مقالات رأى

رؤية لنظام عالمي جديد

طباعة
استطاع الرئيس الامريكي ترامب تغيير الفكر الأمريكي في الحكم. فمنذ بداية حملته الانتخابية، أعلن أن أمريكا ستصبح للأمريكيين فقط. ترامب يعلم لكونه رجل أعمال كيف يستقطب هذا الشعب، ويقوم باستيعابه بوعود انتخابية تهم الشعب الأمريكي الدافع للضرائب، تمثلت في تحسين الصحة والتعليم وخفض معدل البطالة، مما أكسبه شعبية كبيرة بعد سلسلة مظاهرات قام بها رافضوه في البداية. لقد اتجه ترامب ولأول مرة إلى الداخل الأمريكي على غير ما تراه باقي مؤسسات الحكم بين أروقة البيت البيض. وهذا التقاطع في طريقة الإدارة خلق بعض المعوقات التي استطاع ترامب تخطيها. العودة لأمركة أمريكا تظهر جليا في قرار بناء حاجز حدودي بينها وجارتها اللاتينية المكسيك, فلا مزيد من المتسللين المنتفعين، فقد أصبحت أمريكا للأمريكيين فقط.  كما قام  بالانسحاب من معظم الاتفاقيات التي لا تعود بالنفع على الدولة الأمريكية من وجهة النظر الترامبية، كاتفاقية المناخ، واتفاقية منع انتشار السلاح النووي. فترامب يقوم بعمل حسابات المكسب العائد والخسائر المتكبدة. إن إنسحاب أمريكا من سوريا يراه البعض غامضا ويتساءل: ماذا بعد ذلك؟ لكنه يتجلى في تركه الصبي المتعجرف المنفذ على الأرض، تركيا، يملأ ذلك الفراغ الاستراتيجي. لكن تلك الذراع الفاعلة الموردة للجماعات الإرهابية "داعش"، وما ينطوي تحتها من تنظيمات بمسميات كثيرة، فوجئت بتحرك آخر للدولة السورية، تمثل في لقاء الرجل الثاني في سوريا، علي المملوك، برئيس المخابرات المصري، في لقاء تم الإعلان عنه في القاهرة تزامنا مع دمشق. سوريا دولة محورية لا بد استقرارها، وغير مسموح بأن تنجر لمصير العراق، فهي في نطاق الأمن الحيوي للدولة المصرية. لقد  تناست تركيا أن هناك دولة محورية في المنطقة هي أساس النظام العالمي الجديد، وتعمل على إعلاء مصلحة الشعوب، واستعادة الدولة الوطنية للسيطرة، وفرض الإرادة والسيادة على أراضيها. اتجهت مصر لإعادة الاستقرار في المنطقة، وبناء الجيوش الوطنية مرة أخرى وتدريبها، مثل الجيش العراقي، التي دربت ألوية كاملة منه في معاهدها العسكرية، ومولته بالعتاد العسكري، مما جعله يسيطر مرة أخرى على كامل الأراضي العراقية. هل هزمت أمريكا "داعش" لكى يكون ذلك الذريعة للانسحاب من سوريا؟ حينما نقوم بربط هذا التصريح بتساؤل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن وجهة الإرهابيين بعد الانسحاب، وإلى أين سيتم نقلهم، كما رأينا سابقا بحافلات مكيفة، وأين سيتم زرعهم مرة أخرى؟ ولكن لا مجيب،  فذلك يظهر لنا أن هذا التساؤل يظهر للعالم أن الدولة المصرية ترى جيدا ما يدور في الأنحاء وجاهزة أيضا للرد إذا لزم الأمر.
إن الاستقرار في المنطقة العربية الذي أسهمت فيه القاهرة، يراه ترامب غير مهدد لأمريكا حاليا، وهذا ما جعله يتجه لطرق التجارة العالمية القديمة كطريق الحرير، وهذا ما اعتبره ترامب تهديدا لأمنه الاقتصادي والحيوي أيضا. فنرى تلك المناوشات والتصريحات من حين لآخر، فأمريكا بوصفها أقوى دولة في العالم لا تزال مدينة للصين بتريليونات الدولارات، واستبدال العملات الخاصة بدول تلك المنطقة أقلق أمريكا، لذلك اتجه ترامب لهذه المواجهة للسيطرة على الأوضاع. فالصين بتمددها في المناطق القريبة منها أو البعيدة، كقارة إفريقيا الغنية بالثروات، وهي سوق واعدة للمنتجات الصينية، استوعبت أن مصر هي بوابة القارة السمراء، لذلك دعت مصر لحضور المحافل الدولية، كقمة البريكس، وعقدت معها الصفقات والاتفاقيات الثنائية، والسعي للشراكة المصرية- الصينية، وأخرى إفريقية. إن التعاون المشترك هو اتجاه العالم حاليا في التعاملات الدولية بندية، وليس تبعية، فقد انتهت نظرية القطب الواحد والأوحد، فهناك أقطاب أخرى قوية وفاعلة في العالم، كالصين وروسيا ومصر، التي هي الأساس في العلاقات السياسية في المنطقة العربية، فلا حلول إلا عن طريق القاهرة لأي أزمة.
لقد حان الوقت لإصلاح ما تم تدميره في بعض الدول العربية وأصبح من غير المقبول حدوث هزات أخرى تدخل المنطقة في حروب وصراعات مرة أخرى, تلك الصراعات التي كان الإعلام يعطي إشارة البدء بها، بل وأعلن عن سقوط عواصم عربية، كبغداد مثلا، قبل سقوطها فعليا في يد المحتل الغازي الامريكي. الإعلام سلاح ذو حدين قد يستخدم لبناء الدولة، ويصبح درعا واقية لها ضد هجمات الإعلام الخارجي. لكن في منطقة الربيع العربي او العبري تصحيحا، تم استخدام الإعلام بالحد القاتل المدمر، وترأس تلك المنظومة المدمرة قناة الجزيرة القطرية، فقد قامت تلك الدويلة الصغيرة بتمويل الإرهاب في المنطقة ماديا، واطلقت العنان لقناتها المسمومة لإثارة الفوضى في كل دولة حان وقت تدميرها. وللأسف، فقد إعلام كل تلك الدول هويته واحيانا انتماءه للدولة الناطق باسمها، فرأينا كم الأخبار المغلوطة عن عمد وتم تداولها داخليا وخارجيا لإثارة البلبة في الشارع وبين الشعب الذي يصاب بالتخبط، فينتج رد فعل غير منظم وفوضويا. إنها الفوضى الخلاقة لكونداليزا رايس التي تعهدت بها لمنطقتنا، وكان الهدف مصر. إنها فوضى خلاقة لأوضاع ربما وصلت للمأساوية في بعض الأحيان, وغير الإنسانية في كل الأحوال.
كانت نتيجة هذا الإعلام الممول خارجيا أنه أسرع بوتيرة الأحداث في الدول التي سقطت فعليا، كليبيا، والعراق، واليمن، وكانت تونس أول نموذج للثورات المزعومة. كانت مصر الجائزة الكبرى، لكن خصوصية مصر حالت دون ذلك السقوط. حقيقة لقد مرت مصر بكل مراحل تلك الثورة الهمجية التي قام بها مواطنون يحملون جنسية هذا الوطن، لكن كان هناك حائط صد قوي وسد منيع أنقذ الوطن من الضياع. إنه ذلك المكون المحير للعقول المدبرة لثورات الخراب. هذا المكون يسمى الشعب والجيش, فالشعب ذو النسيج الواحد، لاعرقيات، لا قبليات، بل متوحد متسق يدرك أنه لا يقبل بأن يصبح لاجئا على حدود دولة أخرى, وجيش عتيد قوي، عقيدته حماية الأرض والعرض، أو الموت دونهما. هذان  المكونان أنقذا الدولة المصرية من مصير محتوم رسم بعناية وبذل لأجله مليارات الدولارات، تمويلا وتدريبا لعناصر فاعلة على الأرض، وبمساعدة تنظيم إرهابي يمتد عمره إلى ما يزيد على المئتين من الأعوام. إنها الماسونية بأذرعها المتعددة: إعلام, وإخوان, وتغيير هوية، تمهيدا للسيطرة التى تمثلت في التوغل ثقافيا في تغيير طبائع وعادات الشعوب التي هي محدودة الثقافة، وكارهة للقراءة، ومتابعة ما يحيط بها من أحداث، حتى يحين إطلاق إشارة بدء الفوضى، وطلب التغيير تحت اي مسمى، وبأي ذريعة، فترى المحتجين يبدءون بمطالب محددة، ثم يرتفع سقف المطالب إلى حد المطالبة بإسقاط نظام حاكم، والهدف إسقاط الدولة ذاتها.
في خضم كل هذه الأحداث، أصبح من غير المقبول أن نقيم أوضاعنا بناء على وجهة نظر خارجية وأجنبية، ولا نملك القدرة أو الجرأة على تحليل ما نمر به من أحداث ومستجدات محلية وعالمية. لقد آن الأوان لأن نمتلك صوتا وطنيا خالصا يفسر ويحلل كل ما يحيط بنا, حان وقت تكوين الهوية المعبرة عن خصوصيتنا وثقافتنا، فنحن نملك تلك الأصوات حقيقة، لكن ما العائق أمامها للظهور؟ ولم الاستمرار في الاستماع إلى ما يريد الغرب ان نسمعه ونراه فقط، في حين نجد تعتيما اعلاميا مقصودا عما يدور في تلك البلاد؟ حان وقت تدارك الأوضاع والاستناد للهوية الوطنية.
إن العالم يسير بوتيرة متسارعة نحو بسط النفوذ وإظهار القوة بفرض أوضاع في أماكن بعينها، تزيد الأطماع حولها. وبضغة زر، ربما تختفي دول، وتظهر أخرى, كما يفعل الرئيس ترامب مغردا عبر تويتر، مبلغا العالم قرار انسحابه من سوريا. ترامب استبدل ما كان تقليديا كالمؤتمرات الصحفية، واللقاءات الرسمية الدولية، أو الأحاديث المتلفزة، في نقلة جديدة ترامبية حديثة. 
لقد خطت مصر خطوات كبيرة وسريعة في الأعوام القليلة الماضية داخليا في مجالات التنمية، وإعادة بناء البنية التحتية لتكون منتجة لتملك سيادتها في قرارها, ثم التحركات المدروسة خارجيا بدقة لبسط الاستقرار في المنطقة، وعودة الدول الوطنية بجيوشها، ودحر الإرهاب، والقضاء عليه, فقد أيقن الغرب أن استقرار هذه المنطقة سينعكس عليه تباعا، لذلك سارعوا لدعم مصر ليقينهم بأنه دائما لا حلول إلا عن طريق القاهرة.
ستشهد السنوات القادمة التشكيل النهائي للنظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب بدخول دول جديدة، كمصر، والصين، واليابان مع روسيا وأمريكا. هذا النظام الجديد سيحكم العالم بمنظور جديد، أساسه القوة، مما يخلق بعض التوازنات في العلاقات الدولية.
عودة مصر لدورها الريادي، خاصة في إفريقيا، هى نتيجة عمل دءوب لمجموعة كبيرة وطنية لمدة ثلاث سنوات، نقلتها من انحسار دورها في القارة السمراء إلى عودتها بقوة، ولاقت ردود أفعال مرحبة بتلك العودة، متمثلة في رئاسة مصر للإتحاد الإفريقي لعام  2019 ، وذلك سيكون فرصة لترسيخ مكانتها الإفريقية، ويعيدها لقلب القارة مرة أخرى.
لا تزال الأيام تحمل الكثير من المفاجآت، والمواءمات، والتعاون المشترك بين أطراف متعددة، بناء على مصالح شعوب تلك الدول.. فلننتظر.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    فاطمة الزهراء صالح

    فاطمة الزهراء صالح

    كاتبة مصرية