مقالات رأى

الأمن الإقليمى بين التنظير ومقتضيات الواقع..تفكيك أوهام "الخيال الاستراتيجى"

طباعة

تُطرح فى السنوات الأخيرة طروحات متزايدة من بعض المراكز البحثية والدوائر الأكاديمية التى تُعرّف نفسها بأنها صاحبة نظر وبصيرة، تدعو إلى إعادة هيكلة النظام الإقليمى فى الشرق الأوسط ضمن ما يُسمى بـ "الخيال الاستراتيجي"، وتتموضع هذه الأطروحات، لا سيما فى لحظات الأزمات، كبديل عن السياسات الفعلية التى تمارسها الدول، ومنها مصر، بحجة أن ما تمارسه الدول هو مجرد رد فعل أو تحرك محدود، بينما ما يقترحه هؤلاء هو تصور شامل، وعقلانى، وتعاونى. غير أن مثل هذه الطروحات، عند تفكيكها وفق أدوات التحليل الواقعى، لا تصمد كثيرًا أمام الحقائق الميدانية، بل تكشف عن انفصال معرفى ومنهجى عميق بين من يُنظّر من الأبراج العاجية، ومن يتحرك على أرض الواقع، وسط نيران الصراع وتوازنات القوى.
يعتمد الخطاب الأكاديمى النخبوى عادة على ثلاثة أعمدة: إضفاء الطابع المفاهيمى على الواقع، بتبنى مقاربات شاملة متعددة الأبعاد، والمبالغة فى استيراد النماذج الغربية كمقاربات قابلة للتطبيق. واللافت أن ما يُطرَح فى هذا السياق لا يعتمد على بيانات موثقة أو قراءات استخباراتية حقيقية، بل على تصورات ذهنية مسبقة يُسقطها أصحابها على المنطقة، وكأنها بيئة محايدة قابلة لإعادة التشكيل وفق المخيلة النظرية للكاتب.. هذا النهج يتغافل عن أن منطقة الشرق الأوسط لا تُدار بالأدوات الأكاديمية، بل بمنطق القوة، والمصالح، وحسابات التاريخ والجغرافيا.
فى هذا المقال، نناقش أبرز المفاهيم والمصطلحات التى يتم الترويج لها فى هذه الكتابات، ونتتبع طبيعتها المفاهيمية، ونُفكك مغالطاتها، ونسائل مدى واقعيتها، مع عرض للسياسات الفعلية التى تنتهجها مصر، بوصفها دولة إقليمية مركزية، تعمل فى ظروف بالغة التعقيد، وتُبقى على استقرارها فى بيئة شديدة الاضطراب.
من المصطلحات اللافتة التى يجرى توظيفها بغزارة: "الإطار التعاونى للأمن الإقليمي"، وهو مصطلح مشتق من الأدبيات الغربية لما بعد الحرب الباردة، خاصةً تجربة أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. هذه المقاربة تفترض وجود بيئة إقليمية مستقرة، وأن الدول الفاعلة تلتقى طوعًا على وضع هياكل مؤسسية جماعية لتنظيم أمنها، وتجاوز منطق التحالفات الصفرية. غير أن ما يُسقطه المنظّرون على الشرق الأوسط من هذا النموذج يبدو خارج السياق، بل ومنافٍ لحقائق التاريخ والجغرافيا السياسية للمنطقة. فالفواعل الأساسية فى الشرق الأوسط لا تؤمن أصلًا بهذا النوع من التعاون المؤسسى، وهى إما دول قومية تفتقد الثقة ببعضها بعضا، أو كيانات دون الدول) ميليشيات، أو قوى عقائدية، أو تنظيمات مسلحة) ترفض أصلًا منطق الدولة.
كما أن تغييب الفواعل الفوضوية عن هذا النموذج (مثل الحوثيين، والميليشيات السورية، ومجموعات المرتزقة فى غرب ليبيا) هو تجاهل فج لما يدور فعليًا. هذه القوى التى ترعاها دول كبرى وإقليمية لا تخضع لأى منطق مؤسسى، ولا تنتمى لأى نمط من أنماط التعاون الأمنى، بل تعيش وتستفيد من الفوضى، وتُسهم فى هندسة بيئة صراعية لا يمكن احتواؤها بتوصيات بحثية أو مقاربات ناعمة.
وما يغيب عن هذا التصور أيضًا هو أن مصر لا تعمل من فراغ. بل على العكس، تتحرك وفق رؤية واضحة، تعى أن المنطقة ليست ناضجة بعد لأى إطار أمنى جماعى، وأن المطلوب الآن ليس بناء أحلام، بل حماية ما تبقى من الدولة فى بيئة آخذة فى التفكك.
وتُتهم مصر أحيانًا بأنها تتحرك برد الفعل. والرد على ذلك بسيط: حين تتراكم النيران على الحدود، وتنشط خلايا الإرهاب فى الداخل، وتُفتح جبهات الفوضى من غزة إلى ليبيا إلى السودان، لا يكون الرد فعلًا عشوائيًا، بل ضرورة سيادية. فمن يُنادى بالخيال الاستراتيجى، لا يفهم – أو يتغافل – أن المطلوب أولًا هو البقاء، ثم التفكير.
مصر تُدير سياساتها الخارجية والأمنية ضمن بيئة ضاغطة. ومع ذلك، فإنها لا تنكفئ، بل تتحرك فى مسارات متعددة: من الشراكات الاقتصادية مع الخليج، إلى التعاون العسكرى مع روسيا والصين، ومن دعم التسوية فى السودان، إلى لعب دور رئيسى فى الملف الفلسطينى. هل يمكن لدولة تتحرك فى كل هذه الدوائر أن تُوصَف بأنها غائبة عن التخطيط أو أنها تفتقد الخيال؟
وعمليًا، تُسهم مصر فى أنشطة التعاون الإقليمى بشكل ملموس: تشارك فى تدريبات عسكرية، مثل "النجم الساطع" و"حماة الصداقة"، وتُطلق مشاريع طاقة تكاملية مع الأردن والعراق، وتُنشئ شبكات كهرباء تربطها بدول إفريقية، وتُطلق ممرات لوجيستية جديدة بين البحرين الأحمر والمتوسط، وتُفعّل اتفاقيات التجارة الحرة فى الكوميسا. كما شاركت مصر مؤخرًا فى مناورات "نسور الحضارة" العسكرية مع الصين، فى رسالة واضحة على تنويع الشركاء الاستراتيجيين خارج الفلك الغربى، وتأكيد على حضور عسكرى مشترك يعكس توازن المصالح العالمية الجديدة.
وتزامنًا مع هذا التوجه، انضمت مصر رسميًا إلى مجموعة بريكس، وهى خطوة ذات بُعد اقتصادى وسياسى عميق، تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار، وتوسيع هامش المناورة مع المؤسسات المالية الغربية، وتعزيز التعاون جنوب-جنوب. هذا القرار لا يمكن قراءته كمجرد تحالف اقتصادى، بل هو إعلان ضمنى بأن القاهرة تعيد رسم خطوطها الاستراتيجية بما يضمن تعددية البدائل، ويرفض الاصطفاف التقليدى.
الخلاصة أن الأمن القومى لا يُصاغ عبر مقالات أو مؤتمرات. إنه نتاج معادلات معقدة من الردع، والشرعية، والقدرة على التحرك ضمن الهامش المتاح دون كسره. الدول التى نجت من التفكيك لم تفعل ذلك لأنها تبنت أطروحات المراكز، بل لأنها عرفت متى تصمت، ومتى تتكلم، ومتى تضرب. ومصر واحدة من تلك الدول.
إن الفارق بين من يُنظّر وبين من يُدير، هو أن الأول يقترح بلا تكلفة، أما الثانى، فيُحاسب على كل قرار. وهذا بالضبط ما لا يفهمه المنظّرون.

طباعة

    تعريف الكاتب

    عمرو دغيدى

    عمرو دغيدى

    باحث فى الشأن السياسى والاستراتيجى