تحليلات

أبعاد نهاية الصراع السياسي التقليدي وبزوغ الفكر المعتدل الثوري فى إيران

طباعة

يتسم المشهد السياسي الإيراني اليوم بتنوع التيارات وانقساماتها داخل كل جبهة رئيسية. ففي صفوف المحافظين، يبرز الانقسام بين المتشددين، الذين يلتزمون بروح الثورة بحرفية صارمة ويرفضون أي شكل من أشكال الانفتاح أو التنازل، وبين المعتدلين،الساعين إلى الحفاظ على ثوابت الثورة وإدارة دبلوماسية متوازنة، توازن بين الاستقلال الوطني والتفاعل الذكي مع العالم.

أما الإصلاحيون، فيتوزعون بين المعتدلين الراغبين في إصلاح تدريجي وتوسيع الحريات، وبين الثوريين الباحثين عن تغييرات أكثر جرأة ضمن خط الثورة الإسلامية. هذا التباين يعكس صراعًا أعمق بين العقلانية والتشدد، التقليد والطموح، والحذر والاستجابة لتحديات العصر، حيث تتقاطع بعض التيارات مؤقتًا لإحداث تأثير متوازن دون المساس بأسس الدولة أو استقرارها.

رفض المتشددين للمصالحة الوطنية مهد لائتلاف المعتدلين الثوريين:

بعد حرب الإثني عشر يومًا، صدرت ثلاثة بيانات من شخصيات أكاديمية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية داخل إيران بمختلف توجهاتها السياسية، لمناقشة مستقبل البلاد، لكن لم يلقَ أي منها تفاعلًا واسعًا مثل بيان "جبهة الإصلاح الإيرانية"، الذي دعا إلى المصالحة الوطنية، والمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين، ورفع الإقامة الجبرية، وتعليق تخصيب اليورانيوم.

وبحسب صحيفة هم ميهن الإصلاحية، فقد تباينت ردود الفعل على البيان إلى ثلاث فئات رئيسية:

1- المؤيدون: شملوا معظم التشكيلات الإصلاحية، وحركة نهضة الحرية، الذين رأوا البيانواقعيًا ويخدم مصلحة الشعب الإيراني ومستقبل البلاد والنظام، واعتبروه مقبولًا ومنطقيًا.

2- المنتقدون الفنيون:ركز هؤلاء على توقيت البيان، معتبرين أنه قد يثير حفيظة المتشددين ضد الإصلاحيين. من بينهم الناشط الإصلاحي "أحمد زيد آبادي"، الذي رأى أن النظام يجب أن يقتنع بنفسه بضرورة التغيير. كما اعتبر "سعيد آجرلو"الإعلامي المقرب من قاليبافالبيان رومانسيًا وساذجًا، ووجه الناشط الإصلاحي الثوري "محمد رضا جلایی پور" انتقادات مفصلةله.

3- المتشددون في التيار الأصولي: تجاوزوا النقد إلى الاتهام الصريح؛إذ وصفت صحيفة "كيهان" الموقعين بأنهم "الطابور الخامس" وذوو"هوية مستأجرة"، وأصدرت "جبهة الصمود" بيانًا شديد اللهجة اتهمت فيه الإصلاحيين بخدمة مصالح أمريكا وإسرائيل، ووصفته بـ"الفتنة الجديدة". كما انتقدت وكالة "تسنيم" كفاءة قادة الإصلاح السياسي.

وبناءً على ذلك، يمكن فهم رفض المتشددين لخطاب المصالحة الوطنية كتجسيدٍ لخوفهم من فقدان السيطرة على المشهد السياسي، وليس مجرد موقفٍ انتقادي. ورغم صرامة هذا الموقف، فقد أتاح بالمقابل مساحة لتقاربٍ غير معلن بين الفكر "المحافظ المعتدل" و"الإصلاحي الثوري"؛ بهدف الحفاظ على مصالح الدولة وصورتها الوطنية من خلال تقديم قراءات ومواقف مدروسة تدعم أيديولوجية القائد الأعلى للثورة علي خامنئي، دون الانجرار وراء الانفعالات أو التعصبات، محافظين بذلك على مبادئ الثورة وتجنب الوقوع في فخ الدبلوماسية الغربية الأحادية.

المعتدلون الثوريون يعيدون تشكيل المشهد السياسي في إيران:

على الرغم من الانقسام الظاهري للداخل الإيراني بين الأصوليين والإصلاحيين، تكشف قراءة أعمق عن تحول براجماتي يطال التيارات المحافظة والإصلاحية على حد سواء. فقد أعيد تشكيل الساحة السياسية بين جناحين، أصولي معتدل وإصلاحي ثوري، وهما يمثلان توجهًا سياسيًا واجتماعيًا أفرزته النخبة الإيرانية، بما في ذلك التكنوقراط بعد الاتفاق النووي 2015.

وترى هذه الفئة أن الشرعية الثورية لا تتناقض مع البراغماتية الدولية، بل يمكن التوفيق بينهما عبر التفاعل الذكي مع التحولات العالمية. ومع ذلك، وبسبب رفض المتشددين أي حضور في المحافل الدولية برعاية أمريكية واصطدامهم المستمر بالدعوات الإصلاحية المعتدلة، ظهرت الحاجة إلى تغليب الفكر "المعتدل الثوري"، لا سيما بعد دخول العقوبات الأممية حيز التنفيذ في 28 سبتمبر 2025، وفشل كل من التشدد المنغلق والانفتاح المفرط على الغرب في تحقيق أي مكاسب حقيقية لإيران. وقد بدأ هذا التحول من وزارة الخارجية، حين أعلن وزير الخارجية "عباس عراقجي" توقف المسار التفاوضي مع الترويكا الأوروبية ما داموا مستمرين في تنفيذ العقوبات، ثم تبدى في قبول إيران اتفاقية ترامب للسلام بشرط محاكمة المسؤولين عن جرائم الإبادة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعدم نزع سلاح المقاومة مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة.

ليس هذا فحسب، بل برز هذا التوجه أيضًا في مقاطعة قمة شرم الشيخ للسلام، بدعوى رفض التعاون مع من هاجموا الشعب الإيراني وفرضوا عليه العقوبات. وقد أصبح أكثر رسمية بعد تصريح وزير الخارجية بشأن انتهاء الاتفاق النووي في 18 أكتوبر 2025، مؤكدًا أن القيود المقررة بموجب القرار 2231 انتهت، وأن الحقوق السياسية لإيران غير قابلة للتفاوض.

ومع ذلك، قد يبدو هذا الخطاب متشددًا، ولا يفتح مجالًا أمام الدبلوماسية المرنة، غير أن جوهره يقوم على تغليب المصلحة الوطنية مع الحفاظ على الثوابت الثورية.فالخطاب، وإن بدا مائلًا نحو الانغلاق الدبلوماسي، فإنه في العمق تعبير عن تفاعل تكتيكي مشروط بسياسة "الضغط بالإكراه" التي تمارسها الأطراف الغربية.في المقابل، تبنى هذا الفكر كلُّ من رئيس الجمهورية الدكتور "مسعود بزشكيان" ونائبيه، والمتحدث باسم وزارة الخارجية في عهد محمد جواد ظريف، "عباس موسوي"، مؤكدين أن السياسة الخارجية الإيرانية تقوم على المصلحة دون المساسبالعزة والكرامة الوطنية.

وبشكل عام، يعكس هذا التوجه الجديد نهج القيادة الإيرانية الهادئ وتكتيكها البارد في تحويل الأزمات إلى فرص. فبدل الردالانفعالي على إحياء عقوبات مجلس الأمن، أو التشكيك في أحقية إيران في الجزر الثلاث، أو حتى محاولات نزع سلاحالمقاومة، أعادت القيادة ترتيب أوراقها الدبلوماسية، مركزة على توسيع تحالفاتها، ومتجنبة الانخراط في مبادرات سلام تُدار من خارج الإقليم.

بهذا المعنى لا يُعد هذا الفكر المعتدل الثوري تحولًا في جوهر القرار السيادي، بل إعادة توزيع محسوبة للأدوار ضمن ما يسميه بعض المفكرين الإيرانيين بالمرونة الثورية، وهو المفهوم الذي ظهر بوضوح في الأدبيات الإيرانية بعد الاتفاق النووي عام 2015، وتحديدًا في خطاب القائد الأعلى في إيران، علي خامنئي، حين وصف السياسة الخارجية بـ (نرمش قهرمانانه) أي المرونة البطولية.

ما وراء خوف المتشددين من المعتدلين الثوريين:

يعد الأصوليون المعتدلون في إيران امتدادًا طبيعيًا للأصوليين الحقيقيين للثورة الإسلامية. فهم لا يزالون متمسكين بمبدأي الاستقلال والحرية، ويسعون للتفاعل المتوازن مع العالم، مع الحفاظ على القيم الدينية والمعايير التقليدية. إلى جانبهم يقف الإصلاحيون الثوريون، الذين يسعون لإعادة صياغة الخطاب الإصلاحي بما يتوافق مع مبادئ الثورة، مع التأكيد على إصلاح الهياكل السياسية والاجتماعية، وتوسيع المشاركة الشعبية، والحفاظ على استقلال القرار الوطني.

 في هذا السياق رأى الناشط السياسي ومستشار وزير الداخلية في حكومة حسن روحاني، الأصولي "روح الله جمعة" أن المتشددين، ينظرون إلى هذا التوجه الجديد بعين الحذر والخوف. فهم يخشون أن يقدم هؤلاء، من خلال خطابهم العقلاني والأخلاقي، صورة جديدة عن الثورة والأصولية.

ولذلك تتعرض شخصيات بارزة من الأصوليين المعتدلين، مثل عضوي مجمع تشخيص مصلحة النظام،ناطق نوري، ومحمد باهنر،وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني إلى جانب قادة إصلاحيين ثوريين، مثل مسعود بزشكيان وعباس عراقجي لحملات تشويه وهجوم دائم.

وبرغم ذلك نجح التيار الجديد في جذب شريحة من النخب المتشددة، أبرزهم المستشار السياسي للقائد الأعلى الإيراني، "علي شمخاني"، والذي صرح وبشكل غير متوقع، التزام إيران بعدم صنع الأسلحة النووية، والتخلص من مخزوناتها من اليورانيوم عالي التخصيب العسكري، والسماح بتخصيب اليورانيوم في حدود المستويات المدنية تحت إشراف مفتشين دوليين، مقابل الرفع الفوري لجميع العقوبات الاقتصادية.

ولا شك أن هذا التحول يشير إلى ميل بعض المتشددين، نحو الاعتدال التكتيكي، وقبولهم فتح المسار التفاوضي بشروط تبدو منطقية، لتطمئن الجماهير الإيرانية بأن القيادة منفتحة على الحوار السلمي.بيد أن تحقيق هذا الشرط يبدو صعبًا من الناحية العملية، ولن يقبل به الغرب -وتجربة الاتفاق النووي 2015، خير شاهد على ذلك- إذ إن الموافقة على رفع جميع العقوبات يمهد لظهور ما يمكن تسميته بـ "الثعلب الإيراني"وهو منافس محتمل للولايات المتحدة، ويشبهفي طموحه الاستقلالي ونموذجه التفاوضي، تجربة الصين، مستفيدًا من القدرات الاقتصادية والعلمية الكبيرة لإيران.

وللحق، فإن هذا التحول المهم في المشهد السياسي الإيراني قد نجح في إصابة عصفورين بحجر واحد، هما:

أولًا:المحافظة على التأييد الشعبي لمواقف القيادة الإيرانية داخليًا.

ثانيًا:حماية صورة إيران الإقليمية، وتجنيبها الانجرار وراء الخطاب الانفعالي أو التظاهر بالثورية الزائفة، مع الإبقاء على أوراق القوة الاستراتيجية والتفاوضية بيدها.

خاتمة:

في ضوء هذه التحولات، يتبين أن المشهد السياسي الإيراني لم يعد صراعًا تقليديًا بين المتشددين والإصلاحيين، بل أصبح أكثر ديناميكية وتعقيدًا. فقد نجح "المعتدلون الثوريون" في أن يكونوا قوة موازنة تجمع بين صلابة المبادئ الثورية، وبين مرونة التكيّف الاستراتيجي، محولين تصلب المتشددين إلى تكيفٍ عقلاني، وتمرد بعض الإصلاحيين إلى التزام واقعي بالممكن السياسي.

وقد جاء هذا التحول بدعمٍ وتوجيهٍ من القيادة الإيرانية، التي تدرك أن التطورات الإقليمية الأخيرة تهدف إلى تعزيز النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وإحياء الاتفاقات الإبراهيمية بعد أن تجمدت إثر حرب غزة، في محاولةٍ لإجهاض المشروع الإيراني الإقليمي.

وعليه بات مستقبل النظام الإيراني مرهونًا بقدرة القيادة على تحقيق توازنٍ دقيق داخل الائتلاف الجديد، ودمج بقية أجنحة المتشددين والمعتدلين ضمن إطارٍ موحد، على غرار تجربة استيعاب علي شمخاني وقيادات التيار الإصلاحي تحت مظلة القيادة، في مواجهة التحديات الدولية، التي قد تضع مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية برمته على المحك.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    الخبيرة فى الدراسات البينية الإيرانية