مقالات رأى

عفواً ... الكل مرفوع مؤقتا من الخدمة!

طباعة

في مساء يوم الاثنين الموافق الرابع من أكتوبر من عام 2021، غرد حساب توتير الرسمي بالقول "مرحباً حرفياُ بالجميع هنا"، ليرد عليه حساب واتس آب الرسمي على تويتر "مرحباً!"، ليقوم بعدها مؤسس توتير "جاك دورسي" بالرد عليه بتغريدة مداعباً بقوله "أليس من المفترض أن يكون ردك مشفراً؟!".

وقبلها بلحظات قام "جاك دورسي" بالتعليق على تغريدة تقول إن نطاق الفيسبوك على الإنترنت معروض للبيع قائلاً "بكم السعر؟".

ولكن ماذا حدث لتتقع كل هذه الجلبة؟ الإجابة ببساطة أن جميع تطبيقات الفيسبوك والتي تشمل الفيسبوك وإنستجرام والماسنجر والواتس آب قد توفقت فجأة وبدون سابق إنذار حول العالم. وهذا يعني فقدان أكثر من 2.18 مليار مستخدم للفيسبوك و1.2 مليار مستخدم لتطبيق الإنستجرام و1.05 مليار مستخدم لتطبيق الماسنجر و2 مليار مستخدم لتطبيق الواتس آب، القدرة على التواصل في لحظة.

وبالتالي انهارت القيمة السوقية لأسهم فيسبوك في بورصة ناسداك بحوالي 5.3% في بضع ساعات، محققة خسارة تقارب 50 مليار دولار، بالإضافة لخسارة قدرها 160 مليون دولار عن كل ساعة تتوقف فيها عمل منصات الشركة، لتصيب سمعة الشركة الأكبر في عالم التواصل الاجتماعي في مقتل.هذا بجانب خسارة "مارك زوكربيرج" بصفة شخصية لحوالي 7 مليار دولار من ثروته خلال ساعات قليلة من توقف منصاته، طبقاً للمنشور على موقع "بلومبرج" الشهير. 

وبدأت الأقاويل تنتشر، انتشارا هائلا، في ظل عدم وجود تعليق رسمي من الشركة، فالبعض يقول إنه هجوم سيبراني كبير أصاب خدمات فيسبوك وتطبيقاتها الواحدة تلو الأخرى، والبعض يقول إنه مجرد عطل فني كبير في مراكز بيانات الشركة المنتشرة حول العالم، والبعض حائر بين الطرفين، وآخرون أطلقوا سيلاً من التعليقات الساخرة عن مدي جدارة المنظومة التكنولوجية العالمية، التي أصبحت تتحكم في كل شيء من حولنا، سواء على الجانب الشخصي أو على جانب الأعمال.

فقد أصبحت تلك التطبيقات هي مصدرنا الرئيسى للمعلومة، سواء كانت معلومة عن الأصدقاء أو الأقارب، أو عن الطقس، أو عن منتجات يراد شرائها، أو عن مشاهير يقوم الملايين بمتابعتهم، كل أحوال البلاد والعباد.وأيضاً أصبحت بديلاً عن الهواتف والبريد الالكتروني، وكذا ملتقي لمشاركة البعض للبعض لأفراحهم وأحزانهم.

فعلى سبيل المثال يتم استخدام تطبيق الواتس آب لإرسال ما يقارب 100مليار رسالة يومياً، وأصبح التطبيق، في يوم وضحاه، هو أسرع وسائل التواصل في قطاعات الأعمال، لتداول الأفكار والآراء وتبادل المستندات وأخذ القرارات. لذا قامت فيسبوك بشراء هذا التطبيق في 2014 بما يقارب 21 مليار دولار، وكان  فيسبوك قد سبق  واشترى تطبيق الصور "إنستجرام" أيضاً قبله بأعوام قليلة بقيمة مليار دولار. كما أن 50% من رواد الإنترنت في الفئة العمرية من 16 إلى45 سنة يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي في البحث عن المنتجات وتقييم جودتها قبل شرائها، وهذا ما يجعل المعلنون يقوموا بإنفاق ما يقارب من 350 مليار دولار سنوياً على تسويق المنتجات من خلال الشبكة العنكبوتية.

إنه عالم جديد بأدوات جديدة!ولكنه في مهب الريح أمام عطل تقني أدي لتوقف تواصل مليارات من البشر في دقائق، سواء كان هذا بسبب خلل فني بحت أصاب نظم التشغيل، أو بسبب يد تعبث في العمود الفقري لاقتصاد العالم المستحدث من خلف ستار!

وعلى الرغم من نفي بعض مسئولي الشركة الفنيين من أن العطل جاء نتيجة هجوم سيبراني، طبقاً للمنشور في صحفية النيويورك تايمز على موقعها بالإنترنت، فمازال السبب الأخير هو الأقرب من وجهة نظري، لأن تلك النوعية من الشركات لديها من الكفاءات الفنية والتقنيات شديدة التعقيد والحلول البديلة، التي تمنع الوصول لحالة الإغلاق الكامل لتطبيقاتها، في جميع أنحاء العالم في نفس الوقت.

ولكن إذا ثبت من خلال التحقيقات، التي ستقوم بها فيسبوك وكذلك وكالات الأمن الأمريكية، أن الخلل الذي أصاب الشركة الأكبر ليس في عالم التواصل الاجتماعي فحسب، بل الشركة التي تقود مؤشرات بورصة ناسداك بقيمة سوقية تقارب التريليون دولار، قد كان بسبب هجوم سيبراني كبير ومنظم، فأننا سنري تداعيات أزمة لن تقل عن أزمة تفجير برجي التجارة في 2001 أو أزمة خليج الخنازير في ستينات القرن الماضي.

لأنها ستؤسس لساحة حرب عالمية جديدة؛ ساحة حرب بدون الأسلحة التقليدية: الصواريخ والقاذفات والدبابات والمدفعية وحاملات الطائرات والأسلحة النووية والبيولوجية..، بل أسلحتها مجرد مجموعة من قراصنة المعلومات القابعين خلف شاشات الكمبيوتر، والعالمين ببواطن الأمور التكنولوجية وأدوات البرمجة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي ونظم الشبكات والمواقع الرقمية، ويمكنهم التلاعب بالبشر والحكومات على حد سواء، وخاصة في ظل الاعتماد المتزايد والمطرد على تكنولوجيا المعلومات في أداء أعمالنا في كل منحي من مناحي الحياة تقريباً.  

وقد تؤدي هذه الحرب إلى مواجهة شاملة بين دول، وقد تفضي لحرب عالمية جديدة، إذا خرج الأمر عن السيطرة؛ فاختراق نظم معلومات شركة بحجم فيسبوك وتعطليها عن العمل وتكبيدها خسائر بالمليارات من الدولارات، بجانب خلق أزمة ثقة كبيرة مع عملائها غير مسبوقة، قد تدفع الجميع نحو نفق مظلم.

وخصوصاً أن موضوع الأمن السيبراني والهجمات الالكترونية أصبح أمراً يؤرق قادة الدول، لما يمثله من تهديد مباشر لمفهوم الأمن القومي، لذا فقد جاء ذكر كلمة "سيبراني" 25 مرة في البيان الختامي لقمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في اجتماعه الأخير في بروكسل في 14 يونيو 2021، طبقاً للمنشور على الموقع الرسمي للحلف. وذكر البيان أن قادة الدول الأعضاء قد اتفقوا على تبني سياسة دفاع شاملة فيما يخص الأمن السيبراني لما يمثله من تحديات مستحدثة، وأن الهجمات السيبرانية الفادحة يمكن أن تكون من الأسباب الداعية لتفعيل البند الخامس من ميثاق الحلف، والذي يعتبر أن أي هجوم على عضو بالحلف هو هجوم على كافة الدول الأعضاء به.

ونتيجة لذلك جاء ملف الأمن السيبراني على رأس جدول أعمال القمة الأمريكية - الروسية بجنيف بين الرئيسين "بايدن" و"بوتين"، والذي تلا اجتماعات الناتو مباشرة، حسبما ذكرت التقارير الصحفية. والتي أفادت أن الرئيسين قد اتفقا على عودة السفراء وعقد حوار شامل حول هذا الملف، بعد موجة من الاتهامات المتبادلة فيما يخص الهجمات الإلكترونية، للوصول لتفاهمات لتحقيق استقرار استراتيجي بين الدولتين.

لأن الأمن السيبراني أعاد تشكيل مفهوم الأمن القومي للدول، فحدود الدول أصبحت غير محكومة بالجغرافيا، بل أصبحت حدود لا متناهية، طولها بطول الفضاء الالكتروني من حولنا؛حدود يجب تأمينها ضد أفراد مجهولة يعيشون في جانب مظلم على شبكة الإنترنت، وضد أجهزة دول تعمل ضد دول أخري لإلحاق الضرر بالبنية التحتية وبالأنظمة الاقتصادية لها. وفي الغالب يكون أكثر الضحايا هم الأفراد العاديين، مثلي ومثلك.

العالم بدون شك لا يريد أن يري أزمة جديدة في حجم أزمة تفجير برجي التجارة أو أزمة خليج خنازير ثانية؛ أزمات طابعها رقمي هذه المرة، ولكن قد تؤدي لعواقب وخيمة.

إن أزمة فيسبوك الأخيرة لم تكن الأولي ولن تكون الأخيرة، والأيام وحدها قادرة على إخبارنا كيف سيواجه العالم تلك النوعية من الكوارث والانتكاسات المستحدثة، التي من الممكن أن تدمر الحضارة البشرية، وتعيد العالم كله لنقطة الصفر من جديد، وهذا ما لا يريده أحد قطعاً.

طباعة

    تعريف الكاتب

    م. محمد عزام

    م. محمد عزام

    استشاري التحول الرقمي، وعضو مجلس إدارة الجمعية الدولية لإدارة التكنولوجيا