مقالات رأى

نهايات غير مبهجة لعام الانتفاضات العربية

طباعة

لم يعرف العرب فى تاريخهم الحديث سنة مثقلة بالانتفاضات الشعبية ومشاريع الثورات التى لم يقدر لها أن تكتمل والتحولات التى بادرت إليها بعض الأنظمة لمخادعة الجماهير الغاضبة والعائدة إلى « الميدان» بعد طول غياب، كهذه السنة التى تطوى «عصرها» المديد مخلية الطريق أمام الآتى الذى يصعب تصوره بدقة وتحديد مساره بالضبط، وان كانت « طلائعه» لا تبشر بخير عميم.

إنها سنة ــ دهر، تقلب فيها العرب بين الزهو والغضب وخيبة الأمل، بين الاطمئنان إلى قدرتهم على مباشرة التغيير وبين عجزهم عن إتمامه وفق ما يتصورون او يطمحون اليه.

ها هم الآن يحصون الخسائر والأرباح، وقد ذهب الزهو وهبطت أثقال المسئولية على أكتاف شباب الميدان فى معظم العواصم العربية، مغربا ومشرقا، واندفعوا إلى مراجعة شاملة، قد يرى البعض فيها ترفا، ولكنها ضرورية جدا لكى يتعرفوا إلى مواقع الخلل او الخطأ، وليتجرعوا مرارة سوء التقدير وتهوين شأن الخصوم الذين طالما تبدوا أصدقاء. ليس من «نظام» الآن، على حاله قبل عام، وليس من شعب من أى من بلدان الأرض العربية مطمئا إلى غده...

بعض الأنظمة تخلت عن «رأسها» أو أنها افتدت نفسها برأس النظام (مثال مصر)...، ثم خرج «الوريث» الذى احتفظ لنفسه بالشرعية يطالب الثوار بالانصراف لأن الثورة قد انتصرت، وجاء وقت العمل والإنتاج لتعويض ما خسرته البلاد نتيجة للفوضى... ملمحا إلى ان شباب الميدان يتحملون مسئولية هذه الخسائر الفادحة!. ثم إن «الميدان» قد بات، مع الانتخابات، ميدانين، احدهما يتخذ أكثر فأكثر صورة «المشاغبين» مدمرى المنشآت الحيوية ومعالم الرقى فى مصر، كمكتبة المجمع العلمى التى تكاد تكون اخطر ما يشهد على سبق مصر إلى الحضارة المعاصرة واحترامها التراث الإنسانى وحرصها على كنوز التقدم العلمى.

وهكذا فإن المرحلة الانتقالية فى مصر لم تنته بانتصار الميدان الذى شكل ظاهرة تشهد لشعب مصر إيمانه بالديمقراطية، والحرص على سلمية الثورة، والرقى الحضارى فى تسليمه بنتائج الانتخابات التى اختلستها الأحزاب القديمة ذات الشعار الإسلامى المنظمة والمنضبطة حديديا منذ أجيال، والغنية بما يتجاوز قدراته، او تلك التى جاءت من الجاهلية المموهة بحجاب أو لحية كثة وبدع ليست من الإسلام فى شىء، لكنها «عصرية» التنظيم، ثم إنها غنية لأن لها فى الخارج من هم أغنى من داعمى الإخوان وأعظم ثراء...
ومؤكد ان معركة الميدان لم تنته، وان كان التقدير ان شبابه الذين عاشوا لحظات الزهو بالقدرة على فرض التغيير قد انتبهوا إلى أنهم لم يكونوا يملكون برنامجا موحدا ينقلون به مصر من حالة التسليم بالطغيان إلى إسقاطه فى الميدان، تمهيدا للاندفاع ــ عبر مرحلة انتقالية محددة ومحدودة الوقت ــ نحو «النظام الموعود» الذى طالما تحدثوا عنه بأفصح الكلمات لكنهم لم يعرفوا كيف يتقدمون نحوه... خصوصا وإنهم آتون من مناخات مختلفة، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، ولم توفر لهم ظروف المرحلة الانتقالية الهدأة المطلوبة لتوحيد الرؤية.

السؤال الآن: إلى اين من هنا؟ فشباب الميدان يعرفون ان معركتهم لم تنته، وانهم سيواجهون نظاما غير الذى كان هدف نضالهم. و«المنتصرون» أصحاب خبرة، ثم ان لهم شبكة من العلاقات العربية والدولية التى تحصنهم وتساعد على حماية انتصارهم الانتخابى الذى سيشكل استثمارا مجزيا فى جهات أخرى من الوطن العربى.

ولعل غياب البعد العربى عن حركة شباب الميدان وفر لخصومهم الإسلاميين الفرصة لطمس موضوع الصراع ــ العربى الإسرائيلى، كقضية وطنية مصيرية، مما أغرى السلفيين بالاندفاع إلى حد مغازلة إسرائيل وليس طمأنتها فحسب.

ومع أن تونس تبقى دولة هامشية، فإن السقوط السهل لطاغيتها الجبان الذى تتحكم بقراراته أطماع زوجته وبطانة السوء قد وفر للمعارضة التاريخية فرصة التقدم برعاية غربية ملحوظة. وإذا كان من الظلم اتهام إسلاميى تونس بأنهم أمريكيون فالمؤكد أنهم ليسوا ــ فى نظر واشنطن كما فى مسلكهم ــ فى صفوف من تعتبرهم أعداءها. ولعل هذا الواقع بين ما سهل نقل السلطة من نظام سىء السمعة ومكروه شعبيا إلى نظام عصرى بواجهة إسلامية معتدلة سياسيا فى موقفها من الغرب عموما وأمريكا خصوصا.. مع التنبه دائما إلى «خصوصية» العلاقة، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، بين تونس ومستعمرها القديم فرنسا.

أما ليبيا فليس من المبالغة القول ان ما جرى فيها كان «مؤامرة« لعبت فيها الجامعة العربية دور المحلل الشرعى للتدخل الدولى. وبغض النظر عن طغيان معمر القذافى وأبنائه وأعوانه فإن ما وقع فى ليبيا من مذابح سيكون لها ما بعدها فى القريب: وليس من باب التخوف أن يشار إلى أن ثمة حربا أهلية تتوالى فصولها فى هذه الدولة العربية التى لم يكن يهم الغرب منها الا استمرار تدفق نفطها إليه.. أما وقد ضمن هذا المطلوب فلن يبذل أى جهد لمنع الاقتتال بين الجهات بقبائلها وجيوشها التى يكاد يستحيل توحيدها...

ويفرض التزامن على الأقل التوقف أمام ما حدث للسودان من تقسيم مر بهدوء عربى (وإسلامى) شامل، مع وعى الجميع أن جنوب السودان سيكون مستعمرة إسرائيلية، بالمعنى الحرفى للكلمة. وها هو رئيس هذه الدولة الوليدة يزور إسرائيل ليجهر باعترافه بفضلها على استيلاد هذا الكيان الذى حدوده من رمال وقبائل يصعب اعتبار أفرادها «مواطنين» فى أية دولة من دول وسط أفريقيا.

لقد افتدى نظام البشير وجوده عبر الاعتراف بتقسيم السودان وقيام « دولة « مستقلة عن الشمال فى جنوبه، أملا بأن يحظى بالرضا الأمريكى وبتدفق أموال النفط العربى على الخرطوم... وهو ماض فى «البازار» حتى النهاية، لا يهتم إلا لدوامه حاكما أبديا للسودان الذى ما زال مهددا بمزيد من العمليات الانفصالية التى قد تشمل شرقه وغربه، مستبقيا لهذا الحاكم الذى يرفع ــ بدوره ــ الشعار الإسلامى، الخرطوم وضواحيها فى الشمال.

أما فى المشرق، فإن الأزمة الدموية فى سوريا لم تجد، حتى اليوم، مدخلا إلى حل يحفظ وحدة البلاد ذات التاريخ والدور القومى العظيم.. فلا نظامها يطرح، جديا ودفعة واحدة، برنامجه للإصلاح الذى كثيرا ما تحدث عنه ووعد بإطلاقه، وجل ما أصدره من قرارات حتى اليوم تظل جزئية وتعالج هوامش المشكلة وليس جذورها... ثم إن استمرار الدم فى التدفق، عبر المواجهات المسلحة التى تتزايد ضراوتها ومساحة ميادينها، وانسداد آفاق التسوية السياسية، اقله بالسرعة المطلوبة، كل ذلك يطرح مخاطر من طبيعة فوق او تحت سياسية: فالمواجهة المفتوحة تطرح المسألة الطائفية والمذهبية، كبند رئيسى على أى مشروع للحل قد يقدم.

وجديد ان يسمع الحديث بتعابير طائفية بل وعنصرية فى سوريا التى كانت تتبدى دائما كالبنيان المرصوص، لا اثر للطائفية او العنصرية او الجهوية فيها. وفى صفوف المعارضة من يطالب بحقوق للأقليات، كالأكراد والآشوريين والتركمان، فضلا عن العرب، مع ضرورة استعادة السنة مركز القيادة، بوصفهم الأكثرية الساحقة من أهل بلاد الشام، مع توفير الضمانات الكافية لطمأنة العلويين والمسيحيين والدروز والإسماعيليين وصولا إلى اليزيديين!.

ثم ان احتدام الأزمة السياسية فى العراق، والذى بلغ ذروته متزامنا مع انسحاب آخر جندى من قوات الاحتلال الامريكى الذى امتد لتسع سنوات، يعيد طرح المسألة الطائفية، خصوصا وان القرار المباغت للمالكى والذى لا تفسير مقنعا له بتقديم نائبه إلى المحاكمة بتهمة التآمر لاغتياله، ثم لجوء هذا الشريك « السنى» الأبرز فى الحكم إلى مشروع الدولة الكردية فى الشمال، قد أضاف المزيد من التعقيدات على الوضع المأزوم اصلا فى العراق..

وطبيعى أن يستولد هذا القرار ردات فعل ذى طبيعة مذهبية، وان يعتبر كثرة من العراقيين ان القرار بمحاكمة نائب الرئيس إنما يستهدف حصتهم فى حكم العراق، وان يضفوا عليه طابع « الاحتكار الشيعى» للسلطة، وان يرفعوا أصواتهم ــ مجددا ــ مطالبين بتقسيم العراق إلى « أقاليم» لمن يمثلون « المذهب» لا الوطن ودولته المتصدعة والمهددة بمزيد من التفسخ...

تبقى اليمن.. ومسلسلها لم تنته فصوله، وحاكمها الداهية اختار « منفاه» فى واشنطن، ربما فى انتظار ان يستدعيه الورثة المختلفون على جنة السلطة بينما هم فى جحيم الاقتتال الأهلى..

إن الصورة مع نهاية العام الأول لميدان الثورة ليست مشرقة.. وبديهى ان إسقاط أنظمة الطغيان التى استمرت فى السلطة عقودا طويلة لا يعنى ــ وبصورة آلية ــ انتصار الثورة. بل إن هذا السقوط السريع قد يعقد مهمة الثوار الذين لم يستعدوا كفاية لهذا النصر الذى باغتهم بتوقيته.

ويظل الأمل فى مصر، فهى الرائدة... وهى ضمانة التغيير المنشود فى سائر أنحاء الوطن العربى بمغربه ومشرقه جميعا.

---------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية، الأربعاء 28 ديسمبر 2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    طلال سلمان