مقالات رأى

الهواء والغذاء والاقتصاد الحائر

طباعة

يدخل الاقتصاد العالمي عام 2022 مُشبعاً بالحيرة، ومُكبلاً بالضوابط التي تعصف بفكرة الحرية الاقتصادية ذاتها، وتدفع نحو موجات تصحيحية تؤثر على فرص الحياة للملايين بصورة ربما تتجاوز خطورة فيروس كورونا، مما يخلق حتمية التفاهم والمرونة من الجميع.

والقضية هنا تتبلور مع استمرار الارتفاع في أسعار المواد الغذائية التي وصلت في أكتوبر 2021 لأعلى مستوياتها مُنذ عشر سنوات، وفقاً لتقديرات مُنظمة الأغذية والزراعة، ولازالت تتصاعد تأثراً بالموجة التضخمية التي تضرب الاقتصاد العالمي ارتباطاً بارتفاع أسعار الطاقة كأحد مُحددات تعافي مُتسارع للنشاط الاقتصادي العالمي بعد أن تراجع بشدة منذ ظهور فيروس كورونا، ونتيجة لارتفاع أسعار الطاقة بأنواعها ارتفعت أسعار الأسمدة، والنقل، والتأمينات، وغيرها من عناصر الإنتاج، وهو الأمر الذي يؤدي إلى آثار وخيمة على اقتصادات الدول، ويُخفض من القدرة الشرائية للأسر.

وهنا، يتمثل الحل الشكلي في زيادة إنتاج النفط باعتباره المُحرك الأساسي لسوق الطاقة، ليوازن الطلب المُتزايد، وصولاً لمُستويات سعرية عادلة تنخفض معها أسعار النقل وعناصر إنتاج الغذاء وغيره من المُنتجات، ولكن ذلك الأمر يتعارض مع رؤية الدول النفطية التي ترى أن أسعار النفط لم ترتفع لأكثر من 20% من مُستوياتها قبل تداعيات كورونا، بينما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي لأكثر من 300% من مٌستوياتها السابقة لتلك التداعيات، وأنه حتى مع إلغاء أوبك للقيود الكمية للإنتاج فلن يتجاوز الإنتاج العالمي سقف الستة ملايين برميل يومياً خلال عام 2022، وهو حجم إنتاج أقل من الطلب المُتوقع، وتدعو تلك الدول  لضخ استثمارات كبيرة في هذا القطاع. والمؤكد أن ضخ استثمارات كبيرة في قطاع النفط يتعارض مع التوجه العالمي لتعافي أخضر من تداعيات كورونا يستند بالأساس إلى الطاقة المُتجددة، والغاز الطبيعي الذي تصدر عنه نسبة كربون أقل بكثير النفط والفحم. في عالم تُصمم مؤسساته الكبرى (سيما بعد عودة الديمقراطيين لحكم الولايات المتحدة الأمريكية) على تنفيذ أسرع لمُخططات خفض الانبعاثات الكربونية، والدفع نحو توجيه الاستثمارات تجاه الطاقة المُتجددة الأقل كفاءة وأكثر كلفة، مما يرفع من تكلفة التعافي سيما أن هناك التزامات دولية بخفض نسبة الكربون للكثير من الأنشطة، والتي يُعتبر من أكثرها تأثيراً التزام المُنظمة البحرية التي تُمثل أكثر من 80% من حركة النقل العالمي بخفض انبعاثات الكربون بنسبة 40% في ذلك القطاع بحلول 2030، من خلال تطوير السفن لتعمل بالطاقة النظيفة، وهو الأمر الذي يدفع -مع عوامل أخرى نحو استمرار تصاعد تكلفة الشحن التي ارتفعت بالفعل نحو 200% خلال عامي 2020 و2021، وارتفعت بنسبة 400% خلال السنوات الخمس السابقة مطلع عام 2022.

وهكذا، ندرك أن الحصول إلى هواء أكثر نقاءً مُرتبط بالحصول على غذاء أكثر تكلفة، وهو ما حدث بالفعل، حيث تراجعت مُستويات المعيشة في الدول الصناعية بنسبة لا تقل عن 25% تأثراً بالموجة التضخمية الحالية، وإن كانت هناك فرصة في تلك الدول لإعادة جدولة الإنفاق، بينما تكمن المُشكلة الحقيقية فى مواجهة الدول النامية، سيما في إفريقيا التي تستورد نحو 80% من غذائها، ودول الحروب والنزاعات، مثل اليمن، وأفغانستان، وسوريا، ولبنان التي ارتفعت فيها أسعار الغذاء بأكثر من 200% في الفترة من 2018-2021، وغيرهما، حيث تُشير تقديرات مُنظمة الأغذية والزراعة إلى أن ما بين 720 إلى 811 مليون شخص في العالم قد واجهوا الجوع خلال عام 2021، والمؤكد أن هذه الملايين تحتاج للغذاء بأكثر من حاجتها لهواء نظيف لم تقم هي بتلويثه.

هناك دول في العالم تقوم بإجراءات وقائية لحماية شعوبها مثل الولايات المُتحدة الأمريكية التي طبقت خطة لتوزيع قسائم الطعام على ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، والهند التي قامت بتوزيع كميات أكبر من الأرز والقمح مجاناً على أكثر من 800 مليون مواطن، وخفضت الرسوم على العدس، وزيوت الطاعم، بينما فرضت الأرجنتين قيوداً على صادرات اللحوم، وفرضت روسيا ضريبة على تصدير القمح. وقررت مصر زيادة مُخصصات دعم السلع التموينية، وإعفاء المنتجات والأغذية الأساسية من ضريبة القيمة المضافة، واتخذت إجراءات تطوير لقُدرتها الزراعية أفقياً ورأسياً، وتُطور صناعاتها الزراعية، وأسواق التجارة الداخلية. وهناك دول أخرى تُطور من برامج حمايتها الاجتماعية، وترفع من احتياطياتها من الأغذية، ودول تلجأ لعقد تفاهمات بالاستثمار الزراعي خارج حدودها بالدول التي لديها ميزة نسبية لذلك، وغيرها من الإجراءات التي تختلف من دولة لأخرى.

المؤكد أن الحلول الفردية مع أهميتها فإنها لن تكون كافية في ظل انطلاق الاقتصاد بسرعة كبيرة نحو تبني مُقررات خفض الانبعاثات الكربونية، والتحول الرقمي والتكنولوجي دون مُراعاة لما يرتبط بذلك من تضخم كبير في أسعار الغذاء الذى سيكون له عواقب وخيمة.

ففي مجال الاقتصاد الحر، تُصحح السوق نفسها، ولكن ما يحدث عالمياً هو تقييد السوق بضوابط قاسية للتعافي من تداعيات كورونا في ظل تصميم من الحاصلين على مُكتسبات خلال تداعيات انتشار الفيروس على استدامة مُكتسباتهم، ورغبة من تكبدوا الخسائر خلال تلك الأزمة في تعويض خسائرهم، مما يدفع السوق نحو موجة تضخمية سترتب تصحيح خشن للسوق يؤثر بالسلب على قدرة الملايين في إشباع حاجاتهم الأساسية، وأهمها الحاجة للطعام، ويقف الاقتصاد حائراً بين هذه الاعتبارات غير قادر على اتخاذ تلمس المسار العادل، وسط الكثير من القيم والمُبررات البراقة التي يُقدمها كل طرف من أطراف المُعادلة حسب عقيدته ومصلحته، والمؤكد أنه لن يتحقق نمو أو تنمية مُستدامة إلا إذا وضع الجميع فى الحسبان الحفاظ على حياة البسطاء في العالم كأولوية أولى، وإبداء مرونة كافية تسمح بالتنازل عن جانب من المكاسب، وتقرير جداول زمنية أطول لتحقيق المُستهدفات دون العصف بحقوق البسطاء في الحياة فى كل دول العالم.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د.وليد عبد الرحيم جاب الله

    د.وليد عبد الرحيم جاب الله

    خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع