تحليلات - قضايا عالمية

"الأونروا" واللاجئون الفلسطينيون.. أزمة مالية أم تصفية تدريجية؟

طباعة
تدخل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، في هذه المرحلة من عمرها الزمني الممتد منذ عام 1950 (سنة بدء عملياتها)، منعطفاً حاسماً يتجاوز مسألة أزمتها المالية الخانقة إلى حدّ تهديد مصير وجودها، ونطاقها الخدميّ، وجوهر رمزيتها لقضية اللاجئين الفلسطينيين.
 
ولا يعدّ مأزق "الأونروا" الراهن، في ظاهره العام، حدثاً غريباً على مسيرتها الحافلة بمشاهد مماثلة، لكنه يتسم هذه المرّة بمشارب قاتمة أمام العجز المالي الضخم الذي يبلغ 101 مليون دولار، وتثاقل الدول المانحة عن سداده، وضعف الاستجابة لتمويل مناشدات طوارئ أطلقتها الوكالة لمعالجة تبعات الأزمة السورية والأوضاع في الأراضي المحتلة، عدا قرار إدارة الوكالة الحاسم بتقليص الخدمات المقدمة للاجئين، وفي مقدمتها التعليمية.
 
وتأخذ الأزمة أبعادها الأخرى عند وقوف محاولات إسرائيلية محمومة خلف إلغاء عمل الوكالة تدريجياً، وتغييب قضية اللاجئين الفلسطينيين، وإسقاط حق العودة، في ظل ما يعتقده الاحتلال فعلاً بعيداً عن المساءلة إزاء المشهد الإقليمي العربي الراهن، والانحياز الأمريكي له، وضعف الدعم العربي- الإسلامي للقضية الفلسطينية.
 
في البدء كانت الشرارة
 
تفاعلت الجوانب المرتبطة بأزمة الوكالة المالية لدى إعلان المفوض العام "للأونروا"، بيير كرينبول، أخيرا، عن "أخطر الأزمات المالية التي تشهدها الوكالة في تاريخها على الإطلاق"، إزاء العجز المالي الضخم في ميزانيتها الأساسية، والذي يبلغ 101 مليون دولار، والمرشح للزيادة إلى نحو 150 – 160 مليون دولار مع دخول عام 2016، ما لم تتم تغطيته بالكامل، و"عدم مقدرتها على دفع جميع رواتب العاملين لديها، أو تغطية أنشطتها وخدماتها لما تبقى من العام الحالي، والحاجة إلى سيولة مالية تقدر بنحو47  مليون دولار لتغطية تكاليف نحو 30 ألف موظف يعملون في 900 منشأة في مناطق عملياتها الخمس، وسدّ نقص التمويل في ميزانيتها العامة الأساسية للأعوام التالية، والمقدرة بنحو 135.2 مليون دولار للعام القادم، عدا الحاجة إلى نحو 171 مليون دولار كرأسمال احتياطي لعملياتها المالية لتغطية نفقاتها لثلاثة أشهر".
 
يأتي ذلك وسط ضعف مستوى تمويل المانحين لمناشدات الطوارئ التي أطلقتها الوكالة، خلال العام الحالي، للاجئين الفلسطينيين من سوريا، والموجودين في الأردن، ولبنان، والأراضي المحتلة، مما دفع بالمفوض العام إلى إصدار قرار صادم بتقليص الخدمات الأساسية، الصحية، والتعليمية، والإغاثة الاجتماعية، المقدمة لزهاء خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لدى "الأونروا" في مناطق عملياتها الخمس (الأردن، وسوريا، ولبنان، والضفة الغربية، وقطاع غزة).
 
وقد ترجم القرار في صيغة إجراءات تقشفية صارمة أعلنت "الأونروا" عن اعتمادها، مثل تجميد التعيينات، وإلغاء وظائف 85% من العاملين الأجانب لديها بعقود، وإغلاق بعض المدارس تحت ذرائع ظروف البيئة المدرسية غير الصحية، وتقليص عدد الغرف الصفية في بعضها لمصلحة "تكديس" الطلبة ضمن أخرى محدودة، وتعديل قانون الإجازة بدون راتب لجهة منح المفوض العام لنفسه صلاحية وضع أي موظف، أو موظفين، في إجازة لمدة عام بدون راتب، والتلويح بتأجيل العام الدراسي القادم لنصف مليون طالب وطالبة، ضمن 700 مدرسة، بالإضافة إلى ثمانية مراكز للتدريب المهني تقدم التدريب لنحو سبعة آلاف لاجئ ولاجئة في مناطق عملياتها الخمس، بسبب عدم قدرتها على دفع رواتب المعلمين، ولا تغطية النفقات المرتبطة بتشغيل مدارسها، والمقدرة بنحو 25 مليون دولار شهرياً حتى انتهاء العام الحالي، وذلك في لغة مخففة وبديلة عن وقف الخدمات التعليمية، مؤقتاً أو كلياً، تبعاً لمعطيات المرحلة.
 
وتستهدف تلك الإجراءات، في حال استمرار الوضع المالي المتدهور، الإبقاء على الشق الخدميّ الإنساني فقط لعمل الوكالة، دون الخدمات الأخرى، بمعنى مواصلة المساعدات التي تقدم للعائلات الأشد فقراً من خلال برنامج الإغاثة والخدمات الاجتماعية، والخدمات الأساسية لبرنامج الصحة، وخدمات الطوارئ، التي حصلت الوكالة على تمويل لها، بينما يستثنى منها الخدمات التعليمية والتشغيلية الأساسية.
 
وقد أثار قرار الوكالة موجة غضب واستياء عارمة من جانب العاملين لديها، ومعظمهم من اللاجئين الفلسطينيين، مثلما خلق بلبلة معتبرة في صفوف اللاجئين الفلسطينيين داخل المخيمات وخارجها، عبر تنظيم الاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية.
 
ولم يخفِ الحراك الشعبي مخاوفه من الأهداف الكامنة وراء قرار الوكالة بتخفيض خدماتها، تحت ذريعة عجزها المالي، سعياً وراء تحميل مسئولياتها، تدريجياً، إلى الدول المضيفة للاجئين، ومن ثم وقف برامجها وإبقاؤها هيكلاً مفرغاً من المضمون والهوية، وذلك من خلال الشروع، ابتداءً، في ضربّ القطاع التعليمي، الذي يعدّ الأضخم حجماً وعدداً، من حيث عدد موظفيه وهيكلة رواتبه، حيث إن 60% من أصل 80% من ميزانية الوكالة، التي تذهب كرواتب للموظفين، تخصص للكادر التعليمي، مما يعني، عند حدوثه، إنهاء 75% من عمل الوكالة، مع الإبقاء على 25% فقط من هيكلتها الخدمية، سهلة الإلغاء.
 
ويزيد منسوب القلق لدى العاملين من قرار المفوض العام، غير القانوني في نظرهم، بإعطاء نفسه صلاحيات منح إجازة بدون راتب للموظفين، مع منعهم من مقاضاة الوكالة عبر حقهم بالتظلم، وعدم مناقشته مع ممثلي العاملين، رغم مساسه بأمنهم الوظيفي، وذلك غداة فتح باب الترك الطوعي الاستثنائي من دون ملء الوظائف الشاغرة بتعيينات جديدة، بما يخالف ميثاق الأمم المتحدة. أما الحديث عن إلغاء وظائف 85% من الموظفين الدوليين العاملين لدى الوكالة، فلا يعكس الصورة الحقيقية القائمة، حيث لا يتجاوز عددهم 137 موظفاً ضمن عقود مؤقتة تنتهي مددها في غضون الشهر المقبل، والذي يليه، في حين انخرط معظمهم ضمن مشروع يخص تخطيط الموارد البشرية، الذي كلف الوكالة نحو 43 مليون دولار أمريكي، وقد انتهى عملهم فيه، وبالتالي استكملوا مدد عقودهم إيذاناً بالعودة إلى بلدانهم.
 
في المقابل، لم تخف الدول المضيفة للاجئين هي الأخرى مخاوفها من حيثيات وتبعات ما يجري راهناً، وهو الأمر الذي يكشفه جلياً مغزى الرسالة الصارمة التي وجهها الأردن إلى الاجتماع الطارئ للدول المانحة والمضيفة للاجئين الفلسطينيين، الذي عقد في عمان يوم 26 يوليو2015، والتي عبّر فيها عن "سخطه" من الوضع الذي آلت إليه "الأونروا"، وتساؤله إن كانت توجد "أجندة خفية" تقف وراء بلوغها هذا المصير، أم لا، في الوقت الذي تتدفق فيه الأموال ضمن ساحات عربية مأزومة، بينما تترك الوكالة لمأزقها المجهول.
 
الأردن، الذي يستضيف على أراضيه زهاء 42٪ من إجمالي خمسة ملايين لاجئ فلسطيني يقيمون في الدول المضيفة، يدرك جيداً فداحة تبعات إضافة أعباء أخرى على كاهله الرازح تحت وطأة ضغوط ثقيلة، عند تراجع تمويل المانحين للوكالة.
 
المحاولات الإسرائيلية المضادّة
 
رغم اختلاف الظروف المصاحبة لحال "الأونروا" اليوم عن السنوات السابقة، فإن النتيجة تكاد تكون مماثلة، مع حضور البصمات الإسرائيلية في كليهما، إذ يجد الاحتلال في المشهد الإقليمي العربي الراهن مناخاً مواتياً للمضيّ فيما يعتقده فعلاً بعيداً عن ضغط المساءلة، إزاء الانحياز الأمريكي المفتوح له، وضعف الدعم العربي- الإسلامي للقضية الفلسطينية، لأجل تعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحته، ومحاولة ضربّ أسّ القضية الفلسطينية في الصميم، الذي لا يتحقق بالنسبة إليه إلا من خلال إسقاط حق العودة، وتصفية "الأونروا"، التي تعدّ الوجه البارز لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وشاهد العيان على جرائم الاحتلال ضدّ الشعب العربي الفلسطيني منذ ما قبل عام 1948 حتى اليوم.
 
ويستهدف الاحتلال، من خلال حراكه المضادّ، محاولة خلخلة الدعائم المالية للوكالة، ونسج الدعاوى عن قنوات إنفاق تبرعات المانحين التي تذهب في مشارب أخرى لا علاقة لها بالخدمات المقدمة للاجئين، وتأليب مجتمع المانحين على غياب مبرر وجودها، وحاجة استمرارها، في ظل تصدر قضايا تحتل أولوية الصرف والاهتمام الدولي، مثل القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، و"جبهة النصرة"، اللذين لا يزالان يشغلان، بجرائمهما ومساحة سيطرتهما، أولوية التحرك الإقليمي الدولي.
 
ويحشد الاحتلال حراكاً نشيطاً من أجل تحقيق مبتغاه، عن طريق اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا، وهما من كبار المانحين لميزانية "الأونروا"، لمقاربة ما نجح في فعله سابقاً، حينما أوقفت الحكومة الكندية، التي تعدّ من كبار الدول المانحة للأونروا، مساعداتها المالية للوكالة عام 2010، بزعم حصول حركات المقاومة الفلسطينية عليها، واستخدامها ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
 
كما يشنّ الاحتلال حملة شعواء ضدّ المناهج التعليمية المعتمدة في مدارس الوكالة تحت مزاعم تحريضها عليه، رغم أنها مناهج الدول المضيفة، وليس للاونروا مناهج خاصة بها، في قلب واضح لحقيقة أن "المناهج التعليمية الإسرائيلية" هي التي تحرّض على الإرهاب، وعلى قتل الفلسطينيين، وإبادتهم، وطردهم من وطنهم، وارتكاب الجرائم بحقهم، وليس العكس.
 
وقد تواتر هذا الفعل المضادّ للأونروا مع مساعي الاحتلال في الأمم المتحدة، المستمرة منذ عام 2013، لتغيير الصيغة القانونية الخاصة بتعريف اللاجئين الفلسطينيين، صوب نفيها عن أبناء الذين أجبروا على مغادرة فلسطين عام 1948، تحت مزاعم أن "حق العودة، وليس المستوطنات، يشكل العقبة الرئيسية في وجه عملية السلام، ويقود إلى تدمير الكيان الإسرائيلي". إلا أن وكالة الأونروا تؤكد دوماً أن "صفة اللاجئ الفلسطيني تنقل إلى الأبناء والأحفاد أيضاً، ولا تغيير على ذلك مطلقاً"، وفق التعريف الذي وضعته للاجئ الفلسطيني، الذي يعدّ جزءاً من منظومة أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما منحت تفويضها للوكالة عند تأسيسها. 
 
تداعيات الأزمة على اللاجئين الفلسطينيين
 
ليس ثمة فرق كبير، في الظاهر العام، بين الأزمة المالية الحالية "للأونروا" عن سابقاتها، باستثناء تنامي عدد اللاجئين الفلسطينيين، وزيادة معاناتهم إزاء عدم التوصل، حتى الآن، إلى حل عادل وشامل لقضيتهم، وفق القرار الدولي 194، القاضي بحق عودتهم إلى ديارهم وأراضيهم التي هُجِّروا منها بفعل العدوان الصهيوني في عام 1948، وتعويضهم.
 
وقد يتم تجاوز جزء من المحنة الحالية "للأونروا" بقيام الدول المانحة بتغطية بعض أو معظم عجزها المالي. وقد تستمر الجهات المانحة، ضمن مسار متثاقل، في دفع التزاماتها تجاه ميزانية الوكالة، التي لا تتناسب مطلقاً مع الزيادة الطبيعية للاجئين الفلسطينيين، ولا مع التنامي المطرد لاحتياجاتهم. وقد تقف الدول المضيفة للاجئين، والدول العربية عموماً، إلى جانب الدول الصديقة والداعمة لعدالة قضية الشعب الفلسطيني، في وجه مساعي تصفية الوكالة، لمصلحة استمرار وجودها، وصدّ محاولات إلغاء المخيمات شيئاً فشيئاً، كما حدث في وقت قريب مع مخيم نهر البارد، وكما يتم الآن مع مخيم اليرموك.
 
غير أن الصورة لا تكتمل إلا ضمن المشهد الإقليمي العربي الراهن، المنشغل بقضاياه الداخلية، وبالأحداث الجارية في المنطقة، على حساب الاهتمام بالقضية الفلسطينية، خارج إطار المواقف التضامنية، في ظل محاولات غربية، أمريكية أساساً، لبلوغ تسوية ما للعملية السلمية تتجاوز حق العودة، بما ينسجم مع المطلب الإسرائيلي، ووسط مساعي الاحتلال المحمومة لتعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحته، وتقويض عمل "الأونروا" تدريجياً، تمهيداً لإلغاء مبرر وجودها.
 
ولا يخفي ذلك حقيقة أن "الأونروا" التي نتحدث عنها اليوم مختلفة تماماً عن تلك الكائنة سابقاً، أو تلك التي ستكون عليه لاحقاً، بعدما نخرت أزماتها المالية، نتيجة ضعف دعم الدول المانحة، في أسسها الهيكلية، وأصابت التصدعات برامجها الخدمية الأساسية حدّ الكفاف، وطرأت تقليصات على خدماتها، التعليمية والصحية تحديداً، في نهج غير مرئي لضرب ركائزها، وطمس هويتها، وتغييب قضية اللاجئين الفلسطينيين معها.
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. نادية سعد الدين

    د. نادية سعد الدين

    صحفية وباحثة من الأردن