تحليلات

"الطوق المتشظى" الإسرائيلى واستراتيجية التفكيك المتعدد الأبعاد للتهديدات الإقليمية

طباعة

فى قلب المشهد الإقليمى المتصدع تبرز استراتيجية "الطوق المتشظي" الإسرائيلية كإطار محكم لإدارة بيئة التهديد المتعددة حول حدود الدولة العبرية. هذه الاستراتيجية ليست مجرد امتداد لعقيدة الأطراف التقليدية التى حكمت تفكير النخبة الأمنية الإسرائيلية منذ منتصف القرن العشرين، بل هى تحول نوعى فى منهجية الصراع، حيث لا تواجه الجبهات كوحدات صلبة متماسكة، بل تُعاد هندستها كنقاط ضعف متناثرة قابلة للتفجير أو التجميد حسب مقتضيات المصلحة الإسرائيلية.

من فلسطين إلى لبنان، ومن سوريا إلى العراق واليمن، وصولا إلى عمق إيران، تتحرك إسرائيل وفق رؤية تستند إلى تفكيك بُنى التهديد إلى مكونات معزولة، تُدار كل واحدة بمعادلة ضغط مختلفة. تُبنى عقيدة الطوق المتشظى على قاعدة نظرية مستمدة من مفاهيم الأمن الوقائى، إدارة النزاع منخفض الشدة، وحرب المناطق الرمادية، حيث لا تُدار المواجهة من خلال الحسم العسكرى المباشر أو الردع التقليدى فقط، بل عبر تفكيك بيئة التهديد إلى جبهات مشظاة قابلة للإدارة والسيطرة دون الانزلاق إلى صراع شامل.

تنطلق هذه العقيدة من نظرية السيطرة الإقليمية عبر التفكيك التى تفيد بأن:

"أمن الدولة فى بيئة نزاع معقدة لا يتحقق بإغلاق الجبهات، بل بتحويلها إلى جزر تهديد منفصلة، متباعدة تكتيكيا، ومتنافرة استراتيجيا بحيث لا تتكامل فيما بينها لتشكيل طوق حصار أو تهديد مركب".

وترتكز العقيدة النظرية على:

·   إجهاض التكامل بين الأعداء: من خلال منع أى تحالف أو تنسيق استراتيجى قد يربط الجبهات المتعددة (مثل الجبهة الشمالية بين حزب الله، وسوريا، وإيران).

·   إدامة قابلية الاشتعال دون الانفجار: الحفاظ على الجبهات فى حالة توتر مستمر، لكنها غير قادرة على التحول إلى حرب شاملة.

·   ضرب العقد الاستراتيجية فى شبكات العدو: استهداف مراكز القيادة، والإمداد، والسيطرة التى تشكل نقاط ارتكاز لتماسك الخصوم.

·   الهندسة السيبرانية والاستخباراتية للميدان: استخدام الأدوات السيبرانية والمعلوماتية لتفكيك بُنى القيادة والسيطرة للعدو وجعلها هشة وقابلة للاختراق.

·   إنتاج بيئة استنزاف متباينة: حيث يُستنزف كل عدو على حدة، وبآلية تختلف عن استنزاف العدو الآخر، وفق خصوصياته السياسية، والجغرافية، والعسكرية.

العقيدة تفترض أن البيئة الإقليمية حول إسرائيل ليست مجالا مغلقا يمكن تطهيره من التهديدات، بل هو مجال صراعى مستدام يتطلب إدارة تناقضاته بما يحفظ ميزان القوى لصالح إسرائيل، وهذا يتطلب:

·          حروب قصيرة المدى لكنها متكررة.

·          اختراقات استخباراتية دائمة.

·          استخدام القوة الجوية كوسيلة سيطرة دون احتلال.

·          التشظية المتعمدة للأطراف الموالية لإيران وتحويلها إلى عبء عليها بدل أن تكون رصيدا استراتيجيا.

وتتجسد عقيدة الطوق المتشظى ميدانيا عبر:

·          الضربات الجراحية الاستباقية.

·          حرب الظل والعمليات السرية.

·          الحرب السيبرانية وتفكيك شبكات القيادة.

·          التلاعب بالفاعلين المحليين عبر الاختراق والتحريض والانقسام.

والهدف النهائى للعقيدة هو تحقيق بيئة إقليمية:

·          غير مستقرة بما يكفى لمنع التهديد الموحد.

·          لكنها مستقرة بما يكفى لعدم الانفجار الشامل الذى قد يُدخل إسرائيل فى استنزاف واسع.

·          وإبقاء زمام المبادرة الاستراتيجية بيد إسرائيل، سياسيا، وعسكريا، وأمنيا.

الطوق المتشظى هو منظومة عملياتية من الأزمات المتزامنة، سواء كانت عسكرية، أو استخباراتية، أو سيبرانية، أو سياسية، أو اجتماعية، تعمل مجتمعة على استنزاف خصوم إسرائيل تدريجيا، وتحويل الصراع إلى حالة دائمة من التوتر والتفكك.

هذه الاستراتيجية تمنح إسرائيل قدرة استثنائية على إدارة الصراع عبر عدة مستويات، مع إبقاء كل طرف من أطراف النزاع منشغلا بأزماته الداخلية، مما يحول دون توحيد الصفوف ضدها، ويجعل أى ردّ إسرائيلى مبررا ومتوازنا، يتيح الحفاظ على التفوق الاستراتيجى.

فى لحظة مفصلية من تاريخ الشرق الأوسط، تحديدا فى صيف 2025، تبلورت ملامح ما يمكن وصفه بـ الطوق المتشظى الإسرائيلى، كأخطر استراتيجية هندستها تل أبيب منذ عقود. هذه ليست مجرد خطة أمنية أو تكتيك عسكرى، بل هى إعادة صياغة كاملة لمفهوم الصراع فى المحيط الحيوى لإسرائيل، فبدلا من الجدار الحصين، أصبحت إسرائيل تبنى من حولها جدارا من الانفجارات والنزاعات المشتعلة تحت السيطرة. إذ لم يعد العدو واحدا يُمكن الإطباق عليه فى معركة حاسمة، بل صار شريطا من التهديدات المجزأة، كل منها ينزف بطريقته، وكلها معا لا تستطيع التشكل فى جبهة موحدة تضرب إسرائيل فى القلب.

فى فلسطين..

تُعيد إسرائيل تشكيل الجبهة الفلسطينية ضمن مفهوم التفكيك الممنهج لبُنى المقاومة، ليس عبر المواجهة المفتوحة فقط، بل عبر:

·   تحطيم وحدة الساحات الفلسطينية من خلال الحيلولة دون نشوء جبهة موحدة بين غزة، والضفة، والداخل الفلسطينى، والقدس.

·   هندسة الصراع كمساحة اشتباك متعددة المستويات من خلال مقاومة مسلحة، وحروب نفسية، واختراق اجتماعى، وسياسات اقتصادية خانقة.

ففى غزة طبقت استراتيجية "ضرب الرءوس الحاسمة" عبر استهداف القادة النوعيين فى تطوير المسيّرات، والصواريخ، والحرب السيبرانية. وفى الضفة تم استخدام تكتيك القضم الأمنى عبر عمليات الاجتياح المحدودة ذات الطابع الاستخبارى المركز (جنين ونابلس)، والتى تهدف إلى منع تكوّن بنى مقاومة مدينية صلبة. وفى القدس تم إدارة الاشتباك عبر تكتيك الاستفزاز المكانى المحسوب، من خلال التصعيد فى الأقصى، بما يستنزف الوعى الوطنى الفلسطينى ضمن دائرة ردود الأفعال الغاضبة وغير المنظمة. والهدف من ذلك هو إجهاض هندسة المقاومة التراكمية وتحويلها إلى مقاومة تجزيئية مرتبطة بالزمان والمكان الآنى، مما يُفقدها القدرة على بناء معادلة ردع موحدة ضد إسرائيل.

فى لبنان..

إسرائيل تدير مع حزب الله معادلة الردع الهجين، والتى تقوم على:

·          إبقاء الحزب فى حالة "حرب الأعصاب المستمرة".

·          استنزاف بيئته الاستراتيجية داخليا عبر الانهيار الاقتصادى للبنان.

·          إعادة تعريف قواعد الاشتباك بحيث تظل الحرب محدودة لكنها قاتلة فى تأثيرها النفسى.

وذلك من خلال ضربات انتقائية مدروسة تستهدف مراكز القيادة والتحكم فى الجنوب، والبقاع، والضاحية، باستخدام الذكاء الاصطناعى والمراقبة السيبرانية لتحديد الأهداف المتغيرة، وتكثيف الحرب السيبرانية المعلوماتية لتعطيل الاتصالات المشفرة واختراق منظومة القيادة والسيطرة للحزب، ودعم بيئة الحصار الاجتماعى للحزب عبر تعميق الانهيار المإلى والضغط بطرق غير مباشرة. والهدف من ذلك هو إبقاء الحزب فى حالة ردع مقيد، حيث يمتلك السلاح لكنه يخشى تكلفة استخدامه، خاصة فى ظل موازنة إسرائيل بين الحسم العسكرى وحرب النفس الطويل.

فى إيران..

استراتيجية إسرائيل تجاه إيران تقوم على عقيدة الاجتزاء الإقليمى المتسلسل وتحييد فعالية المجال الحيوى عبر:

·          إجهاض شبكات الوصل البرية، والجوية، والبحرية بين إيران، وسوريا، ولبنان.

·          عزل إيران عن بيئتها الوكيلة (الحشد، وحزب الله، والحوثي) عبر ضرب البنى التحتية للقيادة والسيطرة.

وذلك من خلال قصف منتظم لنقاط الارتكاز الوجيستى الإيرانى فى (دير الزور، البوكمال، تدمر، والمطارات العسكرية السورية)، واستهداف مستودعات الصواريخ الدقيقة ومراكز تطوير المسيرات المرتبطة بفيلق القدس، وتصفية العقول النخبوية فى البرنامجين النووى والصاروخى داخل العمق الإيرانى، إضافة إلى عمليات سيبرانية متقدمة تهدف إلى إحداث تعطيل استراتيجى دائم للبنية النووية ومنظومات القيادة العسكرية، وتعزيز التحالفات الأمنية مع الخليج ومصر وتثبيت حضور استخبارى إسرائيلى فى البحر الأحمر والقرن الإفريقى لمراقبة الممرات الحيوية، ودعم شبكة "الممر الآمن" عبر كردستان العراق والساحة السورية المضطربة لمنع تثبيت الممر الإيرانى البرى.

إسرائيل تضبط مسار التصعيد بحيث يبقى:

·          أقل من حدّ الحرب الشاملة التى قد تستدرج الولايات المتحدة أو روسيا.

·          أعلى من مستوى السكون الذى قد يسمح لإيران بإعادة بناء تموضعاتها الإقليمية.

والهدف من ذلك هو تجريد إيران من القدرة على صياغة تهديد مركب متعدد الجبهات، وإعادة إيران إلى حالة الانكماش الاستراتيجى داخل حدودها السيادية، وإبقاء المحيط الإقليمى لإسرائيل فى حالة لا توازن مستمر، حيث كل تهديد إيرانى يظل قابلا للإجهاض المبكر.

فى اليمن..

تُدير إسرائيل الملف اليمنى عبر استراتيجية التطويق البحرى غير المباشر، للحفاظ على:

·          أمن الملاحة فى البحر الأحمر.

·          تحييد أى تهديد صاروخى أو بحرى قد يطال إسرائيل من سواحل اليمن.

وذلك من خلال الحرب السيبرانية الاستباقية لاختراق منظومات الحوثيين البحرية والجوية بما يُعطل قدرتهم على تنفيذ هجمات فعالة، وإدارة عمليات الاستهداف البحرى عبر الحلفاء (الولايات المتحدة، التحالف الخليجي) بما يضمن بقاء إسرائيل خارج دائرة الاشتباك المباشر مع الحوثيين، وبناء قواعد استخباراتية متقدمة فى القرن الإفريقى (إريتريا وجيبوتي) لمراقبة المجال البحرى الاستراتيجى. والهدف من ذلك هو انشاء حزام دفاع بحرى متقدم، يمنع أى تهديد من اختراق العمق الإسرائيلى، مع بقاء اليمن ساحة استنزاف تُستخدم كذريعة لاستمرار التحالفات الأمنية الإسرائيلية-العربية.

فى سوريا..

فى سوريا تستند إسرائيل إلى عقيدة التفكيك الجغرافى المراقب، حيث:

·          لا يُراد إسقاط النظام، بل إبقاؤه كسلطة ضعيفة غير قادرة على ضبط الميدان.

·          إبقاء الجنوب السورى بلا سيادة أمنية، ليتحول إلى منطقة عازلة بين إسرائيل وإيران.

فى العقل الاستراتيجى الإسرائيلى باتت سوريا مجرد جغرافيا وظيفية لإيران، وإسرائيل تعرف أن حربها فى سوريا ليست حرب احتلال، بل حرب سيطرة جوية ممتدة، هدفها إجهاض أى مسعى إيرانى لتحويل الجغرافيا السورية إلى منصة تهديد فعّال. فالضربات لم تُستهدف بها القدرات العسكرية فقط بل مراكز القيادة الإيرانية المُندمجة داخل البنية الأمنية السورية، مما يؤشر إلى تحول إسرائيلى نحو استهداف شبكات السيطرة وليس فقط منصات الإطلاق أو الإمداد. إذ تم ضرب النقاط الحرجة فى سلسلة الإمداد الإيرانى الممتدة من معبر البوكمال إلى محيط دمشق والجنوب السورى، واستهداف أنظمة الدفاع الجوى السورية الحديثة التى نشرتها دمشق مؤخرا تحت إشراف روسي-إيرانى، والتى سعت إيران عبرها لإقامة مظلة تحصين لخطوطها الخلفية، وشل قدرات النقل الجوى العسكرى الإيرانى عبر قصف مستودعات ومهابط عسكرية خاصة فى التيفور والضبعة كجزء من قطع الشريان الجوى لطهران نحو المتوسط.

والهدف من ذلك هو تحويل سوريا إلى جغرافيا عمليات مفتوحة لكن بلا سيادة استراتيجية حقيقية لإيران أو النظام، وضمان أن تبقى دمشق، وحلب، ودير الزور محطات مراقبة إسرائيلية من الجو أكثر منها مدنا سيادية تحت إدارة الدولة السورية، وإحباط مشروع الممر الإيرانى نحو المتوسط عبر التدمير المتكرر للمرات الوجيستية والقدرات الدفاعية الإيرانية.

فى ضوء هذا التفكيك الاستراتيجى، تتبدى عقيدة الطوق المتشظى الإسرائيلى كأحد أكثر أنماط إدارة التهديد تطورا فى بيئة شرق أوسطية معقدة ومضطربة. إنها عقيدة لا تهدف إلى نصر عسكرى حاسم، بل إلى إنتاج حالة استدامة أمنية عبر التشظية المستمرة للخصوم، بحيث لا يتمكن أى منهم من إعادة توازن قوة مهدد للأمن الإسرائيلى.

وفى هذا السياق، لم تعد الجغرافيا المحيطة بإسرائيل مجرد ساحات معادية يُخشى اقترابها، بل تحولت بفعل هذه الاستراتيجية إلى مناطق نزاع مدارة، حيث تبقى الأطراف المتصارعة منشغلة بتناقضاتها، منهكة بحروبها الداخلية، وغير قادرة على التفرغ لصياغة تهديد موحد عابر للحدود.

ومع استمرار الديناميات الإقليمية فى التطور، يبقى التحدى الاستراتيجى الأكبر أمام إسرائيل ليس فى مواصلة تحطيم الجبهات، بل فى ضمان بقاء الفوضى تحت السيطرة، دون أن تنقلب إلى بيئة فوضى شاملة تنفلت من قدرة التقدير والسيطرة.

فالتشظى المدبر قد يحمل فى داخله بذور فوضى غير قابلة للإدارة إذا ما أخطأت إسرائيل حساباتها أو بالغت فى سياسة الإضعاف دون هندسة بدائل سياسية مستدامة.

هكذا تمارس إسرائيل فى 2025 فن التوازن بين السيطرة والفوضى، بين الحسم والتأجيل، بين الضربة الوقائية وحفظ خطوط الرجعة.. فى مسرح استراتيجى مفتوح، لا ينتج سلاما لكنه أيضا يمنع الحرب الكبرى من الاندلاع.

طباعة

    تعريف الكاتب

    أنغام عادل حبيب

    أنغام عادل حبيب

    مدرس مساعد- جامعة النهرين، العراق