مقالات رأى

الصراع على الشرق بين... «هلالين» ؟

طباعة

بات واضحاً أن «هلالاً اخوانياً» يتشكل في شمال أفريقيا، من المغرب إلى مصر مروراً بتونس وليبيا. وليس أمام الجزائر أن تفعل سوى ما تفعله اليوم من مغازلة جيرانها، خصوصاً الرباط وطرابلس، إلى الاستعداد ربما لما قد تفرزه انتخاباتها البرلمانية المتوقعة الربيع المقبل. لعل هذه الانتخابات تحمل ربيعاً لحركاتها الاسلامية إذا عرفت كيف توحد صفوفها. وبات للبساط الاسلامي الممتد من شاطىء الأطلسي حتى ساحل البحر الأحمر هلاله الذي يغطي نحو ثلثي سكان العالم العربي. أنظمة جديدة ستنشأ، وهوية بلدان ستتغير عاجلاً أم آجلاً.

ومهما تغنت القوى الإقليمية والدولية بدورها في مواكبة قطار التغيير أو في إعطاء دفعات لتسريعه، فإن التغيير فرض ويفرض على هذه القوى التحرك سريعاً وإعادة النظر في استراتيجياتها. بل هو أحدث خللاً كبيراً في معظم الاستراتيجيات الخاصة بـ»الشرق الأوسط الكبير». الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة وأوروبا سارع إلى التعامل مع الحراك العربي من منطلق الدعم بمختلف أشكاله. هذه دول انحازت إلى قوى التغيير، من منطلق الحفاظ على مصالحها الحيوية. وسعياً إلى دور فاعل في رسم صورة الأنظمة الجديدة التي ستحدد بدورها شكل النظام الإقليمي، السياسي والاقتصادي والأمني. في حين اختارت روسيا ومعها الصين أن تعاندا هذا التيار الجامح لأسباب عدة لها علاقة بداخل كل من هذين البلدين وشبكة مصالحهما الحيوية وعلاقاتهما مع الخارج، في الاقليم وفي الساحة الدولية عموماً. ومهما قيل في مدى تأثير دور هذه القوى في الحراك العربي، فإن التحديات التي يطرحها التغيير عليها، واضح في الصراع الدائر على المنطقة وربطه بالصراع الأوسع في مناطق أخرى من العالم.

وفي حين تعلن الولايات المتحدة بوضوح أن التغيير في سورية سيوجه ضربة قاصمة لإيران، فإن هذه اعتبرت ولا تزال أن الربيع العربي أربك الولايات المتحدة وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل. وأن النظم الاسلامية الناشئة لن تكون مطواعة في يد واشنطن كما كانت حال أنظمة حسني مبارك ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي. وترى إلى دورها ونفوذها يتناميان في المنطقة. يكفي القلق الذي ينتاب تل أبيب من فوز «الأخوان» والسلفيين في مصر، وقلقها إزاء تغيير محتمل في سورية سيكشف حدودها الشمالية على شتى الاحتمالات. ويكفي تقويم حركة «حماس»، حليفة طهران، لتقدم الاسلاميين في مصر وعدد من الدول العربية. تعتقد بأن هذا التقدم «سيكون ظهيراً وداعماً للقضية الفلسطينية واستعادة حقيقية للعمق العربي والاسلامي».

إن نظرة حيادية إلى مسرح المنطقة تظهر بوضوح أن الحراك العربي فاجأ اللاعبين الإقليميين أيضاً وليس الدوليين وحدهم. وأصاب سياساتهم أيضاً بخلل استراتيجي لا بد من أخذه في الاعتبار. تركيا مثلاً التي بنت كل سياستها على قاعدة «صفر مشاكل» مع دول الإقليم تجد نفسها أمام مشاكل تقوض أساسات هذه السياسة. فالأبواب مغلقة مع إسرائيل. كما أن الربيع العربي أحدث شرخاً كبيراً بينها وبين إيران على خلفية موقف أنقرة من الأزمة السورية، ثم على خلفية نشرها شبكة الرادارات في إطار الدرع الصاروخية لحلف «الناتو» في أراضيها لمواجهة الترسانة الصاروخية الإيرانية. والجدل قائم بين البلدين. ولا تخفي طهران تهديداتها العلنية بأنها ستستهدف هذه الشبكة إذا تعرضت لهجوم إسرائيلي أو أميركي. كما أنها تكرر تحذيراتها لأنقرة من التمادي في الضغط على نظام الرئيس بشار الأسد.

تركيا تعيد النظر في سياساتها. وبقدر ما ترتاح إلى التغييرات في كل من تونس ومصر وليبيا وحتى المغرب، تستعجل التغيير في سورية الذي تريده على شاكلة سابقاته. يريحها وصول «الأخوان» لأنه يعيد إليها مفاتيح هذه البوابة الكبيرة لإنخراطها السياسي والاقتصادي في بلاد الشام و»هلالها» الخصيب برمته. وهو ما يقلق إيران التي تخشى سقوط «هلالها» إذا انتهى النظام في دمشق إلى ما انتهى إليه غيره في بلدان عربية أخرى.

لذلك ربما من المبكر أن تزعم إيران أنها تجني الكثير من الربيع العربي، لمجرد أن ترى إلى وصول الإسلاميين في مصر وتونس وليبيا ضربة لواشنطن وحليفتها تل أبيب. صحيح أن هؤلاء الإسلاميين غازلوا الجمهورية الإسلامية طويلاً عندما كانوا يتعرضون لبطش أنظمتهم. لكنهم يعلنون اليوم أن نموذجهم هو الإسلام التركي وليس الإيراني. كما أن وقوفهم إلى جانب الحراك في سورية هو وقوف في مواجهة إيران الداعم الأكبر لنظام الرئيس الأسد. في المحصلة لن يكون هذا «الهلال الإخواني» مكملاً للهلال الإيراني. بل قد يكون بديلاً منه حتى في المشرق العربي... إذا قيض للمعارضة السورية النجاح، وإذا فتحت الإصلاحات والانتخابات في الأردن الطريق أمام «أخوان» المملكة الهاشمية.

هذا الخلل الاستراتيجي أهال التراب على النظام العربي الذي كان يترنح، قبل الحراك، على وقع التنافس الإيراني - التركي - الإسرائيلي. وتضافرت تداعيات الحراك العربي مع التحديات التي فرضها التمدد الإيراني في دفع مجلس التعاون الخليجي إلى أخذ زمام المبادرة في المنطقة كلها. خالف المجلس ما كان سائداً قبل الحراك واحتدام المواجهة حول الملف النووي الإيراني، وهو أن هذا المجلس يسير في اتجاه بناء وحدة تبعده، إن لم تخرجه من دائرة جامعة الدول العربية، وهموم المشرق والمغرب العربيين. سارعت الدول الخليجية الست إلى سياسة «هجومية» طموحة. لم تكتف بشبكة علاقات مع العديد من الدول الكبرى ومع تركيا وباكستان التي شكلت تاريخياً ظهيراً لها وربطت أمن الخليج بأمنها. شقت طريقاً خاصاً بها: نادت الأردن والمغرب إلى عضوية التعاون الخليجي. وحركت قواتها لحماية البحرين، فهي لم تهضم بعد ما تعتبره خسائر فادحة، من وقوع العراق تحت العباءة الإيرانية، إلى لحاق لبنان به ثم سورية. وخرجت إلى صنعاء لترتيب انتقال السلطة. وتقدمت قبل ذلك المجتمع الدولي في معركة اسقاط النظام الليبي. وهي اليوم تقود مسيرة حل الأزمة في سورية لإخراجها من فلك «الهلال الإيراني» إذا كان لا بد من تصحيح الخلل الذي أحدثه دخول العراق في قلب هذا الهلال.

قبل الحراك العربي، راهن كثيرون مع تنامي القدرات العسكرية لإيران وتوسع نفوذها واحتدام الصراع على ملفها النووي، على أن دول الخليج لا بد من أن تلجأ في نهاية المطاف إلى سياسة تلبي رغبات واشنطن وتسهل لإسرائيل مطامعها في التسوية مع الفلسطينيين. كأنما كانت الرغبة الغربية الدفينة أن تتولى تل أبيب نشر مظلتها النووية في مواجهة الترسانة الصاروخية والنووية للجمهورية الاسلامية. أو في أحسن الأحوال أن تسلم الدول الست القياد لتركيا. ولكن بدا من تطور الأزمات من ليبيا إلى اليمن وسورية، أن هذه الدول سعت وتسعى إلى الخروج من دوامة الصراعات على المنطقة: سواء بين طهران وأنقرة أو بين طهران وتل أبيب أو بين أنقرة وتل أبيب أو بين الغرب وإيران، أو بين الولايات المتحدة وروسيا والصين. لذلك تقدمت بمبادرات ومواقف وسياسات لمواكبة عواصف التغيير الحالية. وحملت دول الجامعة على مواكبة استراتيجيتها الجديدة، مثلما حملت الدوائر الدولية على دعم مبادراتها.

خلاصة القول ان مجلس التعاون و»جامعته» باتا على المسرح مع باقي اللاعبين. ويظل من المبكر أن يستريح هؤلاء اللاعبون، أو أن يختفوا خلف الستارة، في ضوء ما قد تحمله تداعيات «الهلال الإخواني» في شمال أفريقيا، ومآلات التغيير في اليمن وسورية، وما قد تحمل من مفاجآت بؤر التوتر في مجلس التعاون وعلى تخومه وفي قلب «الهلال الإيراني»، من العراق إلى لبنان.

لن يكون سهلاً على إيران أن تستعيد الدور التاريخي الأول الذي كان نظام الشاه يلعبه على مستوى الخليج والشرق الأوسط، فضلاً عن آسيا الوسطى. ولن يكون سهلاً على تركيا أن تشكل بديلاً للنظام العربي الذي بدأ يتشكل. ولن يكون بمقدور القوى الكبرى أن تبرم صفقاتها بالسهولة التي كانت لها أيام الأنظمة البائدة، من دون أن يعني ذلك أن التغيير سيطيح غداً بمصالحها وعلاقاتها. إنه وقت للانتظار: «أخوان» شمال أفريقيا من المغرب إلى مصر أمام امتحان الحكم بمتاعبه السياسية والاقتصادية والأمنية وشبكة علاقاته الاقليمية والدولية المعقدة. امتحان أين منه الجلوس في كرسي المعارضة أو في الساحات والشوارع لإرضاء الناس بالشعارات واللافتات! امتحان أين منه سبل التعامل مع «الهلال الإيراني» والالحاح التركي نفوذاً ونموذجاً!

--------------------------------------

* نقلا عن الحياة اللندنية الإثنين 5/12/2011.

طباعة

    تعريف الكاتب

    سيرجي غورييف وآليه تسيفنسكي

    سيرجي غورييف وآليه تسيفنسكي

    سيرجي غورييف عميد الكلية الاقتصادية الجديدة في موسكو . وآليه تسيفنسكي أستاذ الاقتصاد في جامعة ييل والمقال ينشر بترتيب مع “بروجيكت سنديكيت”