مقالات رأى

من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا

طباعة
يغادر الرئيس باراك أوباما البيت الأبيض بعد شهور قليلة مخلفاً تركة ثقيلة من الإخفاق في السياسة الخارجية. لا يقتصر هذا الإخفاق على منطقة الشرق الأوسط، وإن بدا للوهلة الأولى أكثر وضوحاً فيها. عزم أوباما منذ توليه الرئاسة على تقليل تورط الولايات المتحدة في صراعات هذه المنطقة، لكنه فعل ذلك بطريقة تنطوي على الاستهانة بتقاليد السياسة الأميركية، وعلاقاتها التاريخية فيها.
 
لذلك ربما يسجل التاريخ له «أريحيته» في تيسير استعادة روسيا نفوذها في الشرق الأوسط، ووضع مصير الشعبين السوري والعراقي بين يدي موسكو وإيران، ثم مباركة محاولة فرنسا الاضطلاع بالدور القيادي في جهود تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
 
ويدافع أوباما وأنصاره في بعض مراكز التفكير الأميركية عن سياسة «فك الارتباط مع الشرق الأوسط، ويرون أنها ضرورية لتمكين الولايات المتحدة من التوجه إلى منطقة شرق آسيا حيث توجد المصالح الأميركية الأكبر في المرحلة الراهنة.
وتبدو هذه المجادلة صحيحة من الناحية المنهجية، فالمصالح في العلاقات الدولية تختلف من مرحلة إلى أخرى، كما أن تحدي الصعود الصيني يفرض على الولايات المتحدة وضعه في مقدمة أولوياتها.
 
غير أن ما يصح منهجياً على هذا النحو لا يستقيم بالضرورة واقعياً لسببين، أولهما أنه كان في إمكان إدارة أوباما إعطاء شرق آسيا الأولوية، والمحافظة في الوقت نفسه على الدور الأميركي في الشرق الأوسط، أو تقليل الخسائر المترتبة على تقليص هذا الدور، وترتبط الخسارة الأكثر أهمية في هذا المجال بإضعاف علاقات تاريخية استثمرت فيها الولايات المتحدة طويلاً مع دول عربية رئيسية.
 
غير أن السبب الثاني قد يكون أكثر دلالة على مدى إخفاق سياسة أوباما الخارجية بمجملها، وهو الافتقار إلى استراتيجية واضحة لمواجهة التحدي الصيني في شرق آسيا، فليس لدى واشنطن رؤية لكيفية التعاطي مع الإجراءات التي تتخذها بكين بطريقة منهجية في بحر الصين الجنوبي المتفرع من المحيط الهادئ، والذي يمر عبره نحو ثلث الشحنات البحرية العالمية. ويُعد هذا البحر المحور الرئيس لصراع النفوذ الصيني الأميركي في منطقة واسعة تمتد من سنغافورة ومضيق ملقة إلى مضيق تايوان، وتبلغ مساحتها نحو ثلاثة ملايين ونصف كيلومتر مربع.
 
وتعمل الصين لبسط نفوذها في هذه المنطقة، حيث تنشئ جزراً اصطناعية ومهابط طائرات، وتقوم بأعمال بناء لركائز بنية تحتية في جزر متنازع عليها مع جيرانها من حلفاء واشنطن، ضاربة عرض الحائط بالموقف الأميركي المرتبك.
 
ويظهر هذا الارتباك في الخطاب السياسي الأميركي طول الوقت تقريباً. ولنأخذ مثلاً ما صدر عن واشنطن في ثلاثة أيام متتالية (5 و6 و7 يونيو الجاري)، إبان زيارة كيري إلى بكين للمشاركة في «الحوار الاستراتيجي والاقتصادي الثامن».
 
وفي اليوم الأول ندد كيري باستفزازات الصين وإصرارها على عسكرة منطقة بحر الصين الجنوبي. وفي اليوم التالي، عبر عن رغبة واشنطن في التعاون مع الصين، وبناء علاقة تقوم على الشراكة وليس على الخصومة.
 
وفي اليوم الثالث اتهمت قيادة القوات الأميركية في المحيط الهادئ مقاتلتين صينيتين باعتراض طائرة أميركية فوق بحر الصين الشرقي «بطريقة غير آمنة» وبدون مبرر.
 
ويعني ذلك أن إدارة أوباما لا تملك حتى الآن سوى اعتراضات لفظية على إجراءات تتخذها الصين لإكمال هيمنتها على منطقة بحر الصين الجنوبي، وتمنيات بأن تقبل بكين إقامة شراكة معها، ولم تتمكن هذه الإدارة حتى من تطوير منظومة تجمع حلفاءها في المنطقة، وفي مقدمتهم اليابان وكوريا الجنوبية، مع الدول التي أقامت معها علاقات تعاون عسكري بدرجات متفاوتة مثل الفلبين وسنغافورة وفيتنام وماليزيا.
 
والمهم هو أن خطط الصين لتوسيع نفوذها تسارعت في الأعوام الثلاثة الأخيرة، بصفة خاصة منذ تولي الرئيس الحالي شي جينبينغ منصبه عام 2012، بينما كانت إدارة أوباما تكمل عملية «فك الارتباط» بأزمات الشرق الأوسط لإعطاء الأولوية لمواجهة هذا التحدي في شرق آسيا.
 
لقد نجحت القيادة الصينية في استغلال ارتباك سياسة أوباما الخارجية في شرق آسيا، وفي الشرق الأوسط، على نحو يجعل إخفاق هذه السياسة هو الهم الأكبر للرئيس الأميركي القادم.
 
-----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 29-7-2016.
طباعة

تعريف الكاتب

د. وحيد عبد المجيد

د. وحيد عبد المجيد

مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام