مقالات رأى

هيلاري كلينتون: النسوية الملتوية في خدمة الانتخابات

طباعة
«ذكر بدرجة الشرف»، مصطلح مألوف للناشطات النسويات وللعاملات والعاملين في مجالات الدراسات الاجتماعية والنقد الأدبي عند وصف بعض النساء اللواتي لا يعتقدن بمبادئ النسوية السليمة، ولا يمارسنها في حياتهن اليومية. يصف المصطلح إمرأة تسلّم بقيم المجتمع البطريركي، وتتعامل بها عن قناعة بدلاً من محاولة تفكيكها وعكسها. وهي غالباً ما تساهم في قمع حريات النساء الأخريات وتجريدهن من حقوقهن عبر اعتناقها الخطاب الذكوري، وآليات الهيمنة الذكورية، والتراتبية المجتمعية الجندرية التي تعمل على تهميش النساء. يشير العديد من الدراسات إلى أن سيطرة الذكورة على المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ كانت السبب المباشر للحروب والأهوال التي مرت بها البشرية. وتترجم الكثير من الأساطير والملاحم القديمة هذا الواقع في وصفها النقلة الهائلة التي شهدتها البشرية في العصور الغابرة عند صعود آلهة الحضارة المادية الذكورية المتعطشة للدماء والغزو على حساب آلهة الطبيعة الأم الرحيمة والجامعة.
 
في عصرنا الحالي لا يزال هذا الصراع يترجم في الكثير من مناحي الحياة، ويتجلى اليوم أكثر ما يتجلى في الانتخابات الأميركية وفي خدعة «تحطيم السقف الزجاجي» التي تنتحلها المرشحة «الديموقراطية»، هيلاري كلينتون. يشير مصطلح «السقف الزجاجي» إلى ذلك الحاجز غير المرئي الذي يمنع المرأة من الوصول إلى منصب رفيع ــ كأن تصبح رئيسة للولايات المتحدة ــ في دول تمنح المرأة ظاهرياً حقوقها كافة بالتساوي مع الرجل. استخدمت كلينتون هذه الصورة المخاتلة كثيراً في حملتها بالاشتراك مع الكثير من المشاهير من النساء اللواتي يسوّقن لحملتها. وكما هي العادة في الانتخابات الأميركية ــ أو في كل ما يخص الثقافة الأميركية عموماً ــ تسود القيم السطحية في التعاطي مع أي أمر، ويصبح السباق الانتخابي مقتصراً على الهوية الجندرية المجردة للمرشحين من دون التعمق في الإطار المفاهيمي والفكري للمرشحة المرأة. ليزا فيثرستون، محررة كتاب «الخيارات المزيفة: نسوية هيلاري رودهام كلينتون الخاطئة»، وأحد أهم الأصوات الناشطة التي تعمل على كشف نفاق كلينتون من أجل فوزها بأصوات النساء، ترى أن هيلاري لا تمثل صوت المرأة الأميركية الحق، وهي تعتقد أنه لو كانت الحركة النسوية تهتم فقط بالنساء القابعات على قمة المجتمع فهي ليست نسوية على الإطلاق؛ بل إنها لا تعدو أن تكون شكلاً من أشكال النخبوية ليس إلا.
 
وإذا ما كان الرجال عبر التاريخ مسؤولين عن انتشار العنف وخطاب الكراهية والعار ونشوب الحروب واعتماد أساليب الكذب والخيانة في التعامل بين البشر؛ فلا يبدو أن كلينتون ترغب بالتمرد على هذه الثقافة الذكورية سوى عبر تقديم نفسها كأول إمرأة تحكم الدولة الأقوى في العالم، ولكن عبر الآليات المستخدمة ذاتها من قبل أي رئيس رجل آخر. في مسيرتها السياسية الطويلة سعت هيلاري كي تثبت للرجال أنها تستطيع أن تكون أكثر قسوة وميكيافيلية وخداعاً منهم، كما ترى كاتي هالبر الكاتبة والمدونة الساخرة، التي عملت على تجميع آراء عدد من الناشطات النسويات ممن لا يعتقدن أن هيلاري تمثلهن ولا تعكس شخصياتهن وأنماط حياتهن، بل إنها تعمل على تمكين نفسها بالدرجة الأولى ولا تلتفت إلى تمكين النساء من مختلف الطبقات الإثنية والاجتماعية والاقتصادية.
 
برغم الجهود الكبيرة التي تبذلها معظم الوسائل الإعلامية الرئيسية في أميركا من أجل التسويق لمحاسن كلينتون وتغطية مثالبها على حساب دونالد ترامب، المرشح «الجمهوري» الإشكالي، يبقى الكثير مما لا يمكن إخفاؤه. وقد استطاع الكثير من الناشطين متابعة تغير مواقفها خلال حياتها السياسية وصولاً إلى حملتها الرئاسية الحالية، وجمع الكثير من الأكاذيب التي تقولها. فما على المرشح الرئاسي في أميركا سوى إعداد قائمة بأهم المواضيع التي يرغب الناس في سماعها ومن ثم التطرق لها بغض النظر عن أي رأي سابق. فإذا كانت النسبة الأكبر من الناخبين ـ وفقاً للإحصاءات ـ ترغب في تحريم الإجهاض أو في تشريع زواج المثليين أو في تقنين الهجرة، فليكن، فهذا ما سوف يسمعونه وغداً يوم آخر. أما عن النساء في أميركا، فإن الأرقام والدراسات تؤكد على استمرار ممارسة العنف الأسري والمجتمعي تجاه النساء والتمييز ضدهن في مجالات العمل وعدم مساواتهن بالرجال في ما يتعلق بالرواتب والمكافآت وحرمانهن من إجازات الأمومة المدفوعة. هذه الإشكاليات هي ما تخلق سقفاً كتيماً يضغط على المرأة الأميركية، ولم يثبت يوماً أن كلينتون بذلت جهداً ملموساً خلال حياتها السياسية المديدة من أجل تغيير هذا الواقع. شاركت هيلاري في مجلس إدارة «ولمارت» لمدة ست سنوات من دون أن تعمل على تحسين وضع موظفات الشركة اللواتي يشكلن النسبة الأكبر في الشركة. وهي اليوم تعد الناخبات بالأجر المتساوي مع أجور الرجال فيما أشارت «فوكس نيوز» مؤخراً إلى أن موظفي «مؤسسة كلينتون» من الرجال ينالون رواتب أعلى من النساء كما هي الحال في أي مؤسسة أميركية أخرى.
 
وفضائح كلينتون الأخرى يجري تجاهلها بشكل يثير شكوك الكثير من الباحثين. فقد عملت كلينتون على مخالفة القانون واعتمدت في مراسلاتها الإلكترونية عندما كانت وزيرة للخارجية على مخدم خاص استطاعت عبره تجنب الرقابة الحكومية على مراسلاتها من جهة، لكنها عرضت أرشيف الخارجية للاختراق من قبل القراصنة من جهة أخرى. هذا بالإضافة للكثير من الإدعاءات والاتهامات في قضايا فساد وهدر أموال «مؤسسة كلينتون» وإهمال إداري وأخطاء أدت إلى مقتل السفير الأميركي في بنغازي على يد متطرفين في العام 2012. هذه كلها تصرفات لا تلقى قبولاً من أي ناشطة نسوية حقيقية تريد أن ترى في كلينتون ما هو أبعد وأعمق من مجرد إمرأة تصارع للوصول إلى سدة الرئاسة بشتى السبل.
 
تبقى كلينتون ممثلة وفية للمؤسسة السياسية الأميركية بكل بساطة، وهي تلك المؤسسة التي لا تأبه لصفات الرئيس الشخصية على حساب تنفيذ خططها وسياساتها. جاء باراك أوباما شاهداً على نقلة نوعية تمثلت في وصول أميركي من أصول أفريقية إلى سدة الرئاسة؛ ولكن تنامت في عهده الحوادث العنصرية ضد السود. وكشفت «أحداث فيرغسون» عن تجذر إشكاليات الكراهية والتمييز والإنعزالية في المجتمع الأميركي.
 
وبرغم مغازلتها النساء في وجه ترامب، ذي التعليقات المهينة للمرأة والسلوك الشخصي والتجاري المسيء لكرامة المرأة وكينونتها، وبرغم وقوف الكثيرات من ممثلات وفنانات وناشطات وكاتبات وإعلاميات إلى جانبها، لا تزال هيلاري غير قادرة على إقناع أخريات كثر أنها بالفعل داعمة للمرأة، ولا أنها ذات توجهات تحض على السلم والتآلف والبناء كما يجدر بالإمرأة القيادية أن تكون.
 
وإذا كانت مادلين أولبرايت تعتقد بوجود مكان خاص في جهنم للنساء ممن لا يساندن النساء الأخريات، فهي على ما يبدو نسيت أن جهنم رحبة جداً للنساء ممن تسببن في موت آلاف النساء الأخريات والأطفال في العراق وليبيا وسوريا وأفغانستان وأماكن أخرى من حول العالم جراء سياسات وضعتها أو شاركت في صناعتها كل من أولبرايت وكلينتون نفسيهما. آنوا تشانغا ناشطة ومحامية ومؤسسة حركة «نساء من أجل بيرني (ساندرز)» تعرضت للاضطهاد واتهامات بخيانة جنسها من قبل مناصرات هيلاري، ولكنها تقول إنها لا تصوت لجنس المرشحة الإمرأة فقط، بل تريد لصوتها أن يأخذ في الاعتبار الكثير من المسائل الأخرى التي تهم النساء بحق.
 
---------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 7-11-2016.
طباعة

تعريف الكاتب

يامن صابور