فى أعقاب الهجمات الإرهابية التى شهدتها فرنسا وعدد من الدول الأوروبية خلال العقد الأخير، تسارعت التحليلات التى تربط بين التطرف العنيف والبيئات الأيديولوجية التى تغذيه. وبينما تُركّز السياسات الأمنية فى العادة على الجماعات الجهادية كداعش والقاعدة، يبرز خطر آخر أكثر خفاءً واستدامة، يتمثل فى جماعة الإخوان المسلمين، التى تعتمد استراتيجية "التمكين الناعم" والانتشار الهادئ داخل المجتمعات الأوروبية، مما يجعلها أكثر صعوبة فى الرصد والمواجهة.
هذا المقال يستعرض أبعاد هذا الخطر من خلال تحليل آليات عمل الجماعة، واستراتيجياتها، ومواقع نفوذها فى فرنسا وأوروبا، مع تقديم مقاربة لفهم التهديد الذى تمثله على المدى الطويل.
أولًا- الجذور الفكرية وأدوات التغلغل:
تأسس تنظيم الإخوان المسلمين عام 1928 فى مصر، لكنها سرعان ما تحول من حركة دعوية إلى مشروع سياسى عالمى، يتجاوز الحدود القُطرية، ويستهدف إقامة "نظام إسلامى شامل" يحكم عبر "المرجعية الإسلامية"، من خلال التدرج، والتغلغل المؤسسى، والتحكم بالبنية المجتمعية والدينية.
تمتلك الجماعة اليوم فى الخارج شبكة معقدة من المراكز والجمعيات التى تُقدم نفسها كمؤسسات اجتماعية أو دينية معتدلة، لكنها فى واقع الأمر تُكرّس خطابًا موجهًا يعزز الانغلاق الثقافى، ويُعيد إنتاج فكرة "الأمة الإسلامية" ككيان فوق الدولة القُطرية. ومن أبرز أدواتها:
المساجد والمراكز الثقافية: تُستخدم كمنابر لنشر الخطاب الإخوانى بغطاء شرعى.
الجمعيات الخيرية: التى توزع المساعدات بشروط ثقافية وأيديولوجية معينة، تكسب من خلالها الولاء والشرعية.
العمل السياسى والإعلامى: حيث تسعى إلى اختراق المجالس المحلية، وتكوين لوبيات ضغط داخل المؤسسات الديمقراطية.
ثانيًا- فرنسا كنموذج متقدم للتغلغل الإخوانى والرد الرسمى:
تُعد فرنسا من الدول الأوروبية الأكثر انخراطًا فى مواجهة الإسلام السياسى، بحكم حجم الجالية المسلمة (تُقدّر بين 5 إلى 6 ملايين) وتاريخها الطويل مع القيم العلمانية الصارمة. وقد دقّت السلطات الفرنسية ناقوس الخطر منذ سنوات تجاه النشاط الإخوانى الذى يهيئ الأرضية الفكرية للتطرف ويقوّض مبادئ الجمهورية.
أهم مظاهر النفوذ الإخوانى فى فرنسا:
1- التحكم بالخطاب الدينى فى المساجد: تسيطر الجماعة، أو تتقاطع، مع عدد كبير من الجمعيات التى تدير المساجد، مثل "اتحاد المنظمات الإسلامية فى فرنسا" (UOIF)، الذى كان يُعد الواجهة الرسمية للإخوان.
2- شبكات التمويل الأجنبية: أموال قادمة من دول خارجية تُستخدم لتمويل بناء المساجد والمراكز الإسلامية التى تتبنى خطاب الجماعة.
3- التغلغل فى البلديات والمجالس المحلية: عبر دعم مرشحين يتبنّون أجندات دينية مقنّعة ببرامج اجتماعية.
رد الفعل الفرنسى:
فى عام 2020، أطلق الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون خطة لمكافحة "الانفصالية الإسلامية"، وأقرّ قانونًا لتعزيز مبادئ الجمهورية. تضمّن القانون إجراءات صارمة، منها:
- رقابة على تمويل الجمعيات الدينية.
- زيادة الرقابة على التعليم المنزلى والمدارس الخاصة.
- تدريب الأئمة داخل فرنسا بدلًا من استقدامهم من الخارج.
- إغلاق مراكز دينية ومؤسسات يشتبه بترويجها لأيديولوجيات مناوئة لقيم الجمهورية.
ثالثًا- البعد الأوروبى.. بين التردد السياسى وصعود التيارات القومية:
رغم أن فرنسا تقود الحملة ضد نفوذ الإسلام السياسى، فإن الوضع يختلف فى باقى الدول الأوروبية. ففى ألمانيا، على سبيل المثال، لا تزال بعض الهيئات الحكومية تعتبر الإخوان "مكوّنًا إسلاميًا معتدلًا"، بينما تتعامل بريطانيا معهم كحركة سياسية مثيرة للجدل لكنها "ليست إرهابية" رسميًا.
هذا التردد ينبع من اعتبارات متعددة:
الخوف من الاتهام بالإسلاموفوبيا: حيث تحرص الحكومات الأوروبية على التمييز بين الإسلام كدين، والتيارات المتطرفة التى تتحدث باسمه.
استغلال الجماعة لقيم الديمقراطية: فالإخوان يتقنون العمل ضمن الهياكل القانونية، ويقدمون أنفسهم كمدافعين عن الحريات الدينية، مما يُصعب محاصرتهم قانونيًا.
الفراغ التمثيلى لدى مسلمى أوروبا: وُجدت الجماعة فى كثير من الأحيان كصوت منظم فى غياب بدائل تمثيلية معتدلة.
لكن فى مقابل هذا التردد، بدأت دول مثل النمسا وهولندا تتبنّى سياسات أكثر صرامة، مدفوعة بتنامى الوعى بوجود "خطر ناعم" يتمثل فى الجماعات التى تعمل على بناء مجتمعات موازية داخل الدولة، مما يهدد التماسك الاجتماعى والأمن القومى على المدى البعيد.
رابعًا- أبعاد الخطر الإخوانى على أوروبا:
1- التهديد الأيديولوجى:
لا يكمن خطر الإخوان فى العنف بحد ذاته، بل فى التمهيد له عبر خطاب يُنتج "الآخر"، ويُؤسس لعقلية الضحية التى ترى فى المجتمع الأوروبى عدوًا لقيم الإسلام. كما أن الفكر الإخوانى يعتمد على أدبيات تتسم بازدواجية فى الخطاب، حيث يُقال ما هو مطمئن للغرب، بينما يُقال غيره داخل الأوساط المغلقة.
2- إضعاف الاندماج الاجتماعى:
يشجع الخطاب الإخوانى على التمايز الثقافى، ورفض القيم الغربية باسم "الخصوصية الإسلامية"، ما يُضعف فرص الاندماج، ويؤدى إلى خلق جزر ثقافية منغلقة، بعضها يرفض حتى الاحتكاك بالمجتمع الأوسع.
3- خلق بيئة حاضنة للتطرف العنيف:
أظهرت عدة دراسات أن بعض منفذى الهجمات الإرهابية فى أوروبا مروا بمرحلة تبنى الخطاب الإخوانى قبل انتقالهم إلى مرحلة العنف. أى إن الإخوان يُمثلون أحيانًا بوابة "تمهيدية" تؤسس للميل نحو التطرف لاحقًا.
4- تهديد قيم الديمقراطية:
رغم تبنّى الإخوان للديمقراطية فى الظاهر، فإنهم يستخدمونها كأداة للوصول، وليس كقيمة.
خامسًا- مقاربة أوروبية جديدة لمواجهة الخطر:
يتطلب التصدى لخطر الإخوان مقاربة متعددة الأبعاد، تتجاوز المنطق الأمنى الضيق نحو سياسات طويلة الأجل، تشمل:
1- تحصين الفضاء الدينى والتعليمى:
- إعداد أئمة محليين متمكنين من اللغة والقيم الأوروبية.
- مراقبة المناهج التعليمية فى المدارس الدينية الخاصة.
2- تعزيز الشفافية المالية:
- فرض قواعد صارمة على تمويل الجمعيات الدينية.
- كشف الروابط بين المؤسسات الإسلامية والمنظمات الأم فى الخارج.
3- بناء بدائل تمثيلية معتدلة:
- دعم أصوات إسلامية أوروبية مستقلة فكريًا عن الإخوان أو الجماعات السلفية.
- تعزيز تمثيل المسلمين المتنورين فى المجالس المدنية والإعلام.
4- تجديد الخطاب الإعلامى والسياسى:
- التفريق بين الإسلام كدين، والتيارات الأيديولوجية التى تستغله سياسيًا.
- تجنب شيطنة المسلمين، والعمل على بناء خطاب جامع يحمى التماسك المجتمعى.
يُشكّل الإخوان المسلمون اليوم تحديًا مركبًا للدول الأوروبية، لا لكونهم جماعة إرهابية بالمعنى التقليدى، بل لأنهم يتقنون لعبة التسلل الثقافى والمؤسسى، ويعملون على تقويض قيم المجتمعات الديمقراطية من الداخل. هذا الخطر يتطلب مقاربة تتسم بالحزم ولكن أيضًا بالفطنة، تُميز بين ما هو دينى وما هو سياسى، وبين ما هو اعتقاد وما هو مشروع أيديولوجى عابر للحدود.
لقد آن الأوان لأوروبا أن تتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين كما هى، لا كما تحاول أن تقدم نفسها.