لا يمكن تجاهل التطورات الدرامية في نيجيريا. المخططون أنفسهم جربوا معنا «سيناريو دموي» شبيه. خرجنا منتصرين من حرب أكتوبر 1973 بـ«اصطفاف مصري- عربي»، لكن بسبب تخوف قوى دولية من أن تكرار الانتصارات (اقتصاديًا، سياسيًا، وثقافيًا)، توحشت المؤامرة ضد مجتمعنا ومجتمعات عربية، بعضها انتصر على الإرهاب «المدعوم دوليًا»، وآخرون تحكمهم «ميليشياته المسلحة» حاليًا.
الوضع في نيجيريا، مؤخرًا، يطرح أسئلة لا يمكن تجاوزها: هل ما يجري هدفه تثبيت نظام اقتصادي وسياسي يضمن تدفّق الموارد للغرب الأوروبي-الأمريكي بانتظام؟ أم أن أدوار المخططين تجاوزت حدود التحكّم في النفط والغاز إلى التطلّع لموقع نيجيريا نفسه في خريطة الصراع الدائر غرب أفريقيا؟ وكيف تتم محاولات منع تمدّد الصين وروسيا عبر تعزيز نفوذ واشنطن وحلفائها في الدولة ذات الموارد والموقع الاستراتيجي المهم؟
سجّل شهر أكتوبر الماضي وحده مقتل مئات الأشخاص ما يعمّق الأزمة الأمنية. توعّد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بضربات عسكرية «سريعة ووحشية». اتهم السلطات النيجيرية بـ«التقصير في حماية المسيحيين»، لكن حكومة نيجيريا رفضت اتهامات الإبادة. أكدت أن «العنف يستهدف الجميع»، ودعت إلى دعم دولي يراعي سيادتها. ومن هنا نحاول فهم تحولات المشهد الأمني في شمال نيجيريا بين العنف المسلح المدعوم دوليًا وأزمة حماية المدنيين، وصعود جماعات مسلحة محلية في ولايتي «زامفارا» و«كاتسينا» وتأثيرها على الأمن الإقليمي، ودور شركات النفط متعددة الجنسيات وتأثير سياسات استغلال الموارد في «دلتا النيجر»، واستراتيجيات النخبة الحاكمة في مقاومة الضغط الخارجي والمحافظة على دور القوي للدولة، وكيف تحوّل توظيف التعليم والثقافة في شمال البلاد إلى فخ سياسي واجتماعي وتهديد أمني؟، ودور القيادة العسكرية «أفريكوم» في تعزيز النفوذ الأمني والسياسي في منطقة غرب إفريقيا، والتغلغل الناعم للمنظمات غير الحكومية وتأثير التمويل الخارجي على السياسات المحلية، والتاريخ الاستعماري والنفوذ الغربي المبكر: من الاحتلال التجاري إلى السيطرة الاستراتيجية، والحرب الأهلية 1967–1970 وأثرها على التوازنات الإثنية والطاقة والتنمية الاقتصادية.
بين أكتوبر ونوفمبر الجاري ،شهدت نيجيريا تفاقما لافتًا في العنف. تواصلت هجمات عصابات مسلحة في ولايتي «زامفارا» و«كاتسينا». زادت عمليات القتل والخطف. ارتفع عدد الضحايا إلى مستويات غير مسبوقة، مع إتهامات تقليدية لـ«بوكو حرام»،بشنّ هجوم على مدينة «كيراوا»، في ولاية «بورنو»، مصحوبة بحرق منازل وثكنات، مما دفع آلاف السكان للفرار نحو الأراضي الكاميرونية.
تقع ولايتا «زامفارا» و«كاتسينا» في المنطقة الشمالية الغربية من نيجيريا، على الحدود مع النيجر. تُعدّ الولايتان من أكثر مناطق البلاد اضطرابًا في السنوات الأخيرة. تنتشر فيهما جماعات مسلّحة تنخرط في أنشطة الخطف وقطع الطرق وتهريب السلاح. تشتهر المنطقة كذلك بثرواتها المعدنية. خام الذهب يجعل «زامفارا»، ذات أهمية اقتصادية وأمنية بالغة في خريطة الشمال النيجيري.
لا يمكن فصل ما يجري في نيجيرياعن التحوّلات الأوسع في النظام الدولي، فالسيطرة على النفط والغاز لم تعد كافية بمفردها لتفسير حجم المؤامرة الكبرى في منطقة غرب أفريقيا. الولايات المتحدة وحلفاؤها يتعاملون مع نيجيريا كعقدة استراتيجية، ليس فقط لتأمين الطاقة، بل لضبط التوازن في غرب القارة التي تشهد تنافسًا صامتًا بين قوى المصالح الدولية.
إرهابهم.. ومكاسبه:
قبل سنوات، اعترض محافظون في المجتمع النيجيري على نوع من التعليم الغربي (البوكو) خلال بداية تعميمه في شمال البلاد. قالوا إنه يختلف عن التعليم الإسلامي التقليدي، الذي يركّز على حفظ القرآن وتعليم الفقه والشريعة واللغة العربية. وصف المعترضون تعليم «البوكو» بأنه «حرام»، بحجة أنه يبعد الشباب عن الدين ويغرس فيهم قيمًا غير إسلامية، واعتبروه تهديدًا للأعراف الدينية والاجتماعية في مناطقهم.
مصطلح «البوكو» في شمال نيجيريا مشتق من لغة الهوسا، ويعني حرفيًا «كتب حرام». يُستخدم المصطلح للإشارة إلى رفض مناهج تعليمية يرونها تهدد العلاقات بين الجنسين، وتُعزّز الفوارق الاقتصادية والاجتماعية (لأنها تتطلب موارد ومهارات قد لا تتوفر لجميع الفئات)، وتُرسّخ للهيمنة الخارجية من خلال تمرير سياسات غربية تستهدف النسيج الاجتماعي.
نظر المعترضون إلى تعليم «البوكو» كتجربة تُغيّر المجتمع النيجيري بشكل جذري، واعتبروه خطرًا وجوديًا على الدين والعادات المحلية. انتقدوا ما تقدمه جهات مانحة ومنظمات دولية حكومية وغير حكومية، ومؤسسات محلية وخيرية بحجة تطوير المدارس والمناهج، وتصدّوا له. وصمت دوائر غربية المعترضين بـ«بوكو حرام» واعتبرتهم إرهابيين، فبدأ صراع تتداخل فيه عوامل عدة وفاعلون، وتحول إلى مصدر لنزيف الدماء في البلاد.
منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، بدأت الولايات المتحدة تُصنّف غرب أفريقيا ضمن مسارح «الخطر المحتمل»، وانتقلت بعض وحدات «أفريكوم» للعمل قرب حدودها الشمالية. النتائج العملية أظهرت أن هذه الحرب منحت الغرب فرصة لتوسيع نفوذه الأمني عبر حقّ الوصول (غير المعلن) إلى البيانات، والخرائط، والتحركات العسكرية في بعض الدول.
و«أفريكوم» تعني القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا. تأسست عام 2007 بهدف تنسيق الأنشطة العسكرية والأمنية للولايات المتحدة في القارة. تُشرف على العمليات والتعاون الأمني مع الدول الإفريقية (باستثناء مصر). تركّز على حماية المصالح الأمريكية في مجالات الطاقة والتجارة والممرات البحرية. كما تعمل عبر برامج تدريب ودعم استخباراتي ولوجستي، ما يجعلها لاعبًا مؤثرًا في هندسة الأمن الإقليمي وترسيخ النفوذ.
بداية النفوذ الغربي:
ليس صحيحًا كما يعتقد البعض أن النفوذ الغربي في نيجيريا بدأ من بوابة النفط، كونه أقدم من ذلك بكثير. خلال إعادة تشكيل حدود منطقة غرب أفريقيا أثناء حقبة الاحتلال البريطاني، كانت نيجيريا مشروعًا استعماريًا مبنيًا على اتفاقات تجارية، ومهام تبشيرية، واحتكار مسارات النقل النهري. آنذاك، أدركت بريطانيا أن ساحل المحيط الأطلسي يعزّز تجارتها، إضافةً إلى السيطرة على نشاط تجارة العبيد، ثم المواد الخام لاحقًا.
بدأ الاحتلال البريطاني لنيجيريا فعليًا عام 1885 حين أعلنت سيطرتها على الساحل بعد مؤتمر برلين الذي قسّم إفريقيا بين القوى الأوروبية، ثم أسست عام 1886 «شركة النيجر الملكية» لإدارة التجارة والسيطرة السياسية في الداخل. ومع مطلع القرن العشرين، تم إخضاع الممالك المحلية، وأُعلنت نيجيريا رسميًا مستعمرة بريطانية عام 1914 بعد توحيد شمالها وجنوبها إداريًا تحت حكم واحد.
استمر الحكم الاستعماري البريطاني حتى الأول من أكتوبر 1960، حين نالت نيجيريا استقلالها السياسي الكامل. خلال هذه الحقبة الممتدة من 1885 إلى 1960، رسّخت بريطانيا نظامًا إداريًا واقتصاديًا يخدم مصالحها، ففرضت الزراعة النقدية، واستغلت الموارد الطبيعية، وأقامت بنية سياسية واجتماعية تركت آثارًا عميقة على التوازنات الإثنية والإقليمية في البلاد.
ظل النفوذ البريطاني يتطوّر من احتلال تجاري إلى سلطة استعمارية كاملة مع نهاية القرن التاسع عشر، دون أن تكون الولايات المتحدة طرفًا مباشرًا في تلك المرحلة. غير أن الحرب العالمية الثانية غيّرت المعادلة؛ إذ خرجت بريطانيا منهكة عسكريًا وماليًا، بينما كثّفت الولايات المتحدة وجودها في إفريقيا (بزعم مواجهة الشيوعية)، لضمان الوصول إلى مصادر اليورانيوم، والقصدير، والمطاط، ثم نفط دلتا النيجر الذي كان يُكتشف تدريجيًا.
تحوّلت منطقة دلتا النيجر إلى نزاع معقّد. مجموعات مسلحة نشأت تحت شعار الدفاع عن حقوق السكان تحوّلت إلى ميليشيات تفرض إتاوات على الشركات، وتخطف العمال الأجانب، وتدير اقتصادًا موازيًا يعتمد على بيع النفط المسروق.شهادات الأهالي تروي تفاصيل عن اقتحامات، وضربات انتقامية بعد هجمات على الأنابيب.
تُعدّ «دلتا النيجر» الواقعة جنوب نيجيريا عند مصب نهر النيجر في خليج غينيا واحدةً من أكبر دلتا الأنهار عالميًا، وتضم شبكات من الأنهار والمستنقعات والغابات الساحلية. تُشكّل القلب الاقتصادي لإنتاج النفط والغاز في البلاد، لكنها أيضًا مسرح لتدهور بيئي واسع، وفقر، ونزاعات مسلّحة، وتهميش للسكان المحليين رغم الثروات المستخرجة من الأرض.
ومع اقتراب استقلال نيجيريا عام 1960، بدأت واشنطن تتحرّك بهدوء لإقامة علاقات دبلوماسية وعسكرية مبكرة. وتشير وثائق الأرشيف الوطني الأمريكي إلى برقيات بين وزارة الخارجية وسفارتها في لاجوس تدعو إلى تكوين طبقة سياسية نيجيرية صديقة للغرب. في تلك المرحلة، دخلت الشركات الأمريكية مثل «Mobil» و«Chevron» على الخط، مستفيدةً من رغبة النخبة النيجيرية في تمويل مشاريع الدولة الوليدة.
ركّزت الولايات المتحدة على بناء تحالف أمني خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. استخدمت برامج التدريب العسكري عبر مكتب التعاون الدفاعي لتعزيز نفوذها في البلاد، ووقّعت اتفاقيات لتدريب الرتب الأصغر من الضباط، الذين أصبحوا لاحقًا جزءًا من منظومة الحكم بعد سلسلة الانقلابات والتطورات السياسية-الدرامية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
الحرب الأهلية:
الحرب الأهلية النيجيرية (1967–1970) كانت فترة كاشفة. دعمت بريطانيا الحكومة الفيدرالية في لاجوس سياسيًا ولوجستيًا، بينما أبدت فرنسا تعاطفًا مع حركة «بيافرا» الانفصالية لأسباب تتعلق بمصالحها في الكاميرون والنيجر. أما الولايات المتحدة فاتخذت موقفًا أكثر نفعية؛ حاولت أن تبدو محايدة، لكنها أبقت خطوطًا مفتوحة مع الطرفين، وسمحت بشكل غير مباشر بمرور مساعدات إنسانية تحمل أيضًا رسائل سياسية.
بدأت الحرب الأهلية بعد تفاقم التوتر بين الجماعات العرقية (الإيبو في الشرق والهوسا في الشمال). إعلان الإقليم الشرقي استقلاله باسم «بيافرا» دفع الحكومة الفيدرالية إلى شن حرب لاستعادته، انتهت في يناير 1970 باستسلام القوات الانفصالية وهروب زعيمها العقيد «تشوكوويميكا أوجوكوو». لكنها خلّفت نحو مليون قتيل، أغلبهم بسبب الجوع، وأثّرت عميقًا في العلاقات العرقية داخل البلاد.
تُظهر وثائق لاحقة (بعضها يتعلق بقطاع النفط بعد عام 1971، حين انضمت نيجيريا إلى منظمة أوبك) الأسلوب الذي انتهجته الشركات الأمريكية في توقيع عقود طويلة الأجل مقابل تمويل مشروعات بنية تحتية ووعود بتطوير مصافي النفط. تلك الاتفاقيات رسّخت وجودًا اقتصاديًا يصعب زحزحته، وخلقت اعتمادًا متبادلًا غير متوازن بين البلدين.
في منتصف السبعينيات، ومع ارتفاع أسعار النفط، بدأت نيجيريا تمتلك فائضًا ماليًا غير مسبوق. في المقابل، اشتدّ التنافس بين واشنطن ولندن وباريس. كثّفت الولايات المتحدة زيارات مسؤوليها، وأرسلت مستشارين اقتصاديين لوضع خطط التنمية الخمسية. وتوضح الوثائق المتاحة أن الهدف لم يكن دعم النمو، بل منع أي توجّه اشتراكي قد يقرّب نيجيريا من الاتحاد السوفييتي أو الصين.
في الثمانينيات، شكّلت برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حلقة جديدة من حلقات النفوذ الغربي في نيجيريا. تزامن ذلك مع انهيار أسعار النفط عام 1982، فدخلت البلاد في أزمة ديون حادّة. الولايات المتحدة، بوصفها اللاعب الأكبر داخل المؤسستين الماليتين الدوليتين، دفعت الدولة الإفريقية إلى تبنّي سياسات عمّقت الفوارق الطبقية عبر خصخصة قطاعات الدولة، وفتح الأسواق أمام الشركات الأجنبية، وتقليص الدعم الاجتماعي.
دخل البنك الدولي وصندوق النقد من بوابة الاقتصاد، فربطا القروض والسياسات المالية بشروط تعيد رسم دور الدولة في الاقتصاد. فُرضت سلسلة من القرارات التي حدّت عمليًا من قدرة الحكومات على اتخاذ قرارات مستقلة. وحين تصبح الحكومة مدينة للمؤسسات المالية الدولية، ودون أدوات ضغط أو بدائل داخلية، تتحول الانتخابات إلى خطوة شكلية لتأكيد المسار لا لتغييره، عبر نخب مستفيدة من الوضع القائم.
ما يثير الدهشة في الحالة النيجيرية أن النفط لم يكن مصدر ثروة فقط، بل أداة ضغط أيضًا. كانت الولايات المتحدة وشركاتها تدرك هشاشة البنية الإدارية، فاستفادت من الفساد في تمرير العقود. في المقابل، حصلت شرائح من النخب على حماية دولية وحسابات مصرفية، فخلق هذا التبادل غير العادل بنية نفوذ غربي متغلغلة في مفاصل الدولة، تحاول ابتلاعها من الداخل.
الطاقة.. من يربح؟
في نيجيريا، تظهر أسماء كبرى شركات الطاقة العالمية كفاعلين أساسيين في حلبة الثروات (إكسون موبيل، شل، شيفرون، توتال إنرجيز، وإيني)، مع حضور متزايد لشركات محلية وشركاء صينيين وغيرهم. هذه الكيانات المتصارعة تمتلك مناطق إنتاج وتراخيص تمتد لعقود، كما تستحوذ على الجزء الأكبر من صادرات النفط والغاز في عموم البلاد.
الآلية العملية للربح تقوم على مزيج من عقود مشاركة الإنتاج، ومشاريع مشتركة مع الشركة الوطنية، ثم عقود امتياز تقليدية تسمح للشركات الأجنبية بحصص إيراد ومقاصة تكاليف قبل تقاسم الأرباح. مدة العقود في الغالب تمتد لعقود (امتياز)، وبعض التراخيص البحرية تُجدد تلقائيًا أو عبر صفقات سياسية. المعدلات الضريبية والقيود المحيطة بأرباح الشركات تتغير حسب نوع العقد، وإطار الضرائب، وفترات الاسترداد.
سياسة تُحوّل الحقول إلى مصادر دخل طويلة الأجل للشركات، تمنحها قدرة تفاوضية مع الدولة، خصوصًا عندما تصبح البنية التحتية للاستغلال مملوكة جزئيًا لها أو مُدارة عبر عقود خدمات طويلة. التطورات التي عبر عنها قانون 2021 لم تؤثر تمامًا على سلاسل النفوذ. أحيانًا يتم تعديل شروط العقود تحت ضغط سياسي أو اقتصادي. ارتفاع أسعار النفط أو أزمات خارجية يدفعان الدولة لإعادة التفاوض أو منح امتيازات جديدة.
العلاقة بين الشركات ومسئولين محليين (خلال عقود سابقة) شكلت غطاءً لنمط «صفقات متبادلة» تشمل حماية أمنية واجتماعية مقابل امتيازات تشغيلية، ودعم سياسي عبر تمويل حملات أو علاقات استشارية بعد مغادرة كبار المسؤولين من مناصبهم. هذا الدور الوسيط جعل بعض الرؤساء التنفيذيين للشركات أقرب إلى صناع قرار من مجرد مستثمرين، خاصة في سياسات تخص توزيع الإيرادات والشراكات الاستراتيجية.
نسب الأرباح التي يحتفظ بها الجانب الأجنبي تقود إلى حقيقة مزعجة. الأرقام الرسمية غالبًا ما تُظهر حصة كبيرة للدولة، لكن صافي الدخل القابل للسحب إلى الخارج يُقلّل بشروط استرداد التكاليف، بنود الخدمات، وإيرادات شركات الخدمات النفطية، التي تستحوذ بدورها على جزء مهم من سلسلة القيمة. النتيجة أن الرصيد الصافي الذي يبقى في حسابات الشركات يفوق بكثير ما يصل إلى الخزينة المحلية.
النتيجة، أن الربح الحقيقي موزع بين مجموعة (الشركات متعددة الجنسيات التي تحصل على صافي نقدي كبير، البنوك والوسطاء الدوليون الذين يسهلون التدفقات، ونخب محلية تحول امتيازات الدولة إلى منافع فردية). خزينة الدولة تحقق عوائد مهمة ظاهرًا، لكن الشق الأكبر من القيمة المضافة التقنية والمالية ينتهي غالبًا في دوائر خارجية أو في جيوب محلية مرتبطة بصفقات خاصة.
إنه النفوذ الناعم:
دعم المنظمات غير الحكومية لمشاريع تنموية أو حقوقية يتحول إلى مكوّن سياسي واقتصادي ينساب بهدوء في مساحات الفعل العام في نيجيريا. منظمات ممولة من وكالات أمريكية وأوروبية تتسلل إلى المجتمع المحلي من بوابة «بناء القدرات، تمكين الشباب، مراقبة الانتخابات، ومحاربة الفساد». خلف الشعارات أجندات مشبوهة، وتوزيع الأموال للاختراق.
السيناريو الناعم يتكرر في معظم الدول المستهدفة. مشروعات تحمل أسماء جاذبة مثل «تعزيز الشفافية، تمكين الإعلام المحلي، بناء حركة نسوية ريفية، تدريب مراقبين للانتخابات». تتطلب شركاء محليين. تبدأ المنظمات الدولية بالبحث عن جمعيات مسجلة، مبادرات شبابية، مراكز دراسات، توقّع اتفاقيات، وتُفعّل حسابات مصرفية. تدخل الدولارات إلى المشهد السياسي الهش.
كثير من المشاريع يحقق النتائج المستهدفة (تدريب صحفيين وإعلاميين، مساعدة ضحايا عنف، توثيق انتهاكات)، لكن أثرها يتجاوز ذلك حين تصبح أدوات ضغط وابتزاز للحكومات. في الانتخابات، تلعب المنظمات دورًا مثيرًا للجدل. الفرق تحصل على تمويل خارجي، تكون مأمورة بتحسين صورة الانتخابات أو تشويهها، وإصدار بيانات تغير موقف الرأي العام في لحظة.
معظم فرق مراقبة الانتخابات لا تكتفي بالمهام المعلنة، بل تمنح قوة معلوماتية لحركات ناشئة لا تملك نفوذًا ماليًا أو حزبيًا كبيرًا، لكنها في الوقت نفسه تثير ريبة لدى الحكومات التي تراها ذراعًا سياسيًا مغطّى بلغة المجتمع المدني. برامج تدريب الصحفيين تبدو في ظاهرها مهنية (كيفية استخدام البيانات، تقنيات التحقيق الاستقصائي، سلامة العمل الميداني)، لكنها عمليًا تشكل جيلًا تابعًا ممن تصفهم بـ«الصحفيين المستقلين».
الاستقلال المذكور ليس مطلقًا، بل يرتبط باستمرار تدفق المنح التي تحدد موضوعات معينة كأولوية، وطبيعة ما يُنشر وما لا يُنشر من وجهة نظر المدربين الذين يترجمون أفكار الممولين. الهدف ليس فقط تغيير المحتوى الإعلامي، بل تغيير الطريقة التي يفكر بها المستهدفون. برامج المنح الدراسية، الزمالات، والسفر إلى ورش عمل خارجية تخلق نخبًا شابة تحمل رؤى جديدة، وترتبط بشبكات تمويل تجعلها جزءًا من منظومة عابرة للحدود.
مع الوقت، يصبح من الصعب التفريق بين الدعم الإنساني المشروع والتدخل السياسي المقنّع. حين تُمنح الأموال لتدريب صحفي أو إعلامي على تغطية قضايا معينة، هل الهدف التأهيل المهني أم خلق رأي عام ضاغط على الدولة لتغيير سياساتها تجاه الشركات والسياسات الغربية عمومًا؟ حين تمول مبادرة لتعليم النساء في القرى حقوقهن، هل الغاية بناء مجتمع أقوى، أم إنتاج قاعدة انتخابية أكثر توافقًا مع الرؤية الليبرالية الدولية؟
على المدى البعيد، تتحول غرف التحرير إلى ساحة تنافس بين رؤيتين: واحدة تتغذى على التمويل الخارجي وتتبنى خطاب الإصلاح والمحاسبة، وأخرى ترى فيه تقويضًا للسيادة الوطنية. التمويل الذي يدخل عبر هذه القنوات يُصرف على أنشطة تشكل الرأي العام، تحرك الشارع، وتعيد توجيه النقاش العام حول قضايا بعينها. تتبع التمويل يتشعّب عبر عقود فرعية، ورش تدريب، شراكات إعلامية، ومنح صغيرة لمبادرات محلية.
التأثير على الاحتجاجات يظهر حين تتحول هذه المنظمات إلى مصادر دعم غير مباشر للناشطين؛ توفير تدريب على التوثيق، إنشاء منصات رقمية، تغطية إعلامية دولية، وفتح قنوات اتصال مع سفارات ودبلوماسيين. هذا الدعم المثير للجدل لا يصنع ويغذي الاحتجاجات فقط، بل يوفر لها «التدويل» عبر الحضور في الإعلام العالمي وتشويه المؤسسات الوطنية، عبر كائنات هجينة تتحرك في مساحة رمادية.
التلاعب بالديمقراطية:
التمويل الحزبي يمر غالبًا عبر قنوات مؤسسات تنموية، مراكز أبحاث، أو برامج دعم الحوكمة. ليس من الضروري أن يتسلم المرشح الأموال نقدًا؛ يكفي أن يحصل على تدريب لفريقه الإعلامي، معدات اتصال، أو استشارات سياسية من شركات متخصصة تعمل لصالح حكومات غربية. تصميم حملات انتخابية في مكاتب خارجية تُحدد الخطابات التي تستميل الناخبين.
توظف محاولات الاختراق الخارجية ملف مراقبة الانتخابات ومشاريع تعزيز النزاهة. حين تتولى شركات أجنبية إدارة قواعد بيانات الناخبين أو تشغيل أنظمة النتائج، تتجاوز المسألة الدعم التقني إلى امتلاك مفاتيح العملية الانتخابية نفسها (الأعطال المتكررة، فجوات الأمان، تغلغل النفوذ الخارجي) إلى توجيه النتائج والتأثير على الرأي العام المحلي لأي فوز «لا يعتبرا مناسبًا»، لمصالح الشركات والدول التى تقف خلفها.
الدبلوماسيون الأجانب يلعبون أدوارا مثيرة في هذا الشأن. سفراء دول كبرى يعقدون اجتماعات مغلقة مع مرشحين، يطالبوهم بالتهدئة، أو يحثوهم على الانسحاب منها ومن مناصبهم. يتسع تأثير هذه التدخلات بعد الانتخابات، حين تبدأ مفاوضات تشكيل الحكومات. سفراء يُجرون اتصالات مع أحزاب معارضة. الهدف المعلن الاستقرار، لكن النتيجة غالبًا شرعنة سلطة تغزز توازنات دولية.
الشروط المالية البنك الدولي وصندوق النقد تؤثر على مسار الانتخابات نفسها. المرشحون الذين يلتزمون علنًا بوصفات البنك الدولي غالبًا ما يحصلون على دعم ضمني من العواصم الغربية، سواء عبر تغطية إعلامية إيجابية أو عبر فتح قنوات اتصال مع المستثمرين. بينما المرشحون الذين يتحدثون عن سياسات حمائية، أو مراجعة عقود النفط والغاز، يتعرضون لضغوط، أو يتم تصويرهم كتهديد للاستقرار الاقتصادي.
داخل هذه المعادلة تظهر شخصيات سياسية تستفيد من الخارج دون أن تُظهر ذلك بوضوح. تتلقى دعوات لحضور مؤتمرات دولية، تحصل على منح لدراسات سياسية، ثم تعود لتتبنى خطابًا يتماشى مع شروط المانحين. بعضهم يصل إلى السلطة، فيُصبح مدينًا لشبكة دعم تمتد خارج الحدود، ما يجعل استقلال قراره مقيدًا بما ينتظره شركاؤه الدوليون، لا بما ينتظره ناخبوه.
التلاعب لا يكون دائمًا مباشرًا. يتوزع عبر شبكات لمصالح. شركات النفط الكبرىتمول مشروعات اجتماعية وشراكات مع الحكومة، تفضل مرشحين يؤمنون بالاستمرار في نفس السياسات. شركات العلاقات العامة في أوروبا وأمريكا تدير الحملات على وسائل التواصل، توجه الخطاب، وتدير الأزمات حين تندلع احتجاجات أو تُنشر تسريبات مصنوعة. نفوذ ناعميؤثر بقوة على وعي الرأي العام، بالتزامن مع النفوذ الخشن.
تداعيات مأساوية.. ولكن:
القدرة على مقاومة النفوذ الخارجي داخل النخبة الحاكمة في نيجيريا ليست معدومة، لكنها محدودة ومحاطة بثمن سياسي واقتصادي مرتفع. هناك وزراء وضباط وسياسيون حاولوا تعديل عقود النفط أو إعادة التفاوض مع الشركات متعددة الجنسيات، لكنهم وجدوا أنفسهم في مواجهة ضغط مزدوج؛ حيث تُلوح قوى المصالح الدولية بعقوبات أو التدخل المباشر.
داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية هناك فكر بمنطق مختلف؛ يرى أن استمرار التبعية يضعف قدرة الدولة على فرض سيادتها، خاصة في مواجهة الجماعات المسلحة أو النزاعات العرقية. لكن هذا التيار يظل مترددًا، لأنه يدرك أن كسر العلاقة مع العواصم الغربية يعني خسارة الدعم العسكري والتقني والمالي، ما قد يفتح الباب أمام عزلة دولية أو عقوبات غير معلنة.
اقتصاديًا، ستواجه الدولة أزمة سيولة خانقة بسبب ارتباطها بالبنوك الغربية وصناديق التمويل الدولية. شركات النفط متعددة الجنسيات قد تجمد عملياتها أو تنسحب، مما يخلق فراغًا في تكرير النفط وتوزيعه.في هذه الحالة، الصين لن تتردد في التغلغل عبر البنية التحتية والموانئ والاتصالات، بينما ستقدم روسيا نفسها كبديل أمني وعسكري، خصوصًا في مكافحة التمرد وحماية النخب.
المجتمع المدني، صورته أكثر تعقيدًا. كثير من منظماته يعتمد على تمويل خارجي من مؤسسات غربية أو أممية، ما يجعله محكومًا بمعايير الممول أكثر من حاجات المجتمع المحلي. بهذا المعنى، المساحة الداخلية للفعل موجودة لكنها محاصرة. النخبة ليست كتلة واحدة، والمجتمع المدني ليس بيادق بالكامل، لكن ميزان القوى يميل لصالح من يمسك بالخيوط المالية والدبلوماسية.
وسط كل هذه المعطيات يدفع الثمن الناس الذين يعيشون في الظل بين رائحة النفط والرصاص. الفلاح الذي خسر أرضه، الصياد الذي خسر البحر، المرأة التي تُنجب طفلاً مريضًا بسبب ماء ملوث، والطالب الذي هرب من قريته ليعمل في مخيم. هؤلاء هم المحصلة الحقيقية لكل ما يُسمى استثمارًا وتنمية وشراكة. في نيجيريا، الثروة لا تتوزع، بل تتسرب كالنفط نفسه: تلوث الجميع، وتترك وراءها ندوبًا لا تُمحى.
أجواء الصراع الدولي:
النفوذ السياسي والأمني يشكّل أداة تحوّل نيجيريا من دولة غنيّة بالموارد إلى لاعب مستقبله مرهون بتوجّهات القوى التي تدير اللعبة عبر شبكات أمنية واستخباراتية، واتفاقيات دفاعية، وقروض مشروطة، ومحاولات تدخّل في الانتخابات والسياسات النقدية. الصراع الغربي مع الصين وروسيا جزء من الصورة، لكنه لا يختزلها. واشنطن ترى أن وجود استثمارات صينية في البنية التحتية والموانئ النيجيرية يشكّل خطورة على مصالحها.
تخشى الولايات المتحدة من تقويض قدرتها على التحكّم في خطوط التجارة والطاقة المقبلة من خليج غينيا، أو احتكار الصين لمواد استراتيجية (الليثيوم والكوبالت...)، تتحرّك روسيا بأسلوب مختلف، عبر صفقات تسليح وتعاون أمني، ما يثير قلق عواصم غربية تخشى تكرار سيناريو مالي أو بوركينا فاسو، لكن الهدف النهائي ليس تطويق النفوذ الشرقي، بل ضمان بقاء المجال المالي والسياسي النيجيري متوافقًا مع الشروط الغربية.
يدرك الغرب أن السيطرة على الموارد تبدأ بالتحكّم في القرارات الرسمية التي تحدّد لمن تُباع حقول الطاقة، وبأي عملة، وتحت أي نظام مصرفي. يستخدمون مؤسسات مالية دولية لجعل نيجيريا أكثر هشاشة وأقل قدرة على المناورة مع شركاء جدد. المهم أن تبقى الموارد تتدفّق، وألّا تتحوّل البلاد إلى منصة بديلة لمشروعات صينية أو روسية تُربك شبكة المصالح الغربية في غرب القارة، لذا، تعددت حجج ومبررات التدخل في نيجيريا.