مقالات رأى

الديون تقود التنمية الاقتصادية العالمية (1-3)

طباعة
الدين أو الاستدانة بصفة عامة هي عملية يلجأ إليها الشخص، عندما يكون عاجزا عن الوفاء بمتطلبات إنفاقه، معتمداً على موارده المالية الخاصة.
لذا، قد يضطر إلى الاستدانة بصورة عرضية، ولفترة مؤقتة، وقد يعتاد على قضاء احتياجاته بالاعتماد على ذلك الأسلوب، وفي جميع الحالات، فإن الاستدانة ليست ملاذ الشخص الضعيف أو المؤسسة أو الدولة الضعيفة، وإنما تحولت إلى سلوك اقتصادي قد يعتمد عليه الأقوياء بمختلف أشكالهم في الوصول إلى أهدافهم التنموية.
وإذا نظرنا إلى الديون الخارجية من وجهة نظر الدول، يمكن تعريفها بأنها تساوي مجموع الأموال المتمثلة في أصل الدين وفوائده، والتي اقترضتها الدولة وفقاً لسعر الفائدة الذي تم تحديده قبل الحصول على تلك القروض.
والمتتبع لجذور المديونية الخارجية، سيجد أنها تطورت بصورة ملحوظة في عهد الإمبراطورية العثمانية، وذلك من أجل تمويل حربها ضد روسيا. ففي الفترة بين 1854 و1879 قام العثمانيون بعقد 18 قرضا، وكانت الحكومة العثمانية تقوم دائما بتسديد فوائد الديون، من خلال عقد قروض جديدة. وبحلول نهاية عام 1874 بلغ إجمالي الدين العام الخارجي للدولة العثمانية 185 مليون جنيه استرليني، في حين بلغ الدين الداخلي أكثر من 20 مليون جنيه استرليني. ولم تستطع الدولة العثمانية عقد المزيد من صفقات القروض، وتوقفت عن دفع فوائد قروضها القديمة عام 1876، وهو الأمر الذي يعني إفلاس الإمبراطورية العثمانية، التي ركزت على التوسعات والمطامع الإقليمية، مما حاد بها عن استغلال القروض في التنمية، فوقعت في فخ الانهيار.
  وبالنظر إلى مصر، نجد أنها قد اعتمدت عليها بدرجة كبيرة في تحديث اقتصادها بدءاً من عام 1864، في عهد الخديوي إسماعيل، الذي اهتم بأن يعطي مصر دفعة قوية نحو المعاصرة في شتى المجالات المتمثلة في إعمار المدن وتنظيمها وتخطيطها وتجميلها، فنجد أنه قد أنشأ العديد من الأحياء والميادين في القاهرة والإسكندرية، كما توسع في بناء القصور، والانتهاء من حفر قناة السويس، واهتم بتطوير أنظمة الري، وزيادة الرقعة الزراعية، فشق العديد من الترع والمصارف، وأنشأ وزارة الزراعة، واستحدث العديد من المحاصيل الزراعية، واتجه إلى التصنيع الزراعي، وإنشاء المصانع اللازمة لذلك، مثل معامل تكرير السكر، ومصانع النسيج، فنجده قد اهتم بصناعة النسيج، والطوب، والدباغة، والورق، والزجاج، كما قام بتطوير السكك الحديدية ومد خطوطها في أرجاء المحروسة لتيسير عملية نقل الأفراد والبضائع، كما أنشأ العديد من المستشفيات واهتم بصحة المواطنين، واهتم بالتعليم والثقافة، خاصةً تعليم الفتيات، ولم يغفل عن حماية الآثار المصرية والعربية والإسلامية، فأنشأ المتاحف المخصصة لذلك، بالإضافة إلى اهتمامه بالتطوير المؤسسي لعدد من المصالح الحكومية في ذلك الوقت.
وقد اعتمد الخديوي إسماعيل في تلك الأعمال التنموية على القروض بشكل كبير، حيث يعود له الفضل، بعد جده محمد علي باشا، في بناء مصر الحديثة، فقام بتحديث كلٍ من المجالس النيابية، والقضاء، والتعليم، والصحة، والمرافق، والزراعة، والصناعة، والتوسع العمراني، والإصلاح الإداري، وتأهيل مؤسسات الدولة، فبلغت إجمالي القروض في عهده نحو 120 مليون جنيه، وهناك بعض الروايات تقول إن تلك القروض لم يتم إنفاقها بصورة كاملة على أعمال التنمية، ولم تتحصل خزانة الدولة سوى نصف هذه الأموال، وهناك من يقول إنه كان شديد الإسراف.
إلا أن المتتبع لسنوات حكم الخديوي إسماعيل سيرى بوضوح أنه في الوقت ذاته الذي انغمست فيه الإمبراطورية العثمانية في حروبها وتوسعاتها الإقليمية، مستخدمة القروض، فقد استطاع إسماعيل أن يوجه ما تحصَّل عليه من القروض الخارجية نحو بناء مصر، وهو الأمر الذي أثار تخوف الإمبراطورية العثمانية، حيث استشعرت في توجهاته النزعة الاستقلالية، وشاركتها في تلك المخاوف كلُ من إنجلترا وفرنسا، فتم الضغط على الإمبراطور العثماني، ليقوم بعزل إسماعيل عام 1879.
ومن الجدير بالذكر، ولمن لا يعرف، أن مصر حينما دخلت في دياجير ظلمات عدم القدرة على دفع التزاماتها المالية من الديون عام 1876 في عهد الخديوي إسماعيل، فإنها كانت في ذلك الوقت جزءاً من الإمبراطوية العثمانية وتابعة لها، وهو ذات العام الذي توقفت فيه الإمبراطورية العثمانية بأكملها عن الوفاء بالتزاماتها. لتدخل مصر بعد عزل الخديوي إسماعيل في حقبة جديدة من الحكم والولاية، وذلك بانهيار الإمبراطورية العثمانية، وبداية الاحتلال البريطاني.
وعقب الحرب العالمية الأولى عام 1918، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية البلد الدائن الأول لباقي دول العالم. ومنذ عام 1929، وبحلول أزمة الكساد الكبرى، والتي نتج عنها انخفاض الإنتاج والصادرات وانهيار الأسعار، بدأت الدول في اللجوء بشكل أكبر إلى الاستدانة، بهدف تعويض خسائرها.
وعقب الحرب العالمية الثانية، وتغيرت الأوضاع الاقتصادية العالمية بتوقيع اتفاقية Bretton Woods بريتون وودز، والتي سميت بهذا الاسم، استناداً إلى مكان توقيع الاتفاقية في الولايات المتحدة. وتهدف هذه الاتفاقية إلى توجيه القروض نحو إعادة تعمير ما دمرته الحرب العالمية الثانية وذلك من خلال توفير أكبر قدر ممكن من السيولة الدولية.
وبموجب اتفاقية Bretton Woods بريتون وودز، تم إنشاء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وبناءً عليه، عمل الصندوق على تشجيع الاستقرار المالي الدولي، وذلك من خلال توفير المساعدات قصيرة الأجل لمساعدة الأعضاء الذين يواجهون عجزًا في ميزان المدفوعات. وقد أعطى البنك الدولي قروضًا دولية ذات آجال طويلة، خاصة للدول ذات النمو المتدني.
بعد عرض تلك المقدمة التاريخية حول التوجه العالمي نحو الاستدانة، نجد أن هدف الاستدانة يكمن في تغطية الاحتياجات التي لا تستطيع موازنة الدولة تحملها، إلا أن طرق الإنفاق في تلك الأموال التي يتم اقتراضها هي التي تحدد الجدوى منها.
فالدول التي استخدمت القروض في أغراض توسعية، وتغطية نفقات الحروب، نجدها قد سطرت لنفسها وبيدها مشهد انهيارها، والدول التي تستخدم القروض في تحقيق التنمية الاقتصادية، فسوف تبلغ ما تصبو إليه. إلا أن الأمر يحتاج إلى التحلي بالرشادة في أوجه الإنفاق، كي لا تشكل القروض أعباء على كاهل الدولة.
وما بين التنمية العالمية من عدمها، تلعب القروض الدور الرئيسي. لذا، فعلى الدول أن تتحلى بالتخطيط الدقيق، والرشادة في إنفاق تلك القروض بتوجيهها إلى أوجهها المستحقة، وذلك كي تصل إلى التنمية المستهدف تحقيقها.
وهو ما سيتم تناوله في المقالتين القادمتين، فستأتي المقالة الثانية الخاصة بالديون لتحلل نماذج من توجهات الدول في الحصول على القروض، وذلك بالاستناد إلى أحدث التقارير العالمية للمديونية، لنعرض أهم المؤشرات الدولية في ذلك الشأن والمتمثلة في إجمالي الدين الكلي، والتفرقة بين الديون قصيرة الأجل التي تستخدم لأغراض تمويلية سريعة، وقروض أخرى طويلة الأجل، والتي يمكن استخدامها في المشروعات ذات العائدات الآجلة، بالإضافة إلى تحليل نسبة تلك الديون إلى  إجمالي الدخل القومي، ونسبتها من كلٍ من إجمالي الصادرات السلعية، والاحتياطيات من النقد الأجنبي، وقدرة الدولة على الوفاء بأقساط وفوائد تلك القروض.
وسيأتي المقال الأخير من تلك السلسلة، ليركز على تطور التوجه المصري نحو الاستدانة، ودور الديون في تحقيق التنمية الاقتصادية المصرية، والإجراءات المصاحبة لذلك.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء سراج عمارة

    د. شيماء سراج عمارة

    دكتوراه في الاقتصاد وخبير تقييم مشروعات