مقالات رأى

من باكستان إلى بلاد العر

طباعة
حملت لنا الأخبار مطلع الأسبوع الحالي، أن النائبَ في مجلس النواب الباكستاني مروة ميمون سحبت مشروع قانون تقدمت به لمنع زواج القاصرات، بسبب رفضه من لجنة الشؤون الدينية في البرلمان. الخبر في حد ذاته لا ينطوي على غرابة، فالحساسية من سنّ تشريعات جديدة أو تعديل تشريعات قائمة، إذا كانت المرأة محورها، هي حساسية عامة، يشترك فيها معظم العرب والمسلمين بدرجات متفاونة. فالمتابع يعرف المعارك التي تمت في بعض البرلمانات العربية، حول تعديل بعض التشريعات، مثل تلك التي ينال فيها القاتل في جرائم الشرف حكماً مخففاً. أو تلك التي يفلت فيها المغتصب من العقوبة إذا تزوج بضحيته. مع ذلك، أخذتني موجة تعاطف غامرة طارت بي عبر المسافات تجاه مروة ميمون التي لا أعرفها.
 
من خبرة شخصية ومن معرفة بتجارب الآخرين، وصلت إلى أن الإحباط من المشاعر التي لا بد من أن يتكيف معها الأفراد الذين يشتغلون على موضوع حقوق المرأة. الإحباط من العودة في مرات كثيرة إلى نقطة الصفر للانطلاق منها مجدداً. لكن الأهم من هذه الخلاصة هي (الحكمة) الآتية في إهابها على هذا النحو: ليس أمامك سوى خيار من ثلاثة: إما جلد الذات وهجاء العالم، وإما ترك كل هذا والانصراف لشأن آخر، وإما الخيار الثالث وهو العمل الدؤوب حتى لو كانت النتائج متباعدة وصغيرة. التغيير في مجتمعاتنا ليس سهلاً، ولا يحدث بين عشية وضحاها، بل هو عملية تراكمية طويلة يقوم بها أناس ويتابعها آخرون.
 
ذات صباح من عام 2006، وكنت أنهي إحدى محاضراتي في الجامعة، تلقيت اتصالاً من الراحل غازي القصيبي. فاجأني وهو يبادر قائلاً بالحرف: «وقّعت قرار التأجيل لأجل غير مسمى كأني أتجرع كأس سم». كان يقصد قرار تأجيل توظيف السعوديات في محال بيع المستلزمات النسائية. كانت لي في ذلك الوقت مقالة أسبوعية، فيحدث بين حين وآخر أن يهاتفني معلقاً أو مستدركاً. وكنت على معرفة بنوع وحجم الضغوط الهائلة التي بدأ البعض في ممارستها على وزارة العمل لإلغاء القرار المنتظر. رددت عليه في آخر تلك المكالمة، والإحباط قد بلغ مني ما بلغه: سأكتب مقالة، فهل أشير إلى كلامنا؟ قال: افعلي. اليوم كلما مررت ببعض المجمعات التجارية ورأيت الفتيات السعوديات يتولّين مهمة البيع، ترحمت على غازي الذي ذهب وفي حلقه من هذا الأمر غصة.
 
البعض يعتقد بأن المشتغلين على حقوق المرأة يواجهون التضييق في الهياكل الإسلاموية والثقافات المحافظة فقط، لكن ذلك ليس دقيقاً. فهذه عزة شرارة بيضون تشير إلى تجربتها الشخصية في «منظمة العمل الشيوعي اللبناني»، حين كان المكتب السياسي يوكل إلى أكثر الرجال تشدداً مهمة «ترشيد» خطابهن وضبط «شططه» المحتمل. إذاً، هو فصل من فصول الفكر الشمولي.
 
في السجال المرتبط بحقوق النساء، فإن أهم (ثيمة) يتم ترديدها باستمرار، هي أن الغرب يريد إفساد المرأة المسلمة. هذه الطرفة السمجة تُؤلف فيها الكتب، وتعقد لها الندوات، ويرددها أكاديميون وعوام. السؤال الذي لا يمت إلى البراءة بصلة، وكنت أتعمد طرحه كلما صادفت تنظيراً بهذا الشكل فلا أحصل على إجابة، هو: ماذا سيضيف فساد نسائنا الكسيرات في سوادهن الأعظم إلى الغرب المشغول بعلومه وصناعاته وآدابه وفنونه؟ ما هو السبب الغامض الأسطوري الذي يجعل الغرب الذي يمثل ذروة ما بلغته الحضارة الإنسانية، يصمم هذا التصميم الأحمق على إفساد نساء مجتمعات أنهكتها في الغالب مشكلات الفقر والأمية والإرهاب والطائفية؟
 
أي مقابلة عقلانية بين الأنا المسحوقة وبين الآخر المتفوق، لن تعضّد الهواجس المريضة، أو لن تعزز منطق نقل الإشكالية من تفاعل أو تنازع الهويات الثقافية، إلى دائرة المؤامرة المنصبة لاقتلاع المرأة المسلمة من دون نساء العالمين. فأول مقاتل هذا الهاجس كامنة في طبيعة النموذج الغربي المعولم، الذي إذا افترضنا تأثيره، فهو لن يميز بين المسلمات والبوذيات والشرقيات واللاتينيات.
 
أما مقولة لماذا يدسون أنوفهم في شؤون نسائنا، فيوجب التذكير بأنه لم يعد بإمكانك أن تقفل النوافذ، وتمارس ما تشاء بالطمأنينة السابقة ذاتها. فقضية ختان الإناث في مصر، أو جرائم الشرف في الأردن، أو تعنت الإسرائيليين ضد الفلسطينيات عند الحواجز والمعابر، تُطرح في تقارير دولية، وبرامج تلفزيونية أجنبية، من دون أخذ الإذن من أحد.
 
يُعوّل البعض على الحملات الإعلامية، التي يتم فيها تقديم نماذج ناجحة من النساء العربيات إلى محافل الأجانب ووسائل إعلامهم. لكن مساهمة المرأة لا يتم تقويمها في ضوء حملات موسمية لتحسين الصورة. فهذه معلومات لا تعتمد على شروط موضوعية، بمقدار ما تُحيل على مجهودات فردية واستثنائية. وضع المرأة يُقوّم في ضوء مجمل مشاركتها، سواء الاقتصادية في قوة العمل، أو الاجتماعية في عضوية مؤسسات المجتمع، أو السياسية في صنع القرار.
 
المطّلع على دساتير الدول العربية بما فيها النظام الأساسي للحكم في السعودية، سيجد أنها لا تفرق بين النساء والرجال. لكن عدم اشتمال أكثرها على مواد تمنع صراحة التمييز، ترتب عليه أن بعض التقاليد المحلية أخذت طريقها إلى التشريعات الأخرى الأدنى من هذه الدساتير، في بدء تشكل الدولة الحديثة، وحالت دون اعتبار المرأة مواطنة كاملة المواطنة.
 
إن الدفاع عن أعراف أو قوانين غير عادلة باسم الإسلام، هو من أكبر الجنايات التي يمكن اقترافها ضد الإسلام نفسه. فمن غايات الإسلام الكبرى تحقيق العدالة، وهذه العدالة من شروطها مراعاة مصالح الناس ومتغيرات الواقع، وقراءة الموروث قراءة تاريخية، تزاوج بين الإنساني فيه وبين الإنساني في حضارة العصر، مع الأخذ في الاعتبار تخليص الدين الحنيف مما علق به على مر السنين، من تقاليد بالية.
لا بد من أن نسأل أنفسنا: هل نحن نجرح ضميرنا الديني أو نتنكر لإرثنا الحضاري، إذا عدلنا القوانين الجائرة؟ إذا منحنا المرأة حقوقها؟ إذا انضممنا إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بمناهضة التمييز ضدها مثل «سيداو»؟
 
في سجال البعض الشعبوي حول هذه الاتفاقية، تصبح الأمم المتحدة كمنظمة دولية هي المعادل للغرب الصليبي وحروبه العسكرية. فكيان المنظمة لا يميزه هؤلاء خارج سياق الفسطاطين. وكم على المرء أن يستحث من طاقة الصبر، وهو يستمع إلى بعض الطروحات التي تزداد حدة في مجتمع كالمجتمع السعودي، لم يتماس مباشرة مع المنظمات الخيرية والإغاثية المنضوية تحت الأمم المتحدة، من خلال الاستفادة من منحها وبرامجها، فظل لا يعرف من المنظمة الدولية سوى مجلس الأمن وصراع الإرادات السياسية من خلاله.
 
تعرضت «سيداو» للتشويه الذي لم يتعرض له أي صك حقوقي آخر على مرّ التاريخ، فهي حرفت من جانب معارضيها في كل مكان، لأن البنية المعرفية للعقل المؤدلج واحدة. الشيء الذي يسميه بعض الباحثين «الشبه العائلي» الذي يجمع التطرف سواء كان مسلماً أم مسيحياً أو شيوعياً أو نازياً. ومن الطريف أن زميلة أخبرتني بأنها تتبعت مصدر الأكاذيب التي تضخها إحداهن عن «سيداو»، فوجدته موقعاً مغموراً على الإنترنت لمنظمة يمينية متطرفة في الولايات المتحدة.
 
في بعض الدول العربية والإسلامية يسيّس المتشددون الاتفاقية، ويستخدمونها أداة لتعطيل مبادرات الإصلاح التشريعي. لا يرونها كمشترك سياسي قانوني ضمن منظومة المواثيق الدولية، بل يدركونها في إطار الصراع العقائدي وصدام الحضارات الذي يهدف إلى نسف الخصوصيات الدينية والثقافية. فيتم باستمرار إثارة المخاوف بأن الاتفاقية وسيلة لتدويل قضايا المرأة، وانتهاك السيادة الوطنية. كل هذا ولجنة «سيداو» ليس في يدها أي إدانة، وكل ما تملكه هو التعبير عن قلقها فقط. وهي في هذا الأمر تشبه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، والنكتة الرائجة عن جدول أعماله المكتظ بالتعبير عن القلق!
 
 
------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 21-1-2016.
طباعة

تعريف الكاتب

لطيفة الشعلان

لطيفة الشعلان

كاتبة وعضو مجلس الشورى السعودي