات أبراهام 2020، لكن لا تزال معضلة الطائفة الدرزية تلقى بظلالها على العلاقات السورية-الإسرائيلية، فلم تكتفِ إسرائيل بالتوغل فى الجولان، بل إنها فى 16 يوليو2025، قصفت مقر وزارة الدفاع السورية القريبة من قصر الرئاسة بدمشق، وبررت هجماتها بأنها لحماية الطائفة الدرزية، ولم يكن هنالك أى رد فعل سورى سوى كلمة مُتلفزة لرئيس المرحلة الانتقالية فى سوريا.
بناءً على التحولات الجارية، يبدو أن دعم الدول للنظام السورى الجديد لا يرتبط بالضرورة بتحقيق مؤشرات ديمقراطية، مثل: النمو الاقتصادى، أو تنظيم انتخابات نزيهة، أو ضمان انتقال سلمى للسلطة، بل يرتكز بشكل أساسى على مدى التزام القيادة السورية الجديدة بتنفيذ السياسات والتوجهات التى تخدم مصالح الأطراف الداعمة، فبقاء "الشرع" فى موقعه القيادى مرهون باستجابته لتلك المتطلبات، فى حين أن أى انحراف عن هذا المسار قد يؤدى إلى تقويض شرعيته، أو الدفع باتجاه استبعاده، وعلى الرغم من أن سوريا تقف أمام فرصة حقيقية للتعافى بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من الصراع، إلا أن هذا التعافى سيظل محدودًا ما لم تبقَ الدولة بحاجة ماسة للدعم الخارجى، وهو ما قد يشكّل أحد أدوات النفوذ والإبقاء على التبعية ضمن النظام الإقليمى والدولى.
الهوامش: