مقالات رأى

البابا وعقد من الرصانة والاتزان

طباعة

بينما نتابع عن كثب العملية الروحية لاختيار "بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية"، وما صاحبها من إجراءات مكثفة شديدة التعقيد، ومن ثم، القرعة الهيكلية والاختيار السماوى البحت، دارت الأفكار وامتلأت العقول بالعديد من التساؤلات التقليدية: من القادم؟ من يملك تكملة الطريق؟ من لديه القدرة على القيادة فى هذه الأوقات شديدة الحساسية وربما الجوهرية من عمر البلاد؟ والأهم من يجيد الإمساك بالخيط الرفيع بين السياسة والوطنية، أهم متطلبات المرحلة آنذاك؟ بل الأكثر من بيديه حفظ الكنيسة عند نقطة الاتزان؟!

ومنذ أقل من عشرة أعوام حيث العيد الأول لتجليس البطريرك، وفى أجواء غابت عنها الاحتفالات، وتحت عنوان، إلى منتهى الأعوام يا سيدنا، كتبت عن قداسة "البابا تاوضروس"، "المختار من الآب والمعين من الابن والمؤيد أيضا بالروح القدس".وعلى الرغم من التخصص الدقيق فى السياسة والعلاقات الدولية، والابتعاد عن الملف القبطى بحكم التكليفات الصحفية وغيرها، فإن الغيرة الروحية فقط هى ما حملتنى على المتابعة الدقيقة للبابا تاوضروس وسياساته، وهو ما ساعدنى كثيرا فى المعارك الكلامية التى خضتها مع المتحاملين على قداسته، لكن وبغض النظر عن هؤلاء أتطرق إلى مجال حديثنا الأهم فى هذه السطور...

لن أزايد على ما قيل ونُشر، بل وُثق عن وطنية بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، سواء التى برزت فى مواقفه الواضحة تجاه أعتى الأزمات، أو حتى حينما تم النيل من قداسته ومقره، أو كيف صمد بكنيسته مع من صمدوا وراء مصر ولم يهتز، ووقتها تجلت الكنيسة ضمن أبرز المؤسسات الداعمة للبلاد.

لكن فقط أسلط الضوء على حالة الرصانة الكاملة، بل نقطة الاتزان التى تمكن "البابا تاوضروس"من حفظ الكنيسة عندها، حينما أجاد الإمساك بهذا الخيط الرفيع بين الوطنية والسياسة، بين الاقتراب من المشاركة والابتعاد عن الإقحام، بين الانفتاح وفى الوقت نفسه الانكفاء على الداخل، بين خدمة الوطن ورعاية الكنيسة، ففى الوقت الذى أسرع قداسته إلى تلبية الدعوة والمؤازرة مع الانخراط، انعكف أيضا على الداخل مهتما ومهموما بكنيسته وأحوالها.

رصانة البابا التى انعكست واضحة على الكنيسة وفى تحركاتها، تجلت منذ اللحظات الأولى لمجيئه وحينما تواترت عليه اللقاءات التلفزيونية، والحوارات الصحفية، وتكالبت الأسئلة الثقيلة وغير المقبولة، ليجاوب البابا ولم يمتنع عن أى منها، وعندما اتهموا الكنيسة بالانصياع للأنظمة القديمة، وبالرغم من أن الأمر لم يكن فى عهده، خرجت الإجابات القوية والمتزنة فى تصريحاته، متسائلا: من كان يملك وقتها المعارضة؟! ليعملنا كيف تكون المواجهة وكيف تأتى الردود.

جاء البابا منظما لم يكن عشوائيا أو حتى ترك الأمور لتلقاء نفسها، بل أقام اللوائح والقوانين، ووضع الهياكل التنظيمية والإدارية،حرص أيضا على الانعقاد الدورى للمجمع المقدس، والأهم اللقاءات المكثفة مع الأساقفة والآباء من كل الأقطار، ومن ثم أعاد قداسته تشكيل البيت، وكله بموجب التشريعات والدراسات المُعدة مسبقا.

تظل الروحيات مع القيم الأساس فى شخصية البابا وقناعاته، الرعاية مع الإرشاد، التعليم مع التوجيه، النصح مع المراجعة، ورغم الحكمة والرصانة، فإن المشاعر والعواطف كثيرا ما تحكم تحركات قداسته، ولا أدل من قبوله الخطاة ومنحهم الفرص، وحينما هرول إلى قداسته، أحد المهرطقين معلنا توبته، وعلى الرغم من أن الأمر كان يتطلب انعقاد المجمع، فإن البابا لم يتردد وأعلن قبوله، مانحا إياه الفرصة بل الحياة من جديد.

وإبان العيد العاشر، يصدر لنا بابا الكنيسة، القيم فى مجموعات، حيث تمكن من جمع ثلاثية رائعة لخصتها كلمة قداسته "الوفاء.. الطاعة..الاتضاع"، الوفاء حينما تذكر المتنيح البابا "شنودة الثالث"، ومن هنا جاءت تسمية الاحتفالية، من جيل إلى جيل، وفى مؤشر على عظمة الطاعة أشار إلى كلمة حاضر، كونها مريحة، وهو نفسه البابا تاوضروس كثيرا ما يعتمدها فى أحاديثه، أخيرا يوضح البابا أهمية الاعتراف بالخطأ ليعلن لنا قوة الاتضاع، يسعده النجاح كثيرا، وتستوقفه غلاظة القلوب.

دارس وممتهن لعلوم الصيدلة، صيدلى، على دراية بأصول الترجمة، مطلع وقارئ للأدب وتحديدا الروسى، مراسل للعديد من المجلات الدولية والأجنبية، يعرف جيدا كيف تكون المسئولية والالتزام، ما منعه من ترك أمه وأخته قبل ذهابه إلى الدير، ولم يذهب إلا بعدما اطمأن ورتب أحوال أسرته أولا، فى وقت كان فيه البعض فى تنفيذ أصم للوصية.

منظومة من القيم يملكها بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، حدَّثتنا عنها أفعاله وسياساته، فى تقديرى المتواضع أن المتحاملين عليه لم يفكروا فى التواصل معه، فهذه العقلية من السهل جدا الانفتاح عليها والتحاور معها ومن ثم الوصول إلى التفاهمات المرجوة، ويكفيه أن بابه مفتوح.

طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرينى سعيد

    إيرينى سعيد

    صحفية وكاتبة مصرية - ماجستير العلوم السياسية