تحليلات

إستعادة المصريين لهويتهم الحضارية في افتتاح المتحف المصري الكبير (GEM).. مقاربة أنثروبولوجية

طباعة

شهدت مصر في الأول من نوفمبر 2025 حدثًا ثقافيًا استثنائيًا تمثل في الافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير (Grand Egyptian Museum)، الذي يُعد أكبر متحف في العالم مخصصًا لحضارة واحدة، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، منها المجموعة الكاملة لتوت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة منذ اكتشافها عام 1922. وتجاوزت أهمية الحدث قيمته المعمارية التي بلغت نحو مليار دولار، لتنعكس في المشاركة الشعبية غير المسبوقة التي تحولت إلى احتفال وطني واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

يأتي هذا الافتتاح تتويجًا لعقدين من الجهود التي تأثرت بالتحولات السياسية منذ 2011 وجائحة كورونا والتوترات الإقليمية، قبل أن يُعلن عن المشروع في احتفال عالمي جمع بين الأصالة والتكنولوجيا. وتميزت المشاركة الشعبية بطابع رقمي، حيث استخدم المصريون الذكاء الاصطناعي لتجسيد أنفسهم في هيئة ملوك وملكات قدماء، وانتشرت هاشتاجات مثل #GrandEgyptianMuseumو*#Pharaohs*، بما يعكس تحول الهوية الثقافية إلى ممارسة تفاعلية في العصر الرقمي. كما استقطب المتحف أكثر من 18 ألف زائر في اليوم الأول لافتتاحه للعامة في 4 نوفمبر، مما أكد دوره في تنشيط السياحة وتعزيز الصورة الدولية لمصر كمركز حضاري ينافس متاحف عالمية مثل اللوفر والمتحف البريطاني.

صُمم المتحف على يد مكتب Heneghan Pengالأيرلندي، في تزاوج بين الحداثة والرموز الفرعونية، حيث تطل واجهته الزجاجية على الأهرامات لتجسّد الصلة البصرية بين العصور. أما من الداخل، فتتيح القاعات التفاعلية وتقنيات الواقع الافتراضي للزوار استكشاف المقابر الفرعونية، في تجربة تُبرز فكرة أن التراث المصري كيان حي ومتجدد. وهكذا يشكّل المتحف استثمارًا استراتيجيًا بقيمة مليار دولار يوظف التاريخ كأداة للتنمية الاقتصادية والثقافية.

من هذا المنطلق، تبرز إشكالية أنثروبولوجية مركزية: لماذا يميل مجتمع معاصر إلى استدعاء رموزه الحضارية القديمة في لحظة رقمية حديثة؟ هل هو حنين إلى الماضي، أم آلية للدفاع الثقافي واستعادة التماسك في ظل تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية عميقة؟ في ضوء الأنثروبولوجيا الثقافية، يمكن فهم هذا الاستدعاء كاستجابة لهويات مهددة بفعل العولمة، وكآلية مقاومة رمزية ضد الصور النمطية التي تحصر مصر في كونها "بلدًا قديمًا" فقط.

لقد تحولت الاحتفالية من مجرد حدث بصري إلى فعل رمزي يعيد تشكيل الهوية الجماعية. فتمثيل الذات كفرعون على المنصات الرقمية ليس "تريندًا"، بل ممارسة رمزية تعيد تعريف العلاقة بين الفرد وتاريخه. وهنا تلتقي الظاهرة مع مفاهيم مثل "الهوية السائلة" لزيجمونت باومان، حيث يسعى الأفراد في عالم متغير إلى رموز صلبة تمنحهم الثبات، ومع "الهوية الهجينة" لـ"هومي بهابها" التي تدمج الماضي بالحاضر، و"الأداء الهوياتي" لجوديث باتلر حيث يصبح استدعاء التراث فعلًا يعيد إنتاج الذات.

وانطلاقًا من هذه المقاربة، يهدف المقال إلى تحليل الظاهرة ضمن إطار نظري مركب يشمل أربعة مداخل أنثروبولوجية رئيسة:

1- الذاكرة الجماعية (Maurice Halbwachs)

2- الهوية الثقافية طويلة المدى (Jan Assmann)

3- طقوس العبور والتحول (Victor Turner)

4- رأس المال الرمزي واقتصاد المعنى (Pierre Bourdieu)

كما يتقاطع التحليل مع مفاهيم مكمّلة في دراسات الإعلام والهوية، مثل الذاكرة الرقمية والهويات الهجينة، لفهم كيفية اندماج التقاليد مع التكنولوجيا في إعادة إنتاج الهوية المصرية المعاصرة.

وتفترض الدراسة أن الاحتفالية الشعبية في افتتاح المتحف المصري الكبير تمثل عملية استعادة نشطة للهوية الوطنية وليست تجميلًا للماضي، حيث يُستدعى التاريخ كأداة تنظيم نفسي وثقافي لمواجهة المستقبل، كما يتجلى في التفاعل الشعبي الرقمي الذي جمع بين الحنين والانتماء والإبداع التكنولوجي.

1- قراءة أنثروبولوجية لظواهر استدعاء الهوية:

أولاً- الذاكرة الجماعية:

الماضي لا يقبع في الخلف، بل في الداخل (Maurice Halbwachs) يرى موريس هالبواكس (1925) أن الذاكرة ليست مجرد عملية عقلية فردية، بل بناء اجتماعي تُنتجه الجماعة وتعيد تشكيله وفق احتياجاتها الحالية. فالذاكرة ليست ما نتذكره، بل ما نعيد إحياءه. وفق هذا المفهوم، لا تعبر صور المصريين بزي فرعوني عن عودة للماضي، بل عن استخدام الماضي كاستراتيجية هوياتية للحاضر. فالفرد لا يتذكر التاريخ كما هو، بل كما تفرضه الجماعة عليه كي يحافظ على تماسكه. وبالتالي، حين يقوم المصري بتجسيد نفسه على هيئة مصري قديم باستخدام الذكاء الاصطناعي، فهو لا يقلد المصريون القدماء ولا يسعى للانتماء الرمزي لهم فقط، بل يستخدم الذاكرة الجمعية كآلية لإنتاج معنى للذات داخل الحاضر. هنا تتحول الذاكرة من "استرجاع" إلى إنتاج للهوية.

هنا، يمكننا النظر إلى كيفية عمل الذاكرة الجماعية في السياق الرقمي. ففي دراسات حديثة حول الذاكرة الرقمية، يُشار إلى أن وسائل التواصل تحول الذاكرة من بناء جماعي تقليدي إلى بناء تفاعلي فوري. فالأمر ليس مجرد تعبير فردي، بل يعزز الذاكرة الجماعية من خلال المشاركة الرقمية، حيث يحصل على إعجابات وإعادة نشر، مما يبني شبكة من الذاكرة المشتركة. كما أن هالبواكس نفسه يؤكد أن الذاكرة تتشكل في "إطارات اجتماعية"، وهذا الإطار هو الرقمي، الذي يجعل الذاكرة أكثر ديمقراطية وانتشارًا.

في الواقع، خلال الأيام القليلة بعد الافتتاح، شهدت منصات مثل Instagramآلاف المنشورات المماثلة، حيث تحول مشاهير مثل شاه روخ خان إلى صور للمصريين القدماء عبر الـ AI، مما يعكس كيف أصبحت الذاكرة أداة عابرة للحدود الثقافية. هذا التوسع يجعل الذاكرة ليست فقط جماعية محليًا، بل عالمية، حيث يشارك غير المصريين في إحياء الرموز الفرعونية، مما يعزز من قيمة الهوية المصرية في السياق الدولي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن ربط هذا بدراسات عن "الذاكرة الاصطناعية"، حيث يساعد الذكاء الاصطناعي في إعادة بناء الماضي بطريقة شخصية، مما يجعل الذاكرة أكثر حيوية وتفاعلية. هذا يعني أن الذاكرة لم تعد سلبية، بل أصبحت عملية إنتاجية، حيث يساهم كل فرد في تعزيز الرواية الجماعية، خاصة في لحظات مثل الافتتاح التي تتطلب تأكيد التماسك الاجتماعي. كذلك، في سياق مصري، بصبح المتحف إطارًا جديدًا لإعادة إحياء الذاكرة الفرعونية كأداة للتماسك في أعقاب التحديات الاجتماعية وما مرت به مصر من اضطرابات على مدار العقد ونصف المنصرم. دراسة حديثة في مجلة الأنثروبولوجيا الرقمية تؤكد أن مثل هذه الظواهر تحول الذاكرة إلى "شبكة حية"، حيث يصبح كل مشارك جزءًا من بناء الهوية الجماعية.

ثانياً- الهوية الثقافية طويلة المدى:

 الشعوب لا تخاف حين تتذكر (Jan Assmann)، يقدم چان أسمان مفهوم الهوية الثقافية طويلة المدى، المميزة للكيانات الحضارية ذات التاريخ الممتد. فالهوية ليست فقط هوية سياسية تتغير بتغير النظام أو الاقتصاد، بل هناك هوية أعمق تتجذر عبر آلاف السنين وتظل حاضرة حتى بعد تغير كل شيء آخر. في الحالة المصرية، يشكل التاريخ المصري القديم خزانًا للهوية العميقة. وحين يواجه المجتمع ضغوطًا سياسية أو اقتصادية أو وجدانية، فإن الأفراد يلجؤون إلى هذا الخزان لتأكيد استمراريتهم عبر الزمن. لهذا، فإن ارتداء زي مصري قديم في افتتاح المتحف لا يعني التماهي مع الماضي بقدر ما يعني: "أنا لست بلا جذور".

هذا هو الفرق بين الحنين إلى الماضي والوعي بالهوية. هنا، يمكننا ربط مفهوم "أسمان" بالأمثلة التاريخية الموسعة. الهوية طويلة المدى ليست ثابتة، بل تتطور مع الزمن. في الافتتاح، لم يكن المتحف مجرد عرض للآثار، بل ربط بين الماضي والحاضر من خلال تصميمه الحديث، كما أن مشاركة الجمهور في الاحتفالات، مثل تلك الموثقة على Facebookحيث يشارك الناس صور الافتتاح من السماء لرسومات خاصة بالحضارة المصرية القديمة صممت بالطائرات بدون طيار، تعكس كيف أصبحت الهوية أداة لمواجهة التحديات المعاصرة مثل العولمة.

في دراسات "أسمان"، يُفرق بين "الذاكرة التواصلية" (القصيرة) و"الثقافية" (الطويلة)، وهنا الاحتفالية تحول الذاكرة الثقافية إلى تواصلية من خلال الصور الرقمية، مما يضمن استمراريتها للأجيال القادمة. على سبيل المثال، تغريدة تقول: "الطرق كلها رسوم فرعونية والناس كلها بتتكلم عن افتتاح المتحف.. الفخر مليون مرة بمصريتنا"، حصلت على آلاف الإعجابات، مما يبني هوية جماعية طويلة المدى في اللحظة الراهنة.   بالإضافة إلى ذلك، يمكن مقارنة هذا مع حضارات أخرى، مثل اليونان التي تستدعي رموزها في أحداث مثل الأولمبياد، أو الصين مع جدارها العظيم، حيث تكون الهوية طويلة المدى مصدر قوة في مواجهة التحديات الحديثة. في مصر، يعزز المتحف هذه الهوية بإعادة عرض قارب الشمس لخوفو، رمز الخلود، مما يذكر المصريين بأن حضارتهم ليست ماضيًا منتهيًا، بل مصدر استمرارية. هذا الوعي يقلل من الخوف من المستقبل، كما يقول "أسمان"، لأن الشعوب التي تتذكر جذورها تكتسب قوة نفسية للتعامل مع التغييرات. كذلك، تكون هذه الهوية أداة لاستعادة السيادة الثقافية، حيث يصبح المتحف ردًا على سرقة الآثار في العصور الاستعمارية، ويؤكد أن مصر تمتلك خزانًا ثقافيًا يفوق أي حضارة أخرى في عمقه التاريخي.

 

ثالثاً- طقوس العبور والتحولات الرمزية:

يشير فيكتور تيرنر (Victor Turner) إلى مفهوم العبور الحدي (liminality)، وهي اللحظات التي تتوقف فيه الحدود بين الماضي والمستقبل، وفيها تصبح الهوية قابلة لإعادة التشكيل. هذه اللحظات تتميز بطقوس انتقالية يقوم بها الأفراد تعبيرًا عن عبورهم من حالة إلى أخرى.

الافتتاح كان لحظة عبور حدي بين حضارة محفورة في المتاحف وحضارة تُعاد إلى الوعي المعاصر. لذا، فإن ارتداء رموز الحضارة يتحول هنا إلى طقس عبور ثقافي، يعلن أن مصر لم تعد "صاحبة تاريخ"، بل "فاعلة في التاريخ".

هذا المفهوم ينطبق على الاحتفالات الرقمية أيضًا. فخلال الافتتاح، أصبحت المنصات الرقمية فضاءً حديًا واضحًا، حيث يعبر الأفراد من هويتهم اليومية إلى هوية فرعونية. مما يخلق مجتمعًا مؤقتًا متحدًا بالفخر. كما أن الاحتفال بالألعاب النارية فوق المتحف، يمثل طقسًا بصريًا يعبر عن التحول من الماضي إلى المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، يمكن ربط هذا بطقوس أخرى في الثقافات الأفريقية أو الشرق أوسطية، حيث تكون الاحتفالات لحظات لإعادة تشكيل الهوية، مثل مهرجانات في الهند أو أفريقيا. في مصر، كان الافتتاح طقسًا يجمع بين الرسمي والشعبي، مع عروض درونات بلغ عددها 5000 رسمت رموزًا فرعونية، مما يتطلب جهدًا تقنيًا هائلًا، كما ذكر مستخدمون على X، ليصبح الطقس مزيجًا بين التقليدي والحديث. هذا المزيج يجعل هذه اللحظة الحدية أكثر تعقيدًا، حيث يصبح العبور الحنيني ليس فقط جسديًا بل رقميًا، مما يوسع نطاق المشاركة إلى ملايين عبر العالم، ويحول الافتتاح إلى حدث عالمي يعيد تشكيل الهوية المصرية باعتبارها ديناميكية وغير ثابتة، بحيث يصبح الإنترنت فضاءً للعبور الثقافي.

رابعاً- رأس المال الرمزي واقتصاد المعنى:

يذهب بيار بورديو (Pierre Bourdieu) إلى أن الإنسان لا يعيش فقط من رأس المال الاقتصادي، بل يحتاج رأس مال رمزي يدعم قيمته المعنوية والاجتماعية. في عالم باتت فيه الصور معيار القوة الناعمة، تتحول الحضارة الفرعونية إلى رأس مال رمزي قابل للاستخدام والتوظيف والتداول. المتحف هنا ليس مبنى، بل استثمار رمزي في صورة الدولة، في قيمة المجتمع، في الثقة بالذات الوطنية. وبالتالي، مشاركة المصري بصورته كفرعون ليست فعلًا ترفيهيًا بل إعلان امتلاك رأس مال رمزي عالمي.

بورديو يرى أن الرموز تكتسب قيمة من خلال الاعتراف الاجتماعي، وهنا الاعتراف العالمي للمتحف يعزز من رأس المال المصري. كما أن الدعوة لاستعادة الآثار المهربة والمنهوبة من داخل الاحتفالية تعكس كيف أصبحت الاحتفالية أداة سياسية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن مقارنة هذا مع اقتصاد التراث في دول مثل فرنسا أو إيطاليا، حيث يصبح المتحف مصدر دخل، لكن في مصر، يجمع بين الرمزي والاقتصادي، مع توقعات بزيادة السياحة إلى ملايين الزوار. هذا الاستثمار يمتد إلى القطاع الخاص، حيث بدأت شركات خدمية كبرى في قطاعات النقل والاتصالات في استخدام رموز فرعونية في حملاتها الترويجية في مصر، مما يحول التراث إلى سلعة رمزية تعزز من الاقتصاد المحلي.

2- سعي المصريين لاستعادة هويتهم عند افتتاح المتحف:

هنا، نجد أن الأمر له محددات وأبعاد، نوجزها فيما يلي:

أولًا- المتحف يمثل عودة مادية للذاكرة:

الذاكرة في مصر ليست مجرد نصوص أو حكايات، بل ذاكرة مادية قابلة لللمس والرؤية. المتحف المصري الكبير أعاد هذه الذاكرة إلى المجال العام، حيث أصبح الماضي فيزيائيًا قابعًا أمام العين. التمثال العملاق لرمسيس الثاني في بهو المتحف لا يقدم "معلومة"، بل يقدم دليلًا ماديًا على الامتداد التاريخي وإعادته لقيمته وتمركزه في المكان الصحيح. فالتمثال نفسه نقل من ميدان رمسيس في عملية معقدة استمرت سنوات، ويرمز الآن إلى عودة التراث إلى سياقه الطبيعي قرب الأهرامات. هذا النقل كان حدثًا بحد ذاته، رافقه احتفالات شعبية مشابهة، ويعكس كيف أصبح التراث جزءًا من الحياة اليومية.

 

ثانيًا- تحديات الهوية المصرية لتحديات عميقة منذ 2011:

خلال العقد والنصف الماضي، شهد المجتمع المصري تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبيرة، أنتجت قدرًا من الارتباك الهوياتي. وفي لحظات القلق الجماعي، تلجأ المجتمعات إلى الماضي لتستعيد ثباتها. لذا، فالاحتفال الشعبي ليس هروبًا من الحاضر، بل إعادة ضبط للذات الاجتماعية.

ثالثًا- الذاكرة الفرعونية تحمل بعدًا عالميًا:

الحضارة الفرعونية ليست موروثًا محليًا فقط، إنها علامة وطنية تجارية عالمية للقوة والقدرة على البناء والخلود. ومن يمتلك رمزًا عالميًا يملك قوة رمزية في النظام الدولي. وبالتالي، فإن استعادة الماضي هنا ليست مسألة ثقافية فقط، بل أداة للقوة الناعمة.

رابعًا- التكنولوجيا أتاحت ترجمة الهوية بصريًا:

هنا نجد أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي المرتبطة بمنصات التواصل الاجتماعي قد جعلت الهوية قابلة للتجسيد الفوري بالصورة. لأول مرة، يستطيع الفرد أن يرى نفسه داخل سياق حضاري عمره آلاف السنين خلال ثوانٍ. الصورة هنا تتحول إلى وسيط هوياتي. المتحف في هذا السياق ليس فقط ثقافيًا، بل يعزز الاقتصاد أيضًا، حيث يتوقع جذب ملايين الزوار.

خامسًا- السياق الجيوسياسي:

حيث يأتي الافتتاح في وقت يشهد الشرق الأوسط توترات، فالاستعادة الهوياتية تصبح درعًا نفسيًا. وهو ما يساهم في تعليم الأجيال الجديدة عن تراثهم، مما يعزز الهوية طويلة المدى، بما يجعل مصر مستقبلًا مركزًا ثقافيًا عالميًا. كذلك يدمج المتحف عناصر مستدامة مثل الطاقة الشمسية، رابطًا بين التراث والمستقبل البيئي.

المثبت والذي ينبغي التركيز عليه، أن هذه ليست المرة الأولى التي تستدعي فيها مصر رموزها الحضارية في لحظة تحوّل، فقد ظهرت الظاهرة نفسها في الأحداث التالية:

نقل تمثال رمسيس الثاني من ميدان رمسيس إلى موقع المتحف (2006)، ثورة 30 يونيو 2013، الاكتتاب الشعبي لإنشاء قناة السويس الجديدة (2014)، موكب المومياوات الملكية (2021)، الأحداث الرياضية الكبرى التي تشارك فيها المنتخبات القومية أو الأندية المصرية وخلالها يرتدي المشجعون المصريون أزياء المصريين القدماء، حيث نجد أن اللافت للنظر أن هذه الأحداث جميعًا حدثت في لحظات انتقالية، كان المجتمع فيها يحتاج لإعادة تأكيد هويته الوسطية الضاربة بجذورها في واحدة من أقدم حضارات الكون، لا سيما حين يكون المستقبل غير مؤكد، أو تواجهه تحديات جسيمة. كل هذه الحالات في سياقها التاريخي والمجتمعي، تؤكد أن الهوية المصرية لا تُفرض من أعلى، بل تُستدعى من أسفل، من الجمهور، من الرغبة الجمعية في إعادة تثبيت الذات واستعادة التوازن الهوياتي المهدد.

هذا التكرار يعكس نمطًا أنثروبولوجيًا، حيث تكون الهوية أداة للصمود في التحولات. كما في موكب المومياوات 2021، الذي تم فيه نقل 22 مومياء ملكية إلى المتحف الوطني للحضارة، مما كان طقسًا مشابهًا للاحتفال بالهوية، رافقته موسيقى وأزياء فرعونية، وأثار نقاشات عالمية حول الحفاظ على التراث. هذه الأحداث تشكل سلسلة تاريخية تؤكد أن الاستدعاء ليس عشوائيًا، بل مرتبط بلحظات أزمة أو تحول، مما يجعل الافتتاح جزءًا من تقليد مصري عميق.

3- دلالات سلوك المصريين:

تكشف الظاهرة المدروسة في افتتاح المتحف المصري الكبير عن مجموعة من الدلالات العميقة التي تساعد في فهم علاقة المجتمع المصري بذاكرته الثقافية وهويته الحضارية، وذلك عبر الأبعاد التالية:

أولًا- الهوية المصرية هوية فاعلة وليست مُصنعة توضح التحليلات أن الهوية الحضارية في مصر لا تُعامل بوصفها ماضيًا محصورًا في المتاحف أو الكتب، بل بوصفها موردًا فاعلاً قابلًا للتوظيف في اللحظة الراهنة. لا يستعيد المجتمع رموزه لتجميل الاحتفالات، بل ليعيد تأكيد موقعه داخل التاريخ. هنا يصبح الماضي جزءًا من الحاضر لا منافسًا له، بل أداة لبناء المستقبل. هذه الدلالة تتفق مع رؤية چان أسمان الذي يميز بين الذاكرة التذكارية (ذكر الماضي بوصفه حدثًا)، والذاكرة الثقافية (استخدام الماضي بوصفه مرجعًا مستمرًا). فالهوية المصرية تظهر من النوع الثاني - ذاكرة مستمرة تعمل في الزمن.

ثانيًا- من "الاستهلاك الثقافي" إلى "الإنتاج الرمزي":

لم يكن المصريون في الاحتفالية مجرد متلقين لمنتَج ثقافي (المتحف)، بل منتجين للرموز والهويات عبر الصورة والسلوك. حيث أن استخدام الذكاء الاصطناعي أو ارتداء الزي الفرعوني، يعكسان مبادرة ذاتية لا تمر عبر طلب أو توجيه من المؤسسات الرسمية في الدولة، بل هو استجابة للرغبة الشعبية في التعبير عن الفخر الوطني. هذه السلوكيات تكسر نموذج الثقافة من أعلى إلى أسفل، وتستبدله بنموذج ثقافة من أسفل إلى أعلى، حيث يصبح المواطن فاعلًا في تعريف ثقافة بلاده أمام نفسه والعالم. وهذا يتسق مع مقولة بورديو: "الرمز قوة حين يؤمن به الناس".

ثالثًا- استعادة المعنى في عالم سريع التحول:

في زمن عالمي يتسم بالسرعة، بالسيولة في الهوية كما أشار (Bauman)، وبالضبابية في المستقبل، تُظهر الظاهرة أن المجتمعات تحتاج إلى إطار ثابت لاختبار معنى وجودها. حيث نجد أن الحضارة الفرعونية تعمل هنا كمرساة للوعي الجمعي. فالعودة إلى جذور ضاربة في التاريخ تمنح الأفراد حصانة ضد القلق الوجودي الناتج عن عدم اليقين. وبالتالي، فالاحتفالية ليست ترفًا، بل آلية دفاع ثقافي تمكّن المجتمع من تنظيم علاقته بالحاضر عبر الماضي.

رابعًا- تحول الهوية من ملكية للدولة إلى ملكية للجمهور:

تبين الظاهرة انتقال ملكية الرمز الحضاري من المؤسسات الرسمية إلى المجال العام. لم تنتج الدولة الاحتفالية عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل المجتمع هو الذي أنتجها. هنا تتغير علاقة المواطن مع رموزه التاريخية من علاقة "تلقّي" إلى علاقة امتلاك وتمثيل. هو تحول إلى "هذا تراثي الشخصي"، وهذا ما تؤكده الأنثروبولوجيا بأن الهوية لا تكون حقيقية إلا عندما يؤديها الأفراد (performance of identity)، وليس حين تفرض عليهم.

خامسًا- المتحف كفضاء لإعادة إنتاج الذاكرة:

لم يعد المتحف مكانًا تُعرض فيه القطع الأثرية، بل مسرحًا لإعادة صياغة الهوية. فالحدث لم يُفعّل الذاكرة عبر المحاضرات أو المنشورات، بل عبر ارتباط حسي/بصري مباشر بالرموز، وهو ما يُسمّى في الأنثروبولوجيا بالذاكرة المتجسدة في الجسد والصورة.

 سادسًا- التأثير على الهوية الجيلية:

الشباب المصري أو GEN Z، الذي يشكل غالبية مستخدمي الذكاء الاصطناعي، يعيد تشكيل الهوية بطريقة حديثة، كما في فيديوهاته على Xحيث يقولون "Welcome to the greatest pharaonic civilization". هذا يجعل الهوية مستدامة عبر الأجيال.

سابعًا-الدلالة السياسية:

حيث يعزز المتحف صورة الدولة كحارسة للتراث، كما في كلمة الرئيس السيسي في الحفل. كما وفرت الاحتفالية إحساسًا بالانتصار الجماعي ضد التحديات، مما يعزز الصحة النفسية الاجتماعية لمجابهة آثار التحديات السياسية الإقليمية والدولية، والتأكيد على مكانة مصر الريادية وثوابتها في نشر قيم السلام والتعاون والمحبة والتسامح. فما من شك أن الجمع بين الأجيال المختلفة من موسيقيين من دول مختلفة في احتفال مشترك، كما في فيديو "العالم يعزف لحنًا واحدًا"، بعمق من هذه الرسائل التي أرادت مصر أن تصل للعالم باعتبارها "رسالة سلام للإنسانية"

ختامًا،يمكن القول إن الاحتفالية الشعبية بافتتاح المتحف المصري الكبير لم تكن مجرد لحظة فرح عابرة، بل حدثًا أنثروبولوجيًا كاشفًا لمسار تشكّل الهوية المصرية المعاصرة. فهي، وفق منظور الذاكرة الجماعية عند هالبواكس، تمثّل فعلًا واعيًا لإحياء الذاكرة الوطنية عبر الرموز، حيث استُدعي الماضي بوصفه ركيزة للاستقرار لا مجرد زينة. ووفق أسمان، أثبتت التجربة أن الحضارات لا تزول بالنسيان، بل حين تتوقف الشعوب عن استحضارها. أما فيكتور تيرنر، فيتيح فهمها كـ"طقس عبور" من علاقة ساكنة بالماضي إلى علاقة ديناميكية تمنح الحاضر معنى، بينما يوضح بورديو كيف تحوّل رأس المال الرمزي إلى طاقة اجتماعية منتجة للثقة والانتماء.

لقد أبرز الحدث أن المصريين يتعاملون مع تاريخهم كمشروع مستمر للخلود، وأن استدعاء الماضي يمثل استراتيجية تمكين لا حنينًا. بذلك يصبح افتتاح المتحف المصري الكبير ليس مجرد إنجاز ثقافي، بل لحظة مفصلية في إعادة تعريف الهوية المصرية الحديثة: هوية متصالحة مع ماضيها، منفتحة على مستقبلها. فالأمم التي تعرف جذورها تعرف طريقها، ومصر تبني مستقبلها على ذاكرة حضارية ممتدة سبعة آلاف عام.

كما يفتح الحدث آفاقًا لدراسات مستقبلية في الأنثروبولوجيا الرقمية، حيث تتقاطع الهوية مع الفضاءات الخوارزمية، فيما تؤكد التغطية العالمية الواسعة (بأكثر من ٧٥٠ وسيلة إعلامية بنسبة ٩٨٪ معالجة إيجابية) قدرة مصر على توظيف تراثها في التنمية وتعزيز قوتها الناعمة. في النهاية، لا يمثل المتحف بناءً فخمًا بقدر ما هو جسر بين العصور، يثبت أن الحضارات العظيمة لا تموت بل تتجدد، وأن مصر لا تزال تقدم للعالم نموذجًا فريدًا في تحويل الذاكرة إلى مشروع وطني للمستقبل.

ويُضاف إلى ذلك أن هذا الحدث يجسد لحظة استعادة الوعي المصري بذاته الحضارية في زمن تتقاطع فيه الهويات مع التكنولوجيا والعولمة. فالمتحف لا يستعيد الماضي فحسب، بل يعيد صياغة علاقة المصريين بالعالم ويعيد تعريف الهوية، مؤكدًا أن الذاكرة حين تتحول إلى رؤية خلاقة، تصبح أداة لصناعة مستقبل أكثر رسوخًا وإبداعًا واستقلالًا وثقة بالمصير الوطني المشترك.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    أحمد ناجي قمحة

    أحمد ناجي قمحة

    رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية