مقالات رأى

تحسين النسل بين الاستثمار والسيطرة

طباعة

بدأ تحسين النسل من خلال ممارسات قديمة استمرت بهدف تحسين سلالات الإنسان والحيوان والنبات، وقد تشابك ذلك مع أفكار تدعو للحد من تزايد سكان الكوكب، لتلتقط عائلات الرأسمالية ذلك الفكر مجالا لاستثماراتها، لتختلط أفكار تحسين النسل مع الرغبة فى التأثير والربح الفاحش.

فتحسين النسل هاجس شغل الناس عبر التاريخ، وطموح يسعى إليه الكثيرون، ففى العصر الجاهلى انتشر نكاح الاستبضاع بأن يدفع الرجل زوجته إلى آخر من أصحاب المزايا كالقوة، أو الحكمة، أو الفروسية حتى تحمل منه ثم تعود إلى زوجها الذى يُنسب إليه الطفل لتحسين نسله، إلا أن الإسلام قد حرَّم ذلك، ودعا المسلمين إلى طرق مشروعة لتحسين النسل باختيار الزوجة ذات المنبت الصالح، وفى الحديث الشريف قال صلى الله عليه وسلم "تخيروا لنُطفكم فإن العرق دساس". وقد شهدت أفكار تحسين النسل تطورا كبيرا بمساهمات من أفلاطون، وتشارلز داروين، وفرانسيس جالتون، وغيرهم من العلماء، حيث ظهرت محاولات تحليل الميراث الوراثى رياضيا، ومنحت روما للبطارقة حق نبذ الرضيع إذا قدروا أنه غير قادر على العيش، ومع اعتبار داروين أن الانتقاء الطبيعى هو الآلية المنظمة لتحسين النسل، رأى فرانسيس جالتون أن المجتمعات التى تقدم الحماية للمرضى والضعفاء تدفع المجتمع إلى مسار الضعف، وأنه يتعين ترك المجتمع يتخلص من الضعفاء تلقائيا.

وإذا كان تحسين النسل قد بدأ بممارسات لتطوير السلالات البشرية، إلا أن توماس مالتوس تناول ذلك من خلال منظور كمى بدأ من اعتباره أن السكان يتزايدون بشكل مُتوالية هندسية (32،16،8،4،2) بينما الإنتاج يزيد بشكل متوالية حسابية (5،4،3،2،1)ما دفع مالتوس للمطالبة بتحسين النسل عن طريق ترك الضعفاء يواجهون الفناء دون مساندة، وخلق صعوبات أمام الراغبين فى الزواج، بحيث يقتصر الإنجاب على القادرين ما يترتب عليه البقاء للقادرين مع خفض معدلات الزيادة بصورة تناسب الموارد. وقد تأثرت عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة بتلك الأفكار وتفاعلت معها، لينتج عن كل ذلك خلط بين اعتبارات تحسين النسل، والعقيدة،وتحقيق الربح، فى ظل معايير انتقاء منها ما هو غير عادل كلون البشرة، أو العرق، أو الفقر.

وقد رصد العقيد عمرو عمار هذا التفاعل فى كتابه "المالتوسية، والنازيون الجدد" الذى استهله بعرض نبذة عن تكوين عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة كعائلاتروتشيلد، وروكفلير، وجى بى مورجان، وكارينجى، وبرات، ويتنى، وفلاجلر، وهاركنيس، ودو بونت وغيرها. حيث تشترك تلك العائلات فى كونها تأسست فى تعاصر زمنى بنهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، من خلال مؤسسين أهمهم ماير روتشيلد الذى عاش خلال الفترة (1744-1812) وجون بيربونت مورجان الذى عاش خلال الفترة (1837-1913) وجون دافيسون روكفيلر الذى عاش خلال الفترة (1839-1937)، وتشارلز برات الذى عاش خلال الفترة (1830-1891). ومع الظهور المتعاصر لتلك العائلات نجد أنها استمرت عبر أجيالها فى ريادة كبريات الأعمال لاسيما فى مجالات صناعات المصارف والبورصات، واستخراج وتكرير ونقل النفط، والفحم، والصلب، والنحاس، وتكرير منتجات الذرة، والسكك الحديدية، والكيماويات، والصناعات العسكرية، والكمبيوتر، والاتصالات، والزراعة، والدواء، والتبغ، وغيرها من الاستثمارات الكبرى. لم يكن الطريق ممهدا أمام نجاح أجيال تلك العائلات ولكنها واجهت الكثير من الصعاب التى تجاوزتها بصورة أو بأخرى لتستمر وتتشابك مصالحها مع بعضها بعضا فى الوقت الذى لم تدم فيه استثمارات الآخرين طويلا، ما جعلهم مؤهلين للتشبع بعقيدةالانتقاء الطبيعى، وأنهم يمتلكون جينات خاصة تؤهلهم للاستمرار دون غيرهم، وأن أفكار تحسين النسل والسيطرة على خصائصه وأعداده هى المسار الأفضل للبشرية. ومع ثراء تلك العائلات فقد كان دعمهم لمؤسسات تحسين النسل عاملا أساسيا فى استمراريتها وتوسع تأثيرها.

 وقد استعرض عمرو عمار فى مؤلفه تكوين تلك المؤسسات ومنها إنشاء جالتون الجمعية البريطانية لتعليم تحسين النسل عام 1907 برئاسة ليونارد نجل تشارلز داروين، وتأسيس تشارلز دافنبورت قسما متخصصا لتحسين النسل فى معهد كارينجى بواشنطن، ثم تأسيس مكتب تحسين النسل (ERO) عام 1910 فى جزيرة لونج أيلاند بنيويورك، وهو المكتب الذى باشر أبحاث تحسين الصفات الطبيعية والجسدية والعقلية والمزاجية للأسر البشريةبدعم من معهد كارينجى، وجون رى روكفلر الثانى، وجون اتش كليوج، وآخرين إلى أن تم إغلاقه عام 1939، وبحلول عام 1921 تم إنشاء الجمعية الأمريكية لعلم تحسين النسل بعضوية عدد من كبار ممثلى عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة منهم جون روكفلر الثانى، ومارى هاريمان، وجى بى موجان جونيور الابن، ومارى ديوك، وكلارنس جامبل، وقد أسست الجمعية فرعا لها فى بريطانيا عام 1924، كما ضمت شخصيات بارزة كجون ماينارد كينز، وآرثر جيمس بلفور، واللورد جيمس روتشيلد، وعالم البيولوجيا جوليان هكسيلى. ومع نبل أهداف مؤسسات تحسين النسل فإن عمرو عمار يرى أنها قد انحرفت عن مسارها وتحولت مهمتها إلى إكساب الشرعية لممارسات فاسدة كمنع الأفراد غير اللائقين من إنجاب الأطفال بوسائل مختلفة، ووصلت إلى استخدام القتل الرحيم لمن تظهر بهم سمات غير مرغوب فيها، كما مثلت أبحاث تلك المؤسسات الغطاء الأخلاقى لعمليات التعقيم القسرى خاصة بين الفقراء والمعاقين، والخارجين عن القانون وفقا لمعايير تتسم بالمغالطة وعدم العدالة. وكان من تأثير تلك المؤسسات أن تم خلال الثلاثينيات من القرن الماضى تعرض مئات الآلاف للتعقيم القسرى، وقتل الأطفال المعاقين، وتسريب الغاز القاتل على الآلاف من رواد دور المسنين والمؤسسات العقلية بغرض القتل الرحيم.

ومع قناعة عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة بأفكار مؤسسات تحسين النسل فإنها لم تهتم كثيرا بتطرف نتائج أبحاثها وتعرض بعض الخاضعين لها للوفاة، بقدر ما اهتمت بكون تلك الأفكار يمكن أن تفتح أمامها مسارات ريادة جديدة لاستثمارات هائلة الأرباح وسلطة نافذة على مقدرات سكان العالم، فبعد أن تمكنت من السيطرة على قطاع النفط المربح الذى مكَّنها من التأثير فى حكومات العالم، انتقلت إلى مجال الغذاء الذى يمكنها من تحقيق الربح والسيطرة على الشعوب، بغطاء وتنظير منفكر مالتوس، حيث ضخت استثمارات هائلة فى مجال الزراعة مكَّنها من احتكار إنتاج البذور الهجينة، والأسمدة النيتروجينية، وآلات الزراعة الحديثة. وقد نجحت تلك الاستثمارات بالفعل فى زيادة الإنتاج الزراعى، ولكنها أضرت بالتربة وأجبرت الفلاحين على شراء البذور سنويا من الشركات المالكة لحقوق إنتاجها، وذهبت الأرباح إلى شركات عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة ومن يرتبط بها، بينما تتناول تلك العائلات الغذاء الأورجنك الذى لا ينتج من بذورهم وأسمدتهم.

وقد ظهرت الكثير من الدراسات التى تؤكد خطورة البذور المعدلة وراثيا، والكثير من المبيدات حتى التى حصلت على إجازات من المؤسسات المختصة بإجراءات مشكوك فيها، ولكن ذلك لم يمنع الشركات من تطوير منتجاتها الزراعية أو يحد من نجاحها فى الحصول على التراخيص اللازمة لاستخدام منتجاتها فى ظل ارتفاع مُتنام للطلب على محاصيل الزراعة. والقضية هنا ليست فقط فى الزراعة ولكنها تتجاوزها لتصل إلى الصحة مع اتجاه شركات الأدوية المملوكة لعائلات الرأسمالية العالمية الحديثة لآلية اللقاحات التى يتم توزيعها على كل سكان الأرض للوقاية من الأمراض عليها خصما من آلية العلاج للمصابين فقط فى خطوة تحقق أرباحا هائلة للشركات التى تحتفظ بأسرارها البحثية، وهو ما بدا واضحا خلال مواجهة فيروس كورونا الذى تم التعامل معه من خلال لقاحات مثيرة للجدل تم إعدادها فى عجالة وسبَّب بعضها الوفاة لعدد من الحالات، فضلا عن توزيع اللقاحات المتنوعة على الأطفال فى كل دول العالم التى تنجح حينا وتفشل فى حين آخر.

 وينتهى عمرو عمار فى كتابه إلى اعتبار أن ظاهرة الاحتباس الحرارى وما يرتبط بها من تحول أخضر سيرتب الحد من إنتاج الغذاء العالمى الذى انخفض بالفعل ارتباطا بتداعيات فيروس كورونا والحرب الأوكرانية بما يخلق مزيدا من الصعوبات التى تواجه البشرية فى مجال حفاظها على الحق فى الحياة، فضلا عن التحكم فى المجتمعات من خلال الرقمنة وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعى التى تخضع لسيطرة عائلات الرأسمالية الحديثة.

وفى قراءة للمشهد نجد أن كتاب "المالتوسية، والنازيون الجُدد" للعميد عمرو عمار هو بمنزلة جرس إنذار ودعوة للتعامل مع خطوات متسارعة تستبق بها عائلات الرأسمالية الحديثة العالم وتجذبه إلى مناطق تحافظ فيها على مكتسباتها، وتعزز قدرتها على قيادة مسار الإنسانية بغطاء وتنظير من أفكار مالتوس وفريقه من العلماء حتى لو كان الثمن خلق المزيد من المعاناة للبشرية.

ولكن بالعودة إلى فكر مالتوس الذى طرحه فى كتابه "مبادئ السكان" عام 1798 نجد أنه رصد الفارق الكبير بين معدل زيادة السكان ومعدل أقل لإنتاج الغذاء، ودعا إلى ترك المجاعات والأوبئة تقوم بدورها فى تصحيح أعداد السكان، مع القيام بتدخلات إيجابية تحد من زيادة السكان كعدم زيادة الرواتب، وعدم مساندة الفقراء، ووضع عوائق أمام الزواج المبكر، وتشجيع منع الحمل، ثم قام مالتوس بالتخفيف من مقترحاته فى الطبعة الثانية من هذا الكتاب عام 1803 بتقرير فكرة "الضوابط الأخلاقية" التى تدفع نحو عدم التدخل فى أسباب الوفيات، والتركيز على متغير خفض المواليد. وقد أنكر الكثير من كبار الاقتصاديين فكر مالتوس كليا، كما أن الواقع قد تجاوزه، فمع صحة اتجاه سكان العالم نحو الزيادة حيث ارتفع من نحو 1,7 مليار نسمة عندما طرح مالتوس أفكاره إلى نحو 8 مليارات نسمة بنهاية 2022 نجد أن العالم قد عاش فترات متفاوتة من توافر الغذاء وندرته ارتباطابمتغيرات متنوعة مثل تغير حجم الإنتاج من موسم لآخر، ومدى استخدام المحاصيل فى إنتاج الوقود الحيوى، ومدى ضخ استثمارات فى القطاع الزراعى، وغيرها من المتغيرات التى لا تعد زيادة السكان إلا واحدا منها فقط. ولكن دائما ما يتم استدعاء أفكار مالتوس عندما تحدث أزمات غذاء عالمية، مثل تلك التى حدثت فى سبعينيات القرن الماضى بعد أن ارتفعت أسعار الغذاء بشدة وربطها من أطلق عليهم المالتسيون الجدد بزيادة معدلات المواليد وارتفاع نسبة الطلب بما لا يناسب المعروض من الطعام.

والواقع أن مرحلة السبعينيات بصورة عامة قد شهدت تراجع نجاحات الاشتراكية فى الشرق، وتآكل النموذج الكينزى فى الغرب، ما دفع نحو بروز دور الليبراليين الجدد مع تولى مارجريت تاتشر حكم بريطانيا، ورونالد ريجان حكم الولايات المتحدة الأمريكية، وفى ظل نموذج نيوليبرالى عادت عائلات الرأسمالية إلى الواجهة بعد أن تجاوزت ما واجهها من تحديات خلال فترة سيادة الفكر الكينزى لتقود الاقتصاد العالمى وتضخ استثمارات هائلة فى القطاع الزراعى نتج عنها ما أطلق عليه الثورة الخضراء لزيادة المعروض من الغذاء، وكذا تم الدفع نحو سياسات ضبط زيادة السكانى لتخفيف الطلب على الغذاء، وقد نجحت بالفعل ابتكارات الثورة الخضراء فى زيادة الإنتاج الزراعى، ولكن لم تحقق سياسات ضبط أعداد السكان أو تحسين خصائصهم نجاحات مؤثرة. ولا يمكن تصور أن ما قامت به عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة مرتبط بعقيدة مالتوسية بقدر ما هو اتخاذ أفكار مالتوس كإطار علمى لتنظير توجهات عدها هى الأفضل للبشرية، ولا يمكن (من حيث المبدأ) انتقاد تنظيمات عائلات الرأسمالية العالمية فى تصديها لتحديات مستقبل سكان العالم، أو قيامها بأبحاث (ربما يكون لها ضحايا) تستهدف بها زيادة إنتاج الغذاء أو التعامل مع أعداد وخصائص السكان، كما أنه يمكن تفهم استهدافها للربح، وتوجيه السلوك العام نحو عالم يضمن استمراريتها، والمؤكد أن ضبط وتحسين النسل عند تلك التنظيمات هو مجال للاستثمار والسيطرة على تفاعلات الانتخاب الطبيعى بما يضمن لها البقاء أكثر من كونه عقيدة فكرية، وهى لا تواجه منافسين حقيقيين يقدمون بديلا أفضل للبشرية.

والقضية هنا تكمن فى كون العالم لا يمكنه الاستغناء عن استثمارات تلك العائلات فى المجالات الإنتاجية بمعناها الواسع دون وجود بديل، وإلا لكان الحال أسوأ، ما يخلق حتمية تعامل الدول مع ذلك الواقع مع التركيز على دعمها لروابطها الوطنية، والعمل على امتلاك التكنولوجيا وتطوير التعليم القادر على صناعة علماء وطنيين بمستوى قادر على التعامل مع المستجدات الحديثة بصورة تضمن سيادة الدول الوطنية وتؤسس لقدرتها على اتخاذ القرار وتقويم مسار عائلات الرأسمالية الحديثة إذا انحرفت عن التوجه العادل.

وفى مصر ومع انفتاحها على الخارج منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى وتعاونها مع الكثير من كيانات عائلات الرأسمالية العالمية الحديثة فى العديد من القطاعات بما فيها قطاع الزراعة وتنظيم الأسرة، يمكن رصد واقع استمرار عدد السكان فى التزايد المستمر، وارتفاع متوسط عمر المصريين، كما يمكن رصد زيادة فى إنتاجية الكثير من المحاصيل ارتباطا باستخدام آليات الثورة الخضراء مع عدم وجود ما يقطع بأن مرضا ما انتشر فى مصر بسبب بذور أو مبيدات معينة مع إمكانية قبول أن استعمال أو تناول أى شىء مهما كان، يمكن أن تكون له أعراض جانبية قد تزداد خطورتها عند البعض، بينما حصلت تلك الشركات على الكثير من الأرباح عن تعاونها مع مصر.

ومع استمرار القيود العالمية لانتقال البشر بين الدول نجد أن هناك تشوها فى توازن عناصر الإنتاج بمصر يستلزم وجود برنامج وطنى لتحسين النسل من خلال إجراءات، مثل إنشاء قاعدة بيانات صحية للمواطنين وتقديم مساعدات طبية وقائية للمقبلين على الزواج فضلا عن تقديم محفزات للضبط الكمى للسكان، وكذلك زيادة الإنتاج بمفهومه الشامل بما فيه الإنتاج الزراعى، ومع امتلاك شركات عائلات الرأسمالية الحديثة للتكنولوجيا المتطورة تتقرر حتمية التعاون مع تلك الشركات على أن يواكب ذلك تعزيز قدرات الدولة الوطنية، والعمل على تطوير التعليم والبحث العلمى بصورة ترفع الرصيد المصرى من العلماء والتكنولوجيين الوطنيين المهرة الذين يجيدون التعامل الفنى مع الشركات الأجنبية ويدعمون صانع القرار بما يحتاج إليه من معلومات وبدائل تتيح الوصول إلى أفضل نماذج التعاون العادل الذى يحقق تعاونا دوليا بضوابط وطنية عادلة.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د.وليد عبد الرحيم جاب الله

    د.وليد عبد الرحيم جاب الله

    خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع