مقالات رأى

ولنا في حرب أكتوبر العظة

طباعة
دائما عندما يسيطر علينا الإحباط لما وصلت إليه الشعوب العربية من ترد، وفي ظل العديد من الأزمات التي تمر بها دول المنطقة والمحاولات الغربية للعودة بنا إلى عصر الجاهلية عن طريق غرس عناصر تقوم بتصدير التخلف الى جموع العرب، كل ذلك بتخطيط واضح وصريح من الغرب ليصب في مصلحة إسرائيل، حتى لا تقوى الدول العربية مرة أخرى على مواجهتها، مرة أخرى، علينا أن نتذكر جيدا ما حدث في حرب اكتوبر المجيدة، وما قامت به مصر بمساندة الدول العربية من تحطيم جميع المخططات الإسرائيلية وليست العسكرية فحسب، وإنما الفكرية والحضارية والعلمية.
علينا أن ننظر مليا لحرب أكتوبر المجيدة، والتي تعد أغلى هدية قدمها جيش مصر الباسل للشعب منذ فجر التاريخ وحتي وقتنا، وذلك بدفاعه المجيد عن تراب الوطن وكيانه الحضاري، وأعادت البريق الساطع لمصر، حيث إن الحرب لم تنقذ مصر والأمة العربية من نكسة حربية فحسب، ولكن أقالتها أيضا من نكسة حضارية، في وقت أصبح فيه الخطر الحقيقي على أي أمة أن تتعثر خطواتها في الخروج من دائرة التخلف، أو أن تقوم في العالم علاقات حضارية غير متكافئة، تزيد الأقوياء قوة، والضعفاء ضعفا .
وكان أخطر ما واجهته مصر والأمة العربية بعد نكسة 67 هو اكتشاف جوانب في تلك الكارثة، ترجع إلى بقايا مراحل التخلف الحضاري، والتي جاءت وليدة رواسب الماضي، وما صاحبها من مؤامرات الاستعمار والصهيونية على مسيرة التقدم العربي وجهاده، واندفع المصريون والعرب للبحث عن أسباب النكسة. وجاء أول الأسباب متمثلا فى أهمية العلم في أدوات القتال وأجهزة الدولة، باعتبارهما مظهرين من مظاهر الحضارة، أو نتاجا من منجزات الحضارة، وانتهى الأمر بالباحثين إلى إعادة تقويم الحضارة، وتلمس السبل لتحريرها من أغلال التخلف، وباعتبار ذلك وحده هو السبيل لكسر حلقة الحصار الحضاري الذي فرضه العدو عليهم بعد نكسة 67.
وخلال هذا التقويم تكالبت على الأمة العربية كل القوي المعادية للتقدم الإنساني، واستهدفت هذه القوى أن تبقى دائما متفوقة علي الأمة العربية، وأن يظل بينها وبين أبناء العالم العربي فارق مئات الأعوام، وذلك من خلال الكتابات والمقالات والدراسات ومصدرها الصهاينة، وأنصارهم في الغرب، وتعبر جميعها عن نظرة حضارية متعصبة، وتروج لأفكار غريبة ومنحرفة، وغير صادقة عن ماضي الأمة العربية وحاضرها، وتنذر كذلك بسوء مستقبلها، واستهدف كل ذلك قتل الروح المعنوية عند أبناء الأمة العربية، وذلك لأن قادة إسرائيل كانوا يخشون، رغم انتصارهم في 67، عودة الحضارة العربية للازدهار، لأن تلك الحضارة كفيلة بهدم كل انتصار حربي يحصلون عليه. وكشف عن هذه الحقيقة ( مناحم بيجين ) حين قال للإسرائيليين : ينبغي ألا تستكين إسرائيل لكم حتى تقتلوا أعداءكم، ولا تأخذكم بهم شفقة حتى تدمروا الحضارة العربية، ونقيم حضارتنا على أطلالها .. وعزز ( إيجال ألون ) هذا القول حين قال : من الجوهري لتحقيق السلام انتزاع الأمل الواهم في النصر من عقول العرب مرة وإلى الأبد، وعادت ( جولدا مائير ) إلى تأييد هذه النظرة الإسرائيلية، حيث قالت : إن الحدود الآمنة التي يمكن الدفاع عنها وبسهولة هي عبارة عن الحظ الذي يمكننا من جعل العرب يتنازلون عن الرغبة في استئناف الحرب .
وكان الرد المصري على كل هذه العبارات الفارغة قويا ومدويا، ونزل عليهم كالصاعقة، حيث جاءت حرب أكتوبر المجيدة، وأسكتت جميع الألسن الإسرائيلية المتغطرسة، وقلبت جميع موازين القوى في المنطقة، وكانت هذه المعركة ليست حربية فحسب، ولكنها حضارية أيضا، واستطاعت هذه الملحمة أن تدفع بالأمة العربية إلي تجاوز ما كانت تعانيه من معالم التخلف الحضاري على اختلاف أشكاله، وصوره، وكان من أهم آثار حرب أكتوبر في هذا المجال، أولا : اجتياز التخلف العلمي والتكنولوجي، وكانت هذه أول نقطة في تجاوز التخلف الحضاري للأمة العربية، والترجمة العملية والفورية لما راود تلك الأمة من آمال، وما بذلته من محاولات في هذا الميدان منذ قيام نهضتها في مطالع العصر الحديث، بحيث تخلصت الأمة العربية مما سادها فور وقوع نكسة 67 من وهم التفوق التكنولوجي للعدو، وأنه السبب فيما تحقق له من نصر وأدركت أن الصراع الدائر بينهما ليس صراعا حربيا فحسب، لكنه صراع حضاري أيضا، تمثل فيه إسرائيل استمرارا للحضارة الغربية، التي سبق أن تصدت لها الأمة العربية، وحالت بينها، وإجهاض ما حققته من تقدم علمي، وليس أدل على قوة هذا النصر الحضاري، من اعتراف شيمون بيريز حيث قال : لقد وضع العرب نصب أعينهم بعد فترة طويلة من التخلف الحضاري سؤالا كيف حدثت نكسة 67 بعد مئات السنين كانت لهم فيها مكانة مرموقة بين العالم من النواحي الفنية على قلب موازين إسرائيل قائلة : إن كل المعلقين العسكريين الإسرائيليين وكل القادة والجنرالات المتقاعدين  ظلوا 6 سنوات يقولون إننا نملك عمقا استراتيجيا وتفوقا عسكريا، وكتبوا أن المصريين لن يقدموا على عبور قناة السويس بالقوة لأنها تشكل خط حدود طبيعيا، وأن الزمن من حقنا، وأن الصواريخ المصرية قديمة الطراز، ولا يعرف الجندي المصري كيف يستخدمها، وأنه إذا جاءت الحرب بعد ذلك ستكون قصيرة وخاطفة وتنقضي في 90 دقيقة، وعندئذ سيهزم المصريون نهائيا، ثم حدثت المفاجأة وأصبح كل كلام الخبراء والقادة كذبا، وإذا بهم يبررون هذه الهزيمة بصورة أخري . لقد استطاع المحارب المصري العظيم في حرب أكتوبر المجيدة أن يعبر في سرعة خاطفة فجوة التخلف الحضاري، بين ما ينتجه التقدم العلمي والتكنولوجي من عدة وعتاد، والقدرة علي استيعاب أبعاد هذا التقدم.
فلقد تمكن المقاتل المصري أن يقفز بالأمة العربية ككل من القرون الوسطي إلي القرن العشرين، وأثبت أن المصريين قادرون على استيعاب العصر ومعداته وبصورة تنتزع الإعجاب والتقدير، وتجلى ذلك في جهود الجيش المصري، حين أظهر من الابتكارات العلمية ما وضع حدا للتخلف الحضاري الذي اعتمدت عليه إسرائيل في فرض سطوتها على العرب، فقد قالت إسرائيل مرارا وتكرارا إن القوات المسلحة المصرية ستسحق خلال 24 ساعة لو حاولت عبور القناة، ولكن القوات المسلحة قلبت التقدير الإسرائيلي بفضل ما للعقلية المصرية من أصالة علمية، وقابلية للتطور، وأذهل الجندي المصري خبراء الاستراتيجية، وعلماء الاجتماع بما حققه من كفاءة حضارية في ساحة القتال . ثانيا : كسر التحدي الحضاري، حيث حاصر التحدي الحضاري الأمة من مطالع نهضتها في العصر الحديث واستحكمت حلقاته حول كيانها الحضاري، مع وقوع نكسة 67 ، واتخذ التحدي الحضاري مع التخلف العلمي والتكنولوجي، للأمة العربية دليلا علي عجزها الفطري عن الأخذ بأسباب التقدم، وأنها لا يمكن أن ترقي إلى مصاف الأمم الكبري المعاصرة لها. فقد أوجد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء حاجزا يحول بين الأمة العربية في المشرق، ومد يد المساعدة للمغرب، فضلا عن فرض حصار محكم علي باب مصر الشرقي، وتبلور الهدف الإسرائيلي في العمل علي إيجاد حواجز فكرية وثقافية مصطنعة، من شأنها تعميق رواسب الماضي في البلاد العربية، والإبقاء عليها في حالة الركود الحضاري، وفصل الأمة العربية في حاضرها عن جذورها التاريخية، والتي تستمد منها مقوماتها، وشخصيتها، والترويج للادعاء القائل بوجود تفوق حضاري لليهود علي العرب . وجاءت حرب أكتوبر لتضع حدا لهذا التحدي الحضاري الذي واجهته الأمة العربية بعد 67، وتفتح الباب أمام عصر حضاري جديد للعرب قائم على الأخذ بأسباب التقدم في العالم وحضارته العصرية الرائعة، إذ هدمت حرب أكتوبر دعائم التحدي الحضاري للعدو القائم علي تلك الادعاءات الثلاثة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، ودولة إسرائيل الديمقراطية الجديدة، وواحة المدنية وسط صحراء التخلف ، فهل لنا  الآن أن نعيد وحدتنا، وأن نلتف حول هدف واحد، قبل أن تندثر الأمة كما اندثرت حضارتها.
 
طباعة

    تعريف الكاتب

    جميل عفيفي

    جميل عفيفي

    مدير تحرير جريدة الأهرام