مقالات رأى

الحاجة إلى نموذج عربي لقياس القوة والجاهزية السيبرانية

طباعة

لم يعد الفضاء السيبراني مجرد امتداد تقني للبنى المعلوماتية، بل أصبح مجالًا جيوسياسى قائمًا بذاته، يتداخل فيه الأمن القومي مع الاقتصاد الرقمي، وتتقاطع فيه القوات المسلحة مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وتتداخل فيه الحدود السيادية مع حدود رقمية غير مرئية، تصنع الواقع وتشكّل الإدراك وتعيد صياغة معادلات النفوذ والقوة. إنّ هذا الواقع الجديد يفرض إعادة قراءة الأدوات التقليدية لتحليل القوة، ويستدعي نماذج جديدة تقدر على تفسير هذا الحقل المعرفي الذي يتوسع بوتيرة متسارعة، وتتخلق فيه بنوعيات جديدة من الفواعل، من الشركات العملاقة إلى الجيوش الرقمية، ومن وحدات الحرب السيبرانية إلى الذكاء الاصطناعي ذي القدرة على اتخاذ القرار.

من هذا المنطلق طرحت في أطروحتي للدكتوراه المتعلقة بالفضاء السيبراني وتحولات القوة في العلاقات الدولية سؤالًا محوريًا: كيف يمكن إعادة تعريف القوة في عالم لم تعد فيه السيطرة تُقاس بالحدود المادية والقدرات العسكرية وحدها، بل بالقدرة على امتلاك البيانات وتوجيهها، والتحكم في البنى الخوارزمية التي تصنع الوعي وتدير السلوك وتعيد تشكيل المجال العام؟

وكان أحد أبرز الاستنتاجات التي خلصت إليها الأطروحة أنّ العالم العربي لا يمكنه الاكتفاء بدور المستهلك أو المتلقي للمعايير الدولية في قياس القوة السيبرانية، لأن امتلاك أدوات القياس ليس وظيفة تقنية، بل هو فعل سيادي يمس تعريف الذات وتحديد موقعها في النظام الدولي. فالانتقال من موقع من يُقاس إلى موقع من يضع معايير القياس هو في جوهره انتقال من التبعية المعرفية إلى إنتاج السلطة الرمزية والتقييمية، وهو شرطٌ لبناء حضور عربي مستقل في المجال السيبراني العالمي.

وفق هذا المنظور، فإن الدعوة إلى تأسيس نموذج عربي مستقل لقياس القدرات السيبرانية لم تأتِ كتوصية شكلية، بل كضرورة استراتيجية مرتبطة بوجودنا في نظام دولي يتشكل، حيث تتنافس الدول الكبرى على وضع المعايير، وتحديد قواعد السلوك في الفضاء السيبراني، وصياغة أطر تقييم القدرات الوطنية. إذ إن غالب النماذج الرائجة اليوم -مثل مؤشرات جامعة هارفارد، والاتحاد الدولي للاتصالات، ووكالات الاستخبارات الغربية- تعكس منظومات قيمية وسياسية مُصممة لتعزيز تصورات محددة للقوة، وتدعم رؤية استراتيجية تحافظ على تفوّق القوى المهيمنة تاريخيًا، مما يجعل أي دولة تتلقى هذا التقييم خاضعة بالضرورة لمعادلات قوة فكرية ومعرفية قبل أن تكون تقنية أو أمنية.

لماذا نقول ذلك؟ لأنّ مراجعة الأدبيات ذات الصلة في هذا السياق كشفت عن مشكلتين جوهريتين متأصلتين في بنية المؤشرات الدولية ومعاييرها التقييمية

أولًا- التحيّز المعرفي والسياسي في المؤشرات الدولية:

على الرغم من الادعاء الشائع بأن المؤشرات الدولية تمنح تقييمًا موضوعيًا وحياديًا لقدرات الدول السيبرانية، إلا أنّ التحليل النقدي لهذه الأدوات يكشف عن تحيّزات بنيوية كامنة في طريقة بناء المؤشرات واختيار المعايير وأوزانها. هذه التحيّزات ليست عرضًا منهجيًا فحسب، بل امتدادٌ لفلسفة سياسية تعيد إنتاج مركزية النموذج الليبرالي الغربي بوصفه الإطار الوحيد المقبول لقياس الجاهزية الرقمية والأمن السيبراني.

فالدول التي تتبنى نماذج حكم مختلفة، أو أولويات أمنية وتنموية مغايرة، غالبًا ما تُصنَّف في مرتبة متدنّية، لا لقصور ذاتي بقدر ما هو اختلاف في الرؤية الاستراتيجية، ومن ثمّ في هندسة الفضاء السيبراني لديها. إنّ هذه المؤشرات لا تقيس فقط مستوى القدرات التقنية، بل تقيس مستوى التوافق السياسي مع منظومة قيمية محددة تشمل:

· نموذج الحوكمة المفتوحة للإنترنت.

· أولوية حرية تدفق المعلومات.

· هيكلية الأمن السيبراني المدفوعة بسردية الحقوق الفردية فوق السيادة الرقمية.

· مركزية القطاع الخاص بوصفه فاعلًا رئيسيًا في الأمن السيبراني.

· معيارية الدور الأمريكي/الأوروبي كمرجعية للتنظيم والمعايير.

وبذلك تصبح بعض الدول -خاصة القوى الصاعدة ذات النماذج الهجينة أو البلورة لمقاربات سيادية رقمية- غير مقيّمة وفق قدراتها الفعلية بل وفق مدى اتساقها مع النموذج الغربي، وهو ما يظهر جليًا في تصنيف دول آسيوية وشرق أوسطية تُعدّ من الأكثر تطورًا في البنى الرقمية والأمن السيبراني، ولكنها تحصل على تقييمات أدنى بسبب نماذج حوكمة مختلفة أو أطر سيادية على البيانات.

إنّ هذا التحيّز في القياسات الدولية يعكس شكلًا جديدًا من القوة المعيارية (Normative Power)، حيث تُدار المنافسة السيبرانية عبر تعريفات ومعايير مسبقة تُحدد من يستحق صفة “المتقدّم” ومن يُوضع ضمن خانة "المنكشف" أو"غير الجاهز"، حتى وإن امتلك قدرات تشغيلية وعملياتية أثبتتها التجارب الميدانية.

ثانيًا- تجاهل السياقات الوطنية والبيئة الأمنية العربية:

المشكلة الثانية، الأكثر جوهرية بالنسبة للعالم العربي، تتمثل في فجوة السياق بين البيئة الواقعية الإقليمية والمعايير المستخدمة عالميًا لتقييم القدرات السيبرانية. فغالبية المؤشرات تُبنى على فرض أنّ التهديدات المهيمنة هي جرائم إلكترونية ونشاطات تجسسية تقليدية وهجمات على البنى الرقمية المدنية، في حين أنّ البيئة العربية تُظهر طبيعة تهديدات أكثر تعقيدًا وتشابكًا، منها:

·  تهديدات سيبرانية مُمأسسة من فواعل دولية وإقليمية.

· حروب معلومات موجهة تستهدف الشرعية والاستقرار السياسي.

·  تداخل الأمن السيبراني مع ديناميكيات الصراع العسكري التقليدي.

· أهمية البنى الحيوية المرتبطة بالطاقة والغاز والموقع الجيوسياسي.

· تعدد مسارح الصراع الرقمي (الإعلام، وأسواق الطاقة، وأمن الموانئ، وشبكات الاتصالات، والبنية النقدية والمالية).

بمعنى آخر فإن المؤشرات الحالية لا تلتقط حقيقة أنّ الفضاء السيبراني في المنطقة ليس فقط مجالًا تقنيًا، بل مسرح جيوسياسى يرتبط بالأمن الوطني والاقتصاد السياسي الإقليمي. وبالتالي فإن تقييم دول المنطقة وفق معايير تركّز على عناصر تقنية معزولة دون دمجها في سياق أوسع من التحديات الإقليمية يجعل المؤشر غير قادر على عكس القدرات الفعلية أو الاحتياجات الاستراتيجية.

كما أنّ السياق العربي يتطلب وزنًا أكبر لمعايير مثل:

· حماية البنى التحتية للطاقة والموارد الحيوية.

· أمن المعلومات في سياق تنافسي إقليمي معقّد.

· قدرات الدولة على مواجهة حملات التأثير والمعلومات المضللة.

· بناء سرديات رقمية وطنية وإعلامية مستقلة.

· تطوير منظومات سيادية لإدارة البيانات والخصوصية والأمن الوطني.

من هنا فإن الاعتماد على المؤشرات الدولية دون تطوير إطار خاص قد يؤدي إلى سوء تقدير الأولويات السيبرانية العربية، ويعطّل بناء استراتيجيات تستجيب للواقع الفعلي وليس لقوالب جاهزة.

في الحالتين تكمن الإشكالية في أن هذه المؤشرات تتحول، دون قصد مباشر أحيانًا، إلى أدوات لتعريف "من هو جاهز سيبرانيًا" وفق منظومة قيمية خارجية، وليس وفق احتياجات وطنية، ومصالح استراتيجية، وتحولات جيوسياسية تخص المنطقة العربية.

وبذلك يصبح تأسيس نموذج عربي فعلًا معرفيًا سياديًا يستعيد القدرة على تعريف الذات الرقمية، وتحديد موقعنا في النظام السيبراني العالمي وفق معايير نابعة من سياقاتنا وضروراتنا، لا وفق عدسات الآخرين ومصالحهم.

تأسيسًا على ما سبق يصبح تطوير مؤشر عربي لقياس القوة السيبرانية مسألة تمس جوهر السيادة الرقمية وحق الدول العربية في بناء فهمها المستقل للقدرات السيبرانية، بعيدًا عن الاختزال الذي قد يحوِّل مشاريع النهضة الرقمية العربية إلى مجرّد أرقام داخل معادلات خارجية. كما أن وجود إطار عربي موحد سيسهم في تعزيز التكامل الإقليمي، وخلق بيئة تشاركية تُبنى فيها السياسات على أسس معرفية دقيقة، وتتشكل فيها منظومات تدريب وتطوير ووعي سيبراني مشترك، يُمكّن من إعداد جيل من الباحثين وصناع القرار وقادة الأمن السيبراني قادر على التعامل مع تحديات المستقبل.

إن النموذج الذي نتحدث عنه ينبغي ألّا يكون مجرد عملية تقنية لفرز المؤشرات، بل مشروع حضاري لبناء ثقافة استراتيجية رقمية، تُدرك أن مواجهة التهديدات السيبرانية لا تنفصل عن بناء اقتصاد معرفي قوي، واستثمار في التعليم والبحث العلمي، وتطوير الصناعات التقنية الوطنية، وتعزيز القدرة على التأثير في الفضاءات الإعلامية الرقمية، وصياغة سرديات عربية تمتلك حضورًا في الشبكة العالمية، بدل الاكتفاء بموقع المتلقي أو المتأثر.

فالتوصية التي أشرت إليها أعلاه تمثل خطوة نحو تأسيس ما يمكن تسميته نموذجا عربيا في دراسات القوة السيبرانية، يسعى إلى خلق محتوى علمي عربي، وإنتاج أدوات تحليل مستقلة باللغة نفسها، وتوجيه البحث العلمي نحو قضايا الأمن السيبراني، والهوية الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والسيادة على البيانات عربيًا. هذه ليست مهمة بحثية فقط، بل رهان تاريخي على قدرة المنطقة العربية على الدخول في عصر القوة الرقمية من موقع الفاعل، لا من موقع المتأخر الذي يدور في فلك الآخرين.. فهل نحن فاعلون؟

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. خالد وليد محمود

    د. خالد وليد محمود

    باحث متخصص في السياسة السيبرانية