تحليلات - مصر

قراءة سوسيولوجية فى الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان2021 (2-2)

طباعة

عرضنا فى القسم الأول من الدراسة أهم ملامح وأبعاد الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من خلال قراءة سوسيولوجية تهتم برصد نقاط القوة فى الاستراتيجية، بجانب التركيز على إمكانيات وفرص تحقيق التقدم فيها على المستوى التنفيذى، وفى سبيل تعزيز الفرص وتحقيق التقدم، علينا السعى حثيثًا لرصد أهم التحديات التى تواجه الاستراتيجية وتشكل عقبة أمام تنفيذها فى أرض الواقع، كمحاولة لمواجهتها والتصدى لهذه التحديات بصفة عامة، وإبراز أهم الإيجابيات التى انطلقت منها الاستراتيجية وساندت فى دعم ثقافة حقوق الإنسان. وهذا ما يتناوله الجزء الثانى من الدراسة على النحو الآتى:

ثالثا - أهم التحديات التى تواجه تنفيذ الاستراتيجية:

على المستوى التنفيذى، برزت العديد من التحديات التى واجهت فريق إعداد الاستراتيجية، حيث فضلوا رصد هذه التحديات تحت كل محور أو بند من بنود الاستراتيجية، لذا ظهر تكرار الكثير من التحديات واشتراكها فى الكثير من الخصائص، نظرا لتشابك محاور الاستراتيجية والتداخل فيما بينهما، فالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية -على سبيل المثال- مشتركة عبر المستوى الأفقى والرأسى مع حقوق بعض الفئات، مثل المرأة والطفل والأشخاص ذوى الإعاقة والشباب والمسنين، وكذلك الحقوق المدنية والسياسية، بما يعنى أن تداخل حقوق الإنسان فى كثير من المجالات والفئات يؤثر بالطبع فى تداخل التحديات والعقبات التى تواجه تطبيق هذه الحقوق.وتتمثــل أبــرز التحديــات التى تواجه تعزيـز وحمايـة حقــوق الإنسـان والحريـات الأساســية فـى مصــر، ومــا يرتبــط -فـى هــذا الإطــار- بتنفيــذ الاستراتيجية، فيما يلى:

1) الحاجة إلى تعزيز ثقافة حقوق الإنسان:

أشارت الدراسات الاجتماعية إلى أن التغير فى البناء الاجتماعى لأى مجتمع من السهل أن يصيب البنية التحتية للمجتمع، من حيث البيئة الاقتصادية والعوامل المادية والفيزيقية والتكنولوجية، لكن من الصعوبة بمكان أن يصاحب هذا التغير بتطور البنية الفوقية للمجتمع، التى تعنى منظومة القيم والعادات والموروثات الثقافية والاجتماعية، التى ينشأ عليها المجتمع ويورثها عبر الأجيال المختلفة، أى أن التغير على المستويين الاقتصادى والسياسى لا يصاحبه فى كثير من الأحيان التغير الاجتماعى والثقافى للمجتمع، فالتغير على مستوى الموروثات الثقافية والعادات الاجتماعية يمر ببطء كبير مقارنة بالتغيرات المادية والتكنولوجية السريعة الأثر.

 لذلك، بالنظر فى جملة التحديات التى تواجه تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان نجد أنه من أهم العقبات والتحديات نقص الوعى بأهمية حقوق الإنسان وقيم ومبادئ ثقافة التعامل مع حقوق الفئات المختلفة فى المجتمع، ويعنى هذا استمرار الموروث الثقافى والاجتماعى القائم على الجهل بحقوق الإنسان وعدم احترام الرأى الآخر، وضعف تحقيق المساواة والتمييز بين الأفراد، على الرغم من التقدم المحرز على مستوى التخطيط والتشريع، وتوافر الإرادة السياسية، ووضع الاستراتيجيات والمبادرات والحملات، وغيرها؛ إلا أن الموروثات الثقافية والعادات والتقاليد الاجتماعية لا تزال تشكل عقبة على مستوى تنفيذ هذه الخطط والاستراتيجيات.

كما أن التغير فى بنية الإنسان ومكانته وعمله وبيئته لا ترتبط بتغير أفكاره وقيمه، فالتحدى الثقافى أشد وطأة من التحدى المادى والتكنولوجى، لذلك فالحل يكمن فى التوسع فى حملات التوعية واستمراريتها لترسيخ مبادئ وقيم حقوق الإنسان على مختلف الفئات والمراحل العمرية، وذلك باستخدام وسائل متعددة ومتنوعة وبصورة متوازية، بداية من نشر حملات التوعية فى وسائل الإعلام المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعى، من خلال أفلام قصيرة وهادفة لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان، أو مواد كرتونية توضح بالصورة ماهية مفاهيم حقوق الإنسان وكيفية احترامها، وإدراج مواد دراسية فى المناهج المختلفة فى مراحل التعليم ما قبل الجامعى والجامعى ترسخ مفاهيم حقوق الإنسان، وترسى قواعد احترام حقوق الإنسان وسبل التعامل معه، بجانب تدريب العاملين فى جميع الجهات الأمنية والحكومية على مفاهيم وقيم حقوق الإنسان وترسيخها فى التعامل.

2) الحاجة إلى تعزيز ثقافة المشاركة فى العمل العام:

تبــرز أهميــة معالجــة عوامــل ضعــف مســتوى المشــاركة فى الشــأن العــام، بمــا فـى ذلــك ضعــف الوجود المجتمعـى الفعــال للأحــزاب السياســية، وعــدم انخــراط الشــباب فـى العمــل الحزبـى علــى النحــو المأمــول، والحاجــة إلــى زيــادة فاعليــة القنــوات المؤسســية للتشــاور مــع منظمــات المجتمــع المدنـى باعتبارهــا شــريكًا أساسيًا فـى عمليــة تعزيــز وحمايــة حقــوق الإنســان بكل أبعادهــا. كمــا تستدعى تعزيــز المشــاركة فـى الشــأن العــام زيــادة المشــاركة علــى المســتوى المحلــى، والتصــدى لمشــكلة الفقــر بمــا يضمــن ممارســة الحقــوق المدنيــة والسياســية بشــكل فعــال. ولا شــك فى أن صــدور قانــون تنظيــم ممارســة العمــل الأهلـى لعــام 2019 ولائحتــه التنفيذيــة يعــد فرصــة لبنــاء شــراكة فعالــة ومســتدامة مــع منظمــات المجتمــع المدنـى تســتند إلــى احتــرام الدســتور والقانــون.

3) الصعوبات والأزمات التى تواجه تحقيق التنمية الاقتصادية المستهدفة:

 تأتـى الزيـادة السكانية المطــردة التـى تجــاوز معهــا عــدد ســكان مصـر 100 مليون نسمة، لتمثل عائقًا كبيرًا أمــام جهــود توفيــر المــوارد اللازمــة لكفالــة حــق جميــع المصرييــن فـى التمتــع بمســتوى معيشـى ملائــم، وللتخفيــف مــن حـدة الفقــر. ولا يمكــن إغفــال التأثيــر الســلبى للأزمــات الطارئــة، كالحــوادث الإرهابيــة، علــى حركــة الاســتثمار والســياحة ومجمــل الأحــوال الاقتصاديــة. كمــا يتزامــن إطلاق الاستراتيجية مــع التداعيــات المختلفة التى تفرضها أزمة جائحة كوفيد - 19 وتأثيرهــا فـى النمــو الاقتصــادى، وفــى التمتــع بالحقــوق المختلفة. ومما يجب أخذه فى الحسبان أيضا التحــدى المتعلــق بالأمــن المائـى لمصــر، مــع اســتمرار انخفاض نصيب الفرد سنويًا من المياه بمــا يشــكل تهديــدًا مباشرًا على جهود التنمية بمجالاتها المتعددة، ويؤثر على نحـو ســلبى فى إعمال حقــوق الإنسـان بشــكل عــام، خاصة الحـق فــى الحيـاة، والحق فـى ميــاه الشــرب الآمنــة، والحق فـى الغــذاء.

إن التصدى لهذه الصعوبـات يتطلـب توفيــر مخصصـات ماليــة كبيــرة، بحيــث تنعكــس مؤشرات النمــو المتصاعــدة بشــكل مباشــر على حــق كل شخص فـى مســتوى معيشـى كاف له ولأسرته، يوفر ما يفـى بحاجاتهــم الأساســية.

4) الإرهاب والاضطراب الإقليمي:

تمـر مصر بمرحلـة دقيقــة تواجــه فيهــا تهديــدات أمنية، داخليـة وخارجيـة، غيـر مســبوقة، نتجــت عــن تزايـد نشــاط الجماعـات الإرهابيــة فـى مصـر ودول الجـوار الإقليمـى، ممــا جعــل قضيــة دعــم اســتقرار الدولـة ووحدتهــا تتصدر أولويات العمل الوطنى. ولأن خطــر الإرهـاب يهـدد تمتع الأفـراد بحقوقهم وحرياتهـم الأساسية، فإن تدابير مكافحته تعد جزءا لا يتجزأ مــن حماية حقـوق الإنسان، فهمــا متكاملان يعزز كل منهما الآخر، ومن ثم تنطلــق مصر فى مكافحتها للإرهـاب مــن رؤيــة واضحـة بـأن التصـدى لخطــر الإرهــاب والقضاء على الجماعـات الإرهابيــة يدخل فـى صلــب حمايــة حقــوق الإنسان وضمان حيــاة آمنة لجميع المصرييـن.

وتعتمــد مصــر مقاربـة شـاملة لمكافحة الإرهــاب تقــوم على محوريــن أساســيين، الأول يســتهدف التصدى للعناصــر والكيانــات الإرهابيــة، والآخر يهــدف إلــى تحقيــق التنمية الشـاملة لمعالجة العوامل الكامنة التى تســبب الإرهــاب. وجديـر بالذكـر أن التصـدى للإرهــاب يتــم كذلــك مــن خلال محاربته فكريًا، ويتجلى ذلــك بوضوح فـى تبنى المؤسسـات الدينية والمدنيـة تطويــر الخطـاب الدينى للتوعيــة ضـد الأفــكار المتطرفـة ومحاربتهـا.

رابعا - أبرز الإيجابيات التى شملتها الاستراتيجية:

· يعد إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان نقطة مضيئة فى تاريخ المجتمع المصرى المعاصر، فهى بمنزلة خطة عمل ومنهاج محدد على مدار خمس سنوات، وخطوة جادة فى سبيل النهوض بحقوق الإنسان فى مصر.

· توافق القوى المجتمعية وإدارة الحوار المجتمعى، من خلال مشاركة جميع الأطراف المعنية بملف حقوق الإنسان الحكومية والأهلية للخروج بهذه الاستراتيجية الوطنية التى تتمتع بخصوصية السياق والإنسان المصرى.

· التأكيد على أهمية دور مؤسسات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية، وأنها شريكة مع الدولة فى القيام بحملات التوعية ونشر مفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان فى المجتمع، وتم تخصيص عام "2022" عامًا للمجتمع المدنى، إيمانًا من الدولة وقيادتها بأهميته ودوره فى المجتمع.

· اعتمدت الاستراتيجية على رؤية ترتكز على إحراز تقدم فى ثلاثة مسارات متوازية ومتكاملة، هى "مسار التطوير التشريعى، ومسار التطوير المؤسسى، ومسار التثقيف ورفع القدرات فى مجال حقوق الإنسان"، أى أنها تتبنى رؤية متكاملة تعتمد على التطوير فى البناء التحتى للمجتمع المرتبط بالبنية التشريعية والمؤسسية، كما لم تغفل البناء الفوقى للمجتمع وسعت إلى تثقيفه وتطوير قدراته وتغيير موروثاته الخاصة بمجال حقوق الإنسان.

· استندت الاستراتيجية إلى الرؤية المصرية لحقوق الإنسان التى ترتكز على عدد من المبادئ الأساسية، أبرزها أن كافة الحقوق والحريات مترابطة ومتكاملة، وأن ثمة ارتباطًا وثيقًا بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع أهمية تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات من جهة، وحق الفرد والمجتمع من جهة أخرى، وضرورة مكافحة الفساد لضمان التمتع بالحقوق والحريات.

· إن الالتزام بصون الحقوق والحريات وتعزيز احترامها يتحقق، من خلال التشريعات والسياسات العامة من جانب، وما تقوم به مختلف المؤسسات والآليات الوطنية من إنفاذ لتلك التشريعات والسياسات من جانب آخر، وهى الجوانب التى اهتمت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بمراعاتها كافة.

· ركزت الاستراتيجية على التحديات المختلفة التى تواجه تطبيق ثقافة حقوق الإنسان، وفرص التقدم المحرز على مستوى التخطيط، كما رصدت الاستراتيجية النتائج المستهدفة للوصول إليها على المدار الزمنى المحدد للاستراتيجية.

· خصصت الاستراتيجية محورًا خاصًا بالتثقيف وبناء العقول والقدرات فى مجال حقوق الإنسان، يهدف إلـى تنسيق وتطويــر الجهــود الوطنية فـى هــذا المجال، اتساقًا مــع أفضـل الممارسات الدوليـة فـى هــذا الشـأن، وعلــى نحــو يعكــس الأولويات الوطنيــة.

· نبعت الاستراتيجية من الإرادة السياسية العازمة على ترسيخ مبادئ وثقافة حقوق الإنسان، وراعت فى ذلك خصوصية السياق الوطنى والمجتمع المصرى وما يسوده من قيم وموروثات ثقافية وعادات اجتماعية، فهى نابعة من الشأن الداخلى المصرى، وليست مستعارة من الخارج.   

· شملت الاستراتيجية جميع الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وناقشتها على مستوى الأفراد بشكل عام، وعلى مستوى الفئات الضعيفة بشكل خاص، حيث خصصت لها محورًا يناقش احتياجاتهم ومتطلبات حقوقهم ونقاط التقدم والفرص المتاحة لنيل حقوقهم داخل المجتمع. 

· شكلت الاستراتيجية خريطة طريق لتحقيق التقدم فى مجال نشر الوعى، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان فى المجتمع، وأرست قواعد تطبيق هذه الحقوق على أرض الواقع.

مصادر الدراسة:

- اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان، الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، جمهورية مصر العربية 2021-2026، القاهرة، 11 سبتمبر 2021، 78 صفحة.

- اليوم السابع، نص كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى بفاعليات إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، 11 سبتمبر 2021.

- سكاى نيوز عربية، استراتيجية جديدة لحقوق الإنسان فى مصر.. هذه أبرز محاورها، 11 سبتمبر 2021.

- محمد على السيد، الدابى: الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان دستور إنسانى جديد فى الجمهورية الجديدة، جريدة الأهرام، 11 سبتمبر 2021.

- الشرق الأوسط، السيسى يطلق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان: نابعة من فلسفة ذاتية مصرية، 11 سبتمبر 2021.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. هند فؤاد السيد

    د. هند فؤاد السيد

    أستاذ علم الاجتماع المساعد، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية.