مقالات رأى

الانتخابات فى الزمن الصعب

طباعة

لو أراد أحد أن يصف البيئة التى لا ينبغى أن تُجرىَ فيها أى انتخابات، لما وجد خيرا من البيئة المصرية قبيل يوم الثامن والعشرين من نوفمبر، فقد كانت هذه البيئة معادية بالمعنى الحرفى للكلمة لانتظام العملية الانتخابية. وطن يودع ثلاثة وأربعين شهيدا من أبنائه ويفقد العشرات منهم نور عيونهم فبدلا من أن يُعلِن الحداد العام وينكس العلم يبادر مسئولوه بالتأكيد على أن الانتخابات سوف تُجرى فى موعدها وكأن الذى حدث وقع فى بلاد واق الواق. مقر السلطة التنفيذية يحاصره شبان غاضبون يمنعون الدخول إلى مبنى مجلس الوزراء أو الخروج منه ويلجأ الموظفون إلى استخدام النوافذ لمغادرة مكاتبهم، ومع ذلك يتكرر التنويه عن حماية الجيش والشرطة مقار اللجان الانتخابية وتأمينها. البوصلة فى ميدان التحرير تؤشر حينا لمقاطعة الانتخابات وحينا آخر للمشاركة فيها، ولا أحد يلتفت إلى تذبذب البوصلة. ارتباك على أعلى مستوى فى الإجراءات الخاصة بالتصويت كما حدث مثلا مع تصويت المغتربين الذى تغير الرأى فيه أربع مرات من اشتراط الذهاب إلى القنصلية المصرية إلى السماح بالتصويت عبر البريد إلى العودة لاشتراط التصويت فى القنصلية وأخيرا الاستقرار على فكرة البريد. وارتباك آخر على مستوى من يحق لهم المشاركة فى العملية الانتخابية كما حدث مع الحكمين القضائيين الشهيرين لمحكمتى المنصورة والإدارية العليا بخصوص الأعضاء السابقين فى الحزب الوطنى. وارتباك حتى على مستوى المعلومات الأولية الخاصة بعملية الاقتراع حتى لتجد متخصصين كبارا فى الشأن الانتخابى يطمئنون الناخبين على صواب اختيار اثنين من المرشحين عن الفئات فى دوائر النظام الفردى فيما تجد متخصصين آخرين لا يقلون شأنا ولا حيثية يؤكدون أن عدم اختيار مرشح عن العمال يبطل صوت الناخب. هذا طبعا دون الحديث عن مفاجأت اللحظات الأخيرة كمفاجأة تغيير مقر لجنتك الانتخابية الفرعية وهو أمر قد تكتشفه بالصدفة، أو مفاجأة تغيير رقمك فى الكشف أو رقم المرشح الذى تنوى التصويت له، أو مفاجأة التصويت على يومين مع كل المخاوف من التلاعب بالصناديق. ومع ذلك يتصرف المسئولون وكأن كل شئ معروف ومستقر.

إن شئت تلخيص الحال عشية الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية سأقول لك إنه كان حالا لا أمن فيه ولا معلومات بل وحتى لا أمل يرجى منه عند من لا ينتمون للحزب الوطنى ونظامه ومن ليس خيارهم الدولة الدينية بطبعتيها الإخوانية والسلفية ما دام الحديث صباح مساء عن فوز كبير متوقع للفلول والإسلاميين، فلماذا التصويت إذن ؟. على صعيد آخر، فإننى لست متأكدة تماما من أن المسئولين الذين تشبثوا بتوقيت الانتخابات كانوا جادين فعلا فى مشاركة شعبية حقيقية، ومن بين عديد من المؤشرات ذات الصلة أتوقف عند مؤشرين : المؤشر الأول أن الإعلام الرسمى لم يخصص مساحة للأحزاب والقوائم المختلفة كى تعرض أفكارها وبرامجها بينما وللمفارقة فإن النظام السابق فعل ذلك، صحيح بعدم تكافؤ واضح بين حصة الحزب الوطنى وحصص باقى الأحزاب، لكنه فى القليل فعل. والمؤشر الثانى أن الدولة لم تعلن يوم الانتخابات إجازة رسمية مدفوعة الأجر لموظفيها رغم أنه لا أكثر من إجازاتنا الرسمية، وبالتالى فإن المواطن الذى يعمل فى مدينة الإسكندرية على سبيل المثال بينما يقع مقر لجنته الانتخابية فى القاهرة أو كفر الشيخ كان أمامه اختياران، إما التغيب عن العمل والسفر للتصويت فى القاهرة، وإما الذهاب لعمله والتفريط فى حقه الانتخابى. لقد كان يمكن مواجهة هذا الموقف بوسائل أخرى طالما تمسكت الدولة «بانتظام العمل» كما فى إجراء الانتخابات يومى الجمعة والسبت اللذين تعطل فيهما المصالح الحكومية.

ومع كل ذلك ورغما عنه نزل المصريون للمشاركة، وأنا هنا لا أتحدث عن المحسوبين على التيارات السياسية المختلفة، ولا عن المشاركين خوفا من دفع غرامة الامتناع عن التصويت، لكننى أتحدث عن قطاعات واسعة من المصريين ممن لا ينخرطون فى أحزاب ولا يحملون صفة « ناشطين سياسيين « وربما يستمدون معارفهم السياسية من برامج التوك شو فى الفضائيات، لكنهم رأوا أن صمتهم قبل الثورة لم يعد مقبولا بعدها، وهكذا شاهدنا للمرة الثانية بعد استفتاء مارس الشهير ظاهرة الطوابير الانتخابية، وهذا أمر يدعو للإعجاب بتصميم هذا الشعب. عندما اتخذتُ مكانى فى طابور النساء فى إحدى مدارس مصر الجديدة وعقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحا، كانت تصطف أمامى ما بين عشرين وثلاثين فتاة وسيدة جئن متدثرات بثياب شتوية ثقيلة تصد برودة الساعات الأولى من الصباح. تأبط بعضهن مقاعد مطوية استعدادا لانتظار قد يطول، وأمسكت أخريات بصحف الصباح وطفقن يقرأنها ويتبادلنها، أما أكثر المشاهد تأثيرا فكان لأمهات شابات لم يدرين ما يفعلن بصغارهن وبعضهم لم يتجاوز عمره شهورا قليلة، فجئن بهم إلى مقر اللجنة الانتخابية. عندما يكبر هؤلاء الصغار ستحدثهم أمهاتهم عن أنهن تحدين ظروفا كثيرة صعبة ليكون لهن سهم بسيط فى بناء الوطن، وأنهن قاومن مشاعر القلق والإحباط وحضرن أملا فى مستقبل أفضل.علا صوت شابة وهى تصد يد مناصر أحد الأحزاب الممدودة إليها بمطوية انتخابية دعائية للحزب. وطافت أخرى تنبه الجميع إلى التأكد من ختم استمارتى التصويت وعدم الاكتفاء بتوقيع القاضى، فما من شئ مضمون فى هذه الأيام. وتطوعت اثنتان كى تكونا مندوبتين فى إحدى اللجان الفرعية التى تغيب فيها مندوبو المرشحين. فى أوقات الأزمات يفرز المجتمع المدنى تلقائيا قادته الطبيعيين، وإصرار الناخبات على الإدلاء بأصواتهن وحماية هذه الأصوات شئ يدعو حقا للفخر. لن يتمكن أحد من جر نساء مصر إلى الوراء، لن يتمكن أحد أبدا.

تأخر فتح أبواب اللجان الفرعية إلى التاسعة والنصف فسمح ذلك بتأمل غابة اللافتات الانتخابية التى تحاصر مقرنا الانتخابى من كل اتجاه.لافتات لأشخاص لا تعرفهم اضطر بعضهم لكتابة سيرته الذاتية أو مؤهلاته العلمية بشكل مختصر لتجسير الفجوة مع الناخب وإثبات جدارته بالمقعد، وهكذا تقرأ أن فلانا «حاصل على ماجستير علوم سياسية « أو « حامل ليسانس الشريعة والقانون»، أو « عضو اللجنة السياسية بنقابة المحامين». وشعارات تضغط بقوة على معنى الثورة والتغيير، ولذلك تقرأ « كرامتى صنعتها الثورة «، و« بداية جديدة لمصر جديدة»، و« الثورة شرارة التغيير.. والتغيير الحقيقى يبدأ من مجلس الشعب». ورموز تفنن أصحابها فى ربطها بمضمون له معنى، فيقول أحدهم إنه « ترس فى عجلة التطوير «، ويقول آخر إنه « مظلة للكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية «. وبين الوجوه الشاخصة إليك تجد قلة من المرشحات لكن العدد على محدوديته هو فى هذه الظروف شديدة الصعوبة يعد إنجازا بكل معنى الكلمة. علمتُ لاحقا أن ثمانى نساء ترشحن للمقاعد الفردية ثم انسحبت إحداهن فصرن سبعا، هذا عدا مرشحات القوائم الستة عشر فى الدائرة.

 عندما غمستُ سبابتى اليمنى فى السائل الأرجوانى وانصرفت كان يملأنى شعور بأننى أديت عملا متواضعا لهذا الوطن، وأننى مثل كل امرأة فى طابور النساء الطويل أمام المدرسة أحب أن أرى لعملى مغزى وقيمة وهذا لا يكون إلا حين يذهب صوتى إلى من اخترته بإرادتى الحرة. فإلى كل من حشرنا فى نفق الانتخابات فى هذا الظرف العصيب فتحملناه وعبرنا، وإلى كل من أهاج مخاوفنا فتحدينا انفلات الأمن وصوتنا، إلى أولئك وهؤلاء نقول إن أحدا لن يجرؤ على اغتصاب إرادتنا مرة أخرى، فإذا كان التصويت هو المهمة التى أديناها فإن التحقيق فى وقائع التزوير بالجملة فى مختلف أنحاء مصر هو مسئولية على الدولة أن تتحملها.

-------------------------
* نقلا عن الشروق المصرية الخميس 1/12/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد محمد بن سميط