مقالات رأى

مصر والريادة الإقليمية.. تاريخ وتحديات ومستقبل واعد (1-3)

طباعة
ريادة مصر الإقليمية معترف بها دولياً على مر العصور، فهى أمر طبيعي، نظراً لكلٍ من مكانة وموقع مصر الجغرافي الذي حبانا به الخالق، كما أن إرادة المصريين وقوة عزيمتهم تجعلهم يستطيعون من خلالها تجاوز المحن والتحديات التي تواجههم، لينجحوا في تحويل تلك المحن والتحديات إلى طاقة للبناء.
فإذا ما نظرنا إلى الكرة الأرضية، فسنجد أن مصر موقعها مركزي ومحوري بالنسبة لمختلف دول العالم، فيمكن أن تعد نقطة المركز بالنسبة للكرة الأرضية. ووفقاً للحسابات الرياضية، فإن نقطة المركز هي النقطة التي تكون متساوية البعد عن جميع النقاط في محيط الدائرة. بشكل مشابه، يعرف مركز الكرة بأنه النقطة المتساوية البعد عن جميع نقاط سطح الكرة، وهو الأمر الذي يفسر كونها مطمعا عالمياً على مر العصور. فالذى يريد التحكم والوصول إلى أطراف العالم، سيحرص على وجوده في نقطة المركز، وهي مصر.
إلا أن التاريخ سجل وبكل قوة تغلب الإرادة المصرية على القوى الاستعمارية، لتتحول تلك الإرادة إلى ريادة، وتتنوع من كونها ريادة عربية إلى ريادة إفريقية وصولاً إلى أن تصبح ريادة إقليمية، بل وعالمية في بعض العصور والأزمنة السابقة والحالية.
وفي إطار تلك الريادة المصرية، سأتناول، من خلال ثلاثة أجزاء من المقالات المكملة لبعضها بعضا، كلا من تاريخ مصر الريادي إقليمياً، وسأتناول في الجزء الثاني من تلك السلسلة التحديات المختلفة التي اعترضت طريق تلك الريادة، وأثرت بالسلب فى الاقتصاد المصري، على أن أختتم تلك السلسلة بالجزء الأخير الذي سأركز فيه على تحليل مراحل عودة مصر إلى الريادة الإقليمية، والمستقبل الاقتصادي الإقليمي المنتظر لمصر.
فإذا ما تحدثنا عن تاريخ مصر في الريادة الإقليمية، فإن الأمر سيتعدى الكثير من المجلدات، وليس مجرد مقال، وسيتخطى الأمر الريادة الإقليمية ليصل إلى الريادة العالمية في كثير من الحقب الزمنية. فمصر هي أقدم الحضارات بالعالم التي ظهرت قبل كتابة وتدوين التاريخ ذاته، مصر جاءت ثم جاء التاريخ من بعدها، لذا بحكم التاريخ مصر رائدة العالم.
وإذا ما تناولنا العصور القديمة، فسنجد أن مصر قد علمت العالم القراءة، والكتابة، والري، والزراعة، والبناء، والصناعة، والتجارة، والتعدين، والطب، والفنون، والثقافة، وعلوم الفلك، والرياضيات، وصولاً إلى الحروب وعقد معاهدات السلام. وكثيراً ما يكتشف العلماء حديثاً نظريات لنفاجئ العالم بأن المصري القديم  هو أول من تطرق إلى ذلك الفكر، فتلك هي مصر الفرعونية وريادتها العالمية.
وإذا ما تناولنا دور مصر في الاحتفاظ بالريادة العربية الإسلامية عام 1260م، فلن نستطيع أن نتجاهل دور مصر في إيقاف الزحف المغولي على الدول الإسلامية، ليتم تحجيمهم في معركة عين جالوت، حيث نجح جيش المغول في إسقاط الدولة الخوارزمية وهي قبائل ذات أصول تركية، وكذلك سقوط بغداد، والخلافة العباسية، وسقوط جميع مدن الشام وفلسطين، ليرتطم المغول بالحائط الصد المصري، ليلحق جيش مصر بهم أكبر هزيمة. وعلى الرغم من أن مصر كانت تعاني صراعات واضطرابات اقتصادية داخلية، فإنها نجحت في إعادة ترتيب البيت من الداخل، لتنمي مواردها الاقتصادية، وتعمل على تقوية جيشها وتسليحه من جديد، وتبدأ بالمواجه، وتلحق بجيش المغول أكبر الخسائر لتتم إبادته بالكامل، وبذلك يكون لمعركة عين جالوت والجيش المصري أثر عظيم في تغيير موازين القوى بين القوى العظمى المتصارعة في منطقة الشام، لتتسبب خسارة المغول في تحجيم قوتهم. فلم يستطع القائد المغولي هولاكو التفكير فى إعادة احتلال الشام مرةً أخرى، ليكون أقصى رد فعل له على هزيمته هو إرسال حملة انتقامية أغارت على حلب، وبذلك يصبح لمصر وجيشها الريادة الإقليمية في الحفاظ على الهوية الإسلامية للمنطقة العربية. 
وإذا ما وصلنا إلى العصور الحديثة، فسنجد أن الريادة الإقليمية ستتضح من خلال التطور الزراعي، والصناعي، والتجاري، والنقل والمواصلات، كما أن ازدياد نفوذها السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط بشكل ملحوظ قد هدد من مصالح الإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت.
ومن الجدير بالذكر أن مصر كانت بمنزلة مصدر تمويلي لكبريات الدول في تلك الفترة، لتقوم بإقراض بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى ما يوازي الآن نحو ٢٩ مليار دولار أمريكي، ويقال إنه  دين لا يسقط بالتقادم.
وإذا ما انتقلنا إلى الحقبة الملكية، فسنجد أن ملك مصر هو ملك مصر والسودان. ووفقاً لدلالات لا يمكن تخطيها، فسنجد أن مصر كانت رائدة في المجال الاقتصادي. فالجنيه المصري آنذاك كانت قيمته تفوق الجنيه الذهب، وكانت مصر أحد المنابر المهمة للتجارة العالمية من بورصة مينا البصل، وريادة تجارة القطن في العالم لتتصدر عبارة شهيرة في البرامج الإخبارية الأجنبية وهي "مصر تنتج والعالم يستهلك".
 
كما احتفظت بورصتا القاهرة والإسكندرية بالمركز الرابع عالمياً في الأربعينيات من حيث مجموع المعاملات وقيمة التداول. وتأكيداً لتلك الريادة، يذكر أن الولايات المتحدة قد طلبت من المملكة المصرية عام ١٩٤٦ تقديم معونة مالية إلى اليونان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، على أن تُرد لاحقاً، فتلك هي الريادة الإقليمية والدولية لمصر.
ومنذ عام 1952، تأكدت الريادة الإقليمية لمصر، من خلال الوحدة العربية مع سوريا، وتدعيم الثورات الاستقلالية في العديد من الدول العربية والإفريقية، ومساندة الكثير من الحروب المدعمة للاستقلال، إلا أن هذا الامر ألقى بظلاله السلبية ليرهق مصر اقتصادياً، إلا أنه أكد ريادتها وزعامتها للدول العربية والإفريقية.
 
فلا يخفى على أحد الدور المحوري الذي لعبته مصر في استعادة العديد من الدول العربية والإفريقية استقلالها خلال تلك الحقبة الزمنية، واعتمادها بذكاء على القوة الناعمة المصرية، والمتمثلة فى الإعلام والفن، والثقافة، والتعليم، وكذلك جهاز المخابرات العامة المصرية، فتحولت مصر إلى قبلة لكل قادة حركات التحرر الوطنى، ومنبر للعروبة ومناهضة القوى الاستعمارية. ففى عام 1960، وعقب الحرب الطاحنة التى خاضها شعب الكونغو ضد الاحتلال البلجيكى المدعوم من الغرب، قامت مصر بدعم حركة التحرر فى الكونغو عسكرياً وسياسياً.
ومن أهم الحروب التي خاضتها مصر في المنطقة العربية حرب اليمن، لتناصر مصر الجمهورية اليمنية في حرب استمرت ثمانى سنوات (1962-1970)، ويتم دعم اليمن بنحو 70 ألف مجند مصري، لتستنزف الموارد الاقتصادية المصرية بشكل كبير، ليقول بعض المؤرخين إنها "فيتنام مصر". إلا أن المشاركة المصرية كانت سبباً رئيسياً في تحقيق انسحاب بريطانيا من جنوب اليمن وميناء عدن المطل على مضيق باب المندب، ومن ثم نجاح مصر في دعم قيام الجمهورية اليمنية.
ومن الجدير بالذكر تجربة "شركة النصر للتصدير والاستيراد" بحسبانها نموذجا مثاليا استثنائيا وفريدا لإنشاء شركة تجارية ناجحة تدعم الوضع المالي والنفوذ السياسي- وربما العسكري- لمصر في قارة صعبة الاختراق كإفريقيا.
ومنذ استقلال بلاد القارة الإفريقية، تعددت محاولات التجمع والوحدة بين هذه الدول لتساند مصر وبقوة إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية، والتي تم الإعلان عنها عام 1963كمنظمة إقليمية تستهدف الحفاظ على سيادة واستقلالية الدول الإفريقية لتترأسها مصر ثلاث مرات أعوام 1964، و1990و، و1994.
هذه هي النقاط العريضة لتاريخ مصر الريادي إقليمياً وامتداده ليصبح ريادة عالمية في كثير من الحقب الزمنية. ومن الملاحظ أن مصر لعبت وبجدارة الدور الريادي لتحافظ على الهوية العربية الإسلامية تارة، أو الهوية الإفريقية تارةً أخرى. وإيماناً بمقولة إن "مصر تمرض ولا تموت"، فإن تلك الريادة قد مرت بفترات أصابتها بالضعف. ففي الأوقات التي تكون فيها مصر على قمة الريادة الإقليمية، سرعان ما تمر بأحداث تعيدها إلى نقطة البداية، وكأن اقتصادها يبدأ من جديد، ولكن سرعان ما تستعيد مصر قوتها لتحول العثرات التي تمر بها إلى ريادة من جديد، وسنتناول بالتحليل التحديات التي مر بها الاقتصاد المصري بعد عام 1952 في المقال القادم بإذن الله.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء سراج عمارة

    د. شيماء سراج عمارة

    دكتوراه في الاقتصاد وخبير تقييم مشروعات