تحليلات - شرق أوسط

تصاعد التوترات فى العراق بين إنتاج الحلول وتفاقم الأزمات

طباعة

بعد مرور عشرة أشهر على الانتخابات العراقية، أدى الخلاف الشيعي الداخلي بين التيار الصدري والإطار التنسيقي إلى اندلاع الأعمال الاحتجاجية، ما نتج عنه أن إعلان الزعيم الشيعي مقتدى الصدر اعتزاله العمل السياسي بصورة نهائية بعدما وصلت الأوضاع السياسية الداخلية إلى حالة من الجمود السياسي وانسداد قنوات الاتصال والحوار بين القوى السياسية العراقية بمختلف اتجاهاتها، وهو ما أسفر عن إعلان السلطات العراقية، في 29 أغسطس 2022، فرض حظر تجوال شامل في جميع أنحاء البلاد، بعد أن اقتحم العشرات من أنصار الصدر القصر الرئاسي، وهو مبنى داخل المنطقة الخضراء المحصنة ببغداد. دعت قيادة العمليات المشتركة المتظاهرين إلى الانسحاب الفوري من داخل المنطقة الخضراء بهدف السيطرة على الأوضاع المتفاقمة ومنع تدفق المتظاهرين الجدد. ومن ثم أنهى مقتدى الصدر، أمس الثلاثاء، «انتفاضة» تياره، وسحب أنصارَه من داخل المنطقة الخضراء خلال 60 دقيقة. وقال الصدر، في خطاب متلفز من النجف، إنَّ «العراق كان يعاني من الفساد، وبات (بعد أحداث الخضراء) يعاني من الفساد والعنف»، مشيراً إلى أنَّه «كان يعارض الميليشيات الوقحة، ولن يرضى أن يكون التيار الصدري مثلها». وفور انتهاء الخطاب، انسحب أنصاره من المنطقة الخضراء، ورفعوا خيم الاعتصام التي كانت تحاصر مبنى البرلمان منذ أسابيع، فيما بدت عليهم علامات الصدمة والخيبة. وفي الأثناء أعلن الجيش انتهاء المظاهر المسلحة في بغداد وقرر رفع حظر التجول. وأشاد مسؤولون حكوميون وسياسيون بموقف الصدر، إذ دعا رئيس الجمهورية برهم صالح «الإطار» إلى التواصل معه وبحث إمكانية الانتخابات المبكرة التي يطالب بها. بدوره، قال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إنَّ موقف الصدر «يحمل الجميع مسؤولية أخلاقية ووطنية».

 وفيما يلي أبرز متغيرات المشهد العراقي الجديد:

1- تفاقم التنافس بين قوى الإطار التنسيقى والتيار الصدرى: يشهد العراق انسدادًا سياسيًا، منذ إجراء الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021 بسبب التجاذب بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، خاصة أن كليهما يمتلك نقاط قوة مختلفة. على سبيل المثال، يستند التيار الصدري إلى ولاء قاعدة شعبية كبيرة من العراقيين، كما نجح الصدر في استمالة الشباب والمواطنين العراقيين غير المنتمين لتيارات سياسية بسبب رفضه لنظام المحاصصة وانتشار الفساد ورفضه التدخل الخارجي في الشئون العراقية، كما يمثل التيار الصدري كتلة كبيرة في الشارع العراقي، ويشير إلى ذلك فوزه بأكبر كتلة في الانتخابات التشريعية في أكتوبر 2021، قبل أن يستقيل نوابه من البرلمان في ظل خلافات حول تشكيل الحكومة الجديدة.

على الناحية الأخرى، تستند قوى الإطار التنسيقي على شبكة من تحالفات قوى المال والسلاح، وهذا التحالف الذي نجح ترغيبًا وترهيبًا في السيطرة على قوى الدولة العميقة، بالإضافة إلى تصاعد قوته بعد انسحاب الصدريين من البرلمان في يونيو 2022 وتعويضهم بنواب عززوا من الشرعية البرلمانية للإطار التنسيقي.

وبالتالي، يحاول كل طرف الاستحواذ والسيطرة على الحكومة بما يتناسب مع أجندته بعد أن فشلت الدعوات لإمكانية تشكيل حكومة الجديدة، ويمكن إرجاع هذا الأمر إلى أن أصل الخلافات السياسية بينهما بسبب تسمية مرشح رئاسة الوزراء، وتشكيل الحكومة المقبلة؛ حيث ترى الكتلة الصدرية أنها صاحبة الأحقية في تشكيل حكومة أغلبية وطنية، في حين تسعى قوى الإطار بالضغط لتشكيل حكومة توافقية، وأن تحصل كل الأطراف الشيعية على مناصب وزارية وفقًا إلى قاعدة المحاصصة السياسية، التي تأسست على ضوئها الحكومات العراقية منذ عام 2003، وهو ما نتج عنه انغلاق سياسي استمر طويلًا دون جدوى أو حل.

2- تراجع دور الشباب: كشفت حالة الانسداد السياسي العراقي وتفاقم الأوضاع الداخلية عن تراجع دور القوى الشبابية وتصاعد دور القوى السياسية التقليدية في التأثير على مجريات الأوضاع الداخلية. وعلى الرغم من ذلك، فإن العودة مجددًا إلى ما يعرف بشرعية الشارع يمكن أن يمنح زخمًا كبيرًا للتيار الصدري بعد أن انقطع التواصل بينه وبين شباب ثورة أكتوبر 2019، وذلك لحشد المواطنين والأصوات الصامتة تجاه دعم هذه المطالب.

3- سياسة النفس الطويل: كشفت تحركات التيار الصدري بداية من انسحاب أعضائه من البرلمان، ثم الاعتصام أمامه، والاعتصام أمام القصر الجمهوري على توجه جديد يتمثل في اتباع سياسة النفس الطويل في مواجهة قوى الإطار التنسيقي، ومحاولة الضغط الشعبي عليه لتمرير أهدافه.

وقد عمل الصدر منذ اتجاهه نحو التصعيد غير الرسمي على طرح مجموعة من المطالب، من أهمها تخلي الأحزاب عن المناصب التي يستحوذون عليها، وحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وتفعيل مادة العزل السياسي لكل من شارك في تولي المناصب العامة منذ عام 2003، وهو ما يعني أن الصدر يمارس ضغوطًا شعبية لاستمالة الشارع العراقي لإعادة إنتاج نظام سياسي جديد يستوعب المطالب الشعبية ويعبر عن إرادتهم، مستغلا بذلك نقطة الضعف الرئيسية التي يعاني منها الإطار، والتي تتمثل في بعدهم وعدائهم للجمهور العراقي.

4- الفراغ الحكومي: أدى الجمود السياسي بين التيار الصدري ومنافسيه من الإطار التنسيقي الشيعي المقربين من القوى الإقليمية إلى دخول العراق في أطول فترة بدون حكومة، خاصة أن هناك خلافا بينهما حول شكل الحكومة الجديدة. فالتيار الصدري يرغب في تشكيل حكومة أغلبية وطنية لتتمتع بهامش استقلالية كبير نسبيًا في صنع القرار السياسي وتنفيذه، بعيدًا عن حسابات المصالح الداخلية والخارجية التي تفرضها حالة وجود حكومة توافقية التي يدعمها الإطار التنسيقي، وهو ما ترتب عليه قيام حكومة مصطفى الكاظمي بإدارة شئون البلاد ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة.

وضمن سياق متصل، ساهم الانسداد السياسي الذي تشهده البلاد في تعطيل كثير من الإجراءات التي يحتاج إليها العراق لمواجهة أزماته الداخلية؛ حيث لا توجد ميزانية لعام 2022، وهو ما قاد إلى تعليق الإنفاق على مشاريع البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها وتنفيذ إصلاحات اقتصادية. كما أن استمرار هذا الوضع يؤدي إلى تفاقم نقص الخدمات والوظائف حتى مع حصول البلد الغني بالنفط على دخل نفطي قياسي بسبب ارتفاع أسعار النفط الخام.

5- تصاعد التدخلات من قبل القوى الإقليمية: بعد تراجع النسب التي حصلت عليها قوى الإطار التنسيقي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، تسعى القوى الإقليمية إلى استعادة حضورها وتمكين الموالين لها في العراق من السيطرة على مقاليد السلطة التنفيذية والتشريعية، خاصة أنه بعد انسحاب الصدر أصبح لدى الحلفاء السياسيين لها في العراق اليد العليا. ومن ثم، فإن ترك الديمقراطية الناشئة في العراق من دون دعم سيؤدي في النهاية إلى انتكاسة التجربة الجديدة، وتقويض فرص إقامة نظام سياسي قادر على التعامل مع مشكلات العراق الداخلية والخارجية. وتصعيد قوى أخرى لا تعبر عن مطالب واحتياجات الشارع العراقي، وأنه في حال انسحاب الصدر بصورة كاملة من المشهد الداخلي العراقي فسيصبح ذلك فرصة ذهبية لإعادة تشكيل حكومة جديدة موالية للقوى الإقليمية المتدخلة؛ حيث حاول حلفاؤها تأخير تشكيل الحكومة وهددوا بإسقاطها حال تشكيلها، وبالتالي لم يكن العراق مستعدًا لتشكيل حكومة تلتزم بتقليص الدور السلبي الذي تؤديه الميليشيات المدعومة من القوى الإقليمية.

6- إمكانية اندلاع حرب أهلية: عرف العراق منذ الاحتلال الأمريكي له عام 2003 كثيرا من الأزمات المتداخلة والمركبة داخليًا وخارجيًا، ولكن السمة الرئيسية التي برزت على خلفية الأحداث الأخيرة تتمثل في احتمالية المواجهة المباشرة بين القوى السياسية المختلفة فالاحتجاجات والانقسامات سمة مميزة للشارع العراقي بسبب الجمود والانسداد السياسي، ولكن قد يتطور الأمر إلى المواجهة العسكرية المسلحة بين هذه القوى لنكون أمام صورة أخرى من إعادة إنتاج الأزمات بصورة أكثر تعقيدًا ودموية بسبب إمكانية حدوث صراع شيعي- شيعي على الأرض بعد دعوة الإطار التنسيقي أنصاره إلى الخروج بمظاهرات مناوئة لتظاهرات التيار الصدري.

7- الاهتمام الإقليمي والدولي بالعراق: برزت دعوات داخلية وإقليمية ودولية للتهدئة، وحث الفرقاء السياسيين للجلوس إلى طاولة الحوار وتسوية الأزمة الراهنة، وإن كانت هذه الدعوات لم توقف تظاهرات أنصار التيار داخل المنطقة الخضراء، لكنها ستعمل على الضغط على قوى الإطار التنسيقي للتراجع أمام هذه الدعوات.

ختاما، لم يعد النظام السياسي العراقي الحالي قادرًا على الاستمرار في أداء مهامه ووظائفه، وأن اتجاه التيار الصدري إلى دفع الأمور نحو سياسة حافة الهاوية من شأنه أن يعزز من فرص الخروج من هذه الحالة. ويدعم هذا التصور أن قوى الإطار التنسيقي ملتزمون بسياسة القوى الإقليمية في العراق، وفي ظل تصاعد إمكانية الوصول إلى اتفاق نووي جديد سيكون من ضمن بنوده الالتزام بعدم التدخل في شئون الدول العربية وعدم إثارة الاضطرابات في المنطقة، وهو ما سيؤدي إلى تراجع القوى السياسية والعسكرية الموالية لها، وتحقيق مطالب التيار الصدري الذي يمكن أن يكون بداية ونواة جديدة لإعادة تشكيل البيت العراقي من الداخل.

طباعة

    تعريف الكاتب

    مصطفى صلاح

    مصطفى صلاح

    باحث فى العلوم السياسية