تحليلات

ارتدادات الداخل الأمريكى على فرص المرشحين للرئاسة

طباعة

تؤدى السياسات الداخلية للبلاد مع المتغيرات المعاصرة والمتعاقبة دورها فى التأثير فى قرارات الناخبين وبما ينعكس على فرص المرشحين، بمعنى أكثر دقة تؤدى دورها فى توجيه الرأى العام وصناعة توجهاته بل بالأحرى تشكيل أفكاره وقناعاته، ذلك أن الانتخابات الرئاسية لأى دولة تأتى فى مقدمة الاستحقاقات التى تتأثر بشكل مباشر بجميع التغيرات سواء الداخلية أو حتى الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية.

لعل الانتخابات الأمريكية كانت نموذجا ومقاربة على هذه العلاقات الطردية الناشئة بين المتغيرات والسياسات من جانب واستحقاقات الدول ومقدراتها من جانب آخر، وفى ضوء عدة متغيرات وعلى أصعدة مختلفة سواء المتغيرات الداخلية أو الخارجية، لا سيما مع بروز شخصيات عُدَّت دخيلة على المشهد السياسى الأمريكى، بل إن اجتيازها وتصدرها المشهد، جاء فى أطر هذه التشابكات التى أدت دورها جيدا فى صياغة فرص المرشحين وبروزهم على نحو أسهم بشكل أو بآخر فى تمهيد طريقهم إلى البيت الأبيض.   

تركيبة الانتخابات الأمريكية:

يعد نظام الانتخاب الأمريكى من أكثر النظم الانتخابية تعقيدا حول العالم، على عكس النظم البسيطة التى يخرج فيها المواطن أو الناخب من أجل الإدلاء بصوته بشكل مباشر، ومن ثم اختيار مرشحه، فنجد نظام الانتخاب الأمريكى مبتعدا عن هذه البساطة ومسجلا عدة خطوات وإجراءات مركبة ومعقدة.

بداية يتوجه الناخب الأمريكى من أجل التصويت، ومنح صوته لأحد الوكلاء أعضاء المجمع الانتخابى وليس لإعطاء صوته على نحو مباشر للمرشح الرئاسى، ذلك لأن الاقتراع الأمريكى فى انتخابات الرئاسة هو اقتراع عام غير مباشر، يستند إلى ما يعرف بالمجمع الانتخابى، أى مجموعة من الأعضاء، لكل ولاية عدد معين من هولاء، يتحدد طبقا لمقاعدها بالكونجرس "مجلسى النواب والشيوخ"، ولكى يتمكن المرشح الرئاسى من الفوز، لا بد من أن يحصل على الغالبية المطلقة من أصوات المجمع الانتخابى، أو ما يعرف أيضا بالهيئة الناخبة، وليس أكثرية الأصوات الشعبية فى الولايات. بمعنى آخر، إن حصول المرشح على أى عدد من الأصوات الشعبية فى الولايات المختلفة، لا يتيح له الفوز، حتى إن تجاوز منافسه محققا الأغلبية المطلقة، فالفيصل فى هذه العملية المعقدة، هو مقدار ما يحصل عليه المرشح من أصوات المجمع الانتخابى.

مفارقات عدة تمكَّن نظام الاقتراع غير المباشر فى الولايات المتحدة من إحداثها، أقربها فى انتخابات 2016، حينما تجاوزت نتائج المرشحة الديمقراطية هيلارى كلينتون نتائج الجمهورى دونالد ترامب بما يقرب من ثلاثة ملايين صوت من الأصوات الشعبية بالولايات، ومع ذلك لم تتمكن من الفوز؛ لأن ترامب تمكن من جمع أكثر من 270 صوتا من أصوات المجمع الانتخابى، أو الهيئة الناخبة اللازمة لاجتياز الماراثون الأمريكى، وكثيرا ما جاءت المطالبات من قبل البعض بضرورة تغيير هذه الآليات وهذا النظام الانتخابى، أو تعديله عبر الكونجرس أو حتى إلغاء ما يعرف بالمجمع الانتخابى، نتيجة لتعارض الرغبة الشعبية مع رغبة الهيئة الناخبة أو المجمع الانتخابى.

المشهد الداخلى:

انعكست الأوضاع الداخلية الأمريكية بشكل مباشر على تعزيز فرص المرشحين للانتخابات الرئاسية، سواء المرشح الجمهورى دونالد ترامب أو الديمقراطى جو بايدن، كون أن داخل أى دولة يعد العامل المباشر والأكثر تأثيرا فى الأفراد وتوجهاتهم إن لم يكن قناعاتهم، ولأن تحركات ترامب السياسية والإعلامية لم تنقطع منذ أن تمت إزاحته، لكن ثمة طفرة أحدثها بالأحرى على الصعيد الاقتصادى؛ حيث تراجعت معدلات البطالة فى عهده بنسبة بلغت 3.7%، أيضا ارتفع متوسط دخل الساعة إلى 3.1% على أساس سنوى وهو معدل لم يتم الوصول إليه منذ 2008، والأهم ارتفاع معدل النمو للاقتصاد الأمريكى خلال الربع الثالث من العام الحالى ليتجاوز 3.5%، وجميعها عوامل جاءت مجتمعة لتعزز موقفه، ويتمع بالمشروعية وعلى الرغم من افتقاره إلى حالة الشرعية، وعلى إثر الخلاف الدائم بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية، والذى طالما تصدره ترامب عبر مجموعة من القرارات المتشددة، تعلقت بالانسحاب من عدة من الاتفاقات الدولية، مع الإصرار على بعض القوانين المناهضة للمهاجرين وبعض الفئات الأمريكية، أيضا اتخاذ بعض الإجراءات، التي أضرت بالموازنة العامة للبلاد، وتسببت فى حالات عدة من الإغلاق الحكومى نهاية كل عام، ليختتم حقبته 2020 بسابقة ربما لم تشهدها أمريكا فى العصر الحديث، تمثلت فى أحداث اقتحام الكابيتول، ما تم رصده على المستويين الإقليمى والدولى، وعرف آنذاك بالانتكاسة الأمريكية، فضلا عن مجموعة من القضايا ما زالت تلاحقه حتى وقتنا هذا، وهددته فى أكثر من ولاية بحسب قوانين الولايات، إن كانت المتعلقة بالفساد وأحداث الكابيتول، أو الاحتفاظ بالوثائق السرية.

 فى المقابل، واجه بايدن أزمات داخلية عدة، دفعت بالبلاد إلى أوضاع اقتصادية بعينها، على إثر تداعيات كورونا وموجات التضخم العالمى، والأهم انفتاح بايدن الزائد على الأزمات العالمية، وهو ما لم يقبل به الداخل الأمريكى، حتى إن اتفق هذا الانفتاح والعقيدة الأمريكية والمتمثلة فى تبنى إسرائيل من جانب، ومن جانب آخر ريادة دولية وإقليمية، ومن ثم تراجعت شعبية بايدن وانخفضت حظوظه، لا سيما مع بروز ترامب، ولولا نضوب المشهد السياسى الأمريكى وتراجع المنافسة السياسية، مع غياب الكوادر السياسية وهو ما يضع الدولة الرائدة فى مجال الحريات السياسية فى خانة من علامات الاستفهام ما كان له أن يتصدر المشهد الديمقراطى، ويحصد الترشيح الرسمى من جانب الحزب الديمقراطى، عقب تمكنبايدن من الحصول على عدد أصوات المندوبين الكافية لضمان ترشيح الحزب له.

 وطبقا لثلاثاء الحسم أو الثلاثاء الكبير، الذى يعد المحطة الأهم فى الانتخابات الأمريكية،لحسم وتحديد مرشحى الحزبين الجمهورى والديمقراطى، فقد أجريت الانتخابات التمهيدية بأكثر من ١٥ ولاية أمريكية، أبرزها تكساس، وكاليفورنيا، وفرجينيا، أيضا الإقليم الأمريكى الوحيد الساموا، ومنه تمكن ترامب من الفوز فى 14 ولاية هى كارولينا الشمالية وفرجينيا وأوكلاهوما وتينيسى وماين وأركنساس وماساشوستس وألاباما ومينيسوتا وكولورادو وتكساس وكاليفورنيا وألاسكا، فضلا عن يوتاه، فيما نافسته نيكى هايلى التى حصدت أصوات ولاية فيرمونت.

وبينما لم ينافس أىٌّ من المرشحين الرئيس الحالى جو بايدن فى الفوز بترشيح الحزب الديمقراطى، بالانتخابات التمهيدية الجارية، حصل بايدن على ترشيح كل الولايات، فى إشارة إلى التأكيد الضمنى على مباركة الحزب الديمقراطى، لبايدن الذى يتجاوز الثمانين من العمر، وهذا من المقرر إعلان الترشيح الرسمى لترامب وبايدن من قبل حزبيهما للانتخابات الرئاسية الأمريكية، منتصف العام الجارى تحديدا يوليو وأغسطس، ذلك عقب اجتيازهما الانتخابات التمهيدية، فلا تزال ثمة ولايتان متبقيتان لم يحصد فيهما المرشحان أى أصوات أو أجريت فيهما الانتخبات التمهيدية.

المشهد الخارجى:

يبرز المشهد الخارجى بمتغيراته الإقليمية والدولية فى مقدمة المؤثرات على المرشحين وحظوظهم، لا سيما فى كيفية التعاطى والمعالجات السياسية لهذه المتغيرات، غير أن التعاطى الديمقراطى مع القضايا الخارجية وفى ظل إدارة بايدن، أسهم بشكل كبير فى انخفاض حظوظه كما أوضحنا أعلاه، غير أن تغير منهجية بايدن تجاه السياسة الخارجية جاءت مغايرة تماما عن تلك التى تم التنبؤ بها منذ قدومه 2020، خصوصا تناوله للقضايا الإقليمية وأحدثها القضية الفلسطينية.

صحيح أن بايدن حاول إحداث حالة من التوازنات بين إطلاق إسرائيل وتركها تواجه حركات المقاومة، فى إشارة ضمنية إلى مواجهة الجماعات المسلحة بالمنطقة، منعا من توريد أى من هذه الجماعات إلى داخل الولايات المتحدة، وذلك من جانب، ومن جانب آخر يرى بايدن ضرورة حفظ المفهوم التقليدى عن الولايات المتحدة على المستويين الإقليمى والدولى، ومفاده قلعة الحقوق والحريات.

 وفى النهاية، أخفق الرئيس الديمقراطى، ولم يتمكن من ضبط الإيقاع، ومن ثم مضى نتنياهو فى تنفيذ خططه العسكرية، ولم ينصع لبايدن أو حتى توجيهاته، ولأن الولايات المتحدة دولة مؤسساتية أو دولة مؤسسات، يشارك البيت الأبيض فى قراراته بقية المؤسسات الأمريكية المهمة وأهمها البنتاجون والمخابرات المركزية، والأهم أيضا الكونجرس الذى ما يزال يشرع ما يسمح بالدعم العسكرى واللوجستى لإسرائيل، لتنعكس الأمور رأسا على عقب، وينقلب جزء يذكر من الرأى العام الأمريكى على بايدن، ومن ثم ينضم المشهد الخارجى جنبا إلى جنب مع الداخل،  مشكِّلا عرقلة واضحة فى طريق بايدن إلى البيت الأبيض، أضف أيضا انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية، واحتدامه بشكل مباشر مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى خطابات وصلت إلى حد السباب وبشكل علنى على إثر تمادى أمريكى وغربى فى دعم أوكرانيا، وكلها عوامل أعادت أمريكا إلى الشرق وأقصاه، بدلا من الاهتمام بمواطنيها وبداخلها.

على النقيض، صارت سياسات ترامب، تحديدا ما يخص الخارجية منها، ومنه ارتدت إلى الداخل وتمتع الرئيس الجمهورى السابق والمثير للجدل، بقبول الأمريكيين فى وقت عد فيه بالرأسمالى والدخيل على السياسة ومقتضياتها، كونه أحدث حالة من التخارج الأمريكى من منطقة الشرق الأقصى والإقليم، سحب ترامب قواته من العراق وأفغانستان، كما سجل عددا قياسيا من الانسحابات الأمريكية من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، أبرزها المناخ وستارت، ليهدد بالانسحاب من الناتو نفسه، ووصل الأمر به أن يسوق لنفسه فى انتخابات 2024، فأعلن أنه سيتمكن من حل جميع أزمات أمريكا الخارجية؛ ففى وجهة نظره، لو كان الرئيس الحالى للبلاد، لما تمت كل هذه الحروب.

وعليه، ترتد السياسة الخارجية للمرشحين الأمريكيين وانعكاساتها بمفاهيمها الأوسع على الداخل الأمريكى وتحديدا الرأى العام وقناعاته، شأنها شأن السياسة الداخلية، ليمثل الداخل بفلسفته الكاملة اللاعب الأصيل والطرف الأهم سواء فى ارتفاع حظوظ المرشحين، أو حتى فى تراجعها.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية