كيف يفكر العالم

عالم مضطرب.. لماذا يتفكك نظام ما بعد الحرب الباردة؟

  • 4-11-2014

طباعة

عرض-  باسم راشد، باحث في العلوم السياسية.

يتسم نظام ما بعد الحرب الباردة، الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، بحالة من التوتر الدائم بين قوى "حفظ النظام" التي تضم الفاعلين الملتزمين بالقواعد والترتيبات الدولية القائمة حاليا، وكذلك عملية تعديلها، وبين قوى "الفوضى" التي تشمل، على النقيض، الفاعلين الرافضين لتلك القواعد والترتيبات من حيث المبدأ، فضلا عن تجاهلهم لها، أو تقليلهم من قيمتها. وتحدد تفاصيل التوازن في العلاقة بينهما السمة الأساسية لكل عصر. وقد يتأثر هذا التوازن بالاتجاهات العالمية التي تخلق السياق العام لخيارات الفاعلين وقراراتهم.

وفي الوقت الحالي، يتحول التوازن في العلاقة بين النظام والفوضى ناحية الأخير. ويرجع بعض أسباب هذا التحول إلى عوامل بنيوية، بينما تنتج أسباب أخرى عن الخيارات الخاطئة لللاعبين المهمين على الساحة الدولية.

وفي مقالته الذي جاءت تحت عنوان "كيف تتم الاستجابة لعالم فوضي؟ How to Respond to a Disordered World
" المنشورة بعدد شهري نوفمبر/ديسمبر  لدورية الشئون الخارجيةForeign Affairs، يرصد رئيس مجلس العلاقات الخارجية The Council on Foreign Relations، ريتشارد هاس، أبرز مصادر الفوضى والاضطراب التي تحدث لنظام ما بعد الحرب الباردة، وتحديات نظام ما بعد الحرب الباردة، وأسباب تصدُّع نظام ما بعد الحرب الباردة، ومقترحا لمواجهات هذا التصدع الذي ينتاب  النظام الدولي الذي كانت تهيمن عليه الولايات المتحدة.

مصادر الفوضى والاضطراب

يشير هاس في مقالته إلى أن أبرز مصادر الفوضى والاضطراب لنظام ما بعد الحرب الباردة تأتي من عدة مناطق، أولاها: منطقة الشرق الأوسط، التي من المُرجح أن تمتلئ بالدول الضعيفة غير القادرة على تأمين مساحات واسعة من أراضيها، فضلا عن تزايد نشاط الميليشيات والجماعات الإرهابية المسلحة داخل الإقليم، بالإضافة إلى تصاعد الحروب الأهلية والصراعات بين الدول وبعضها. كذلك، ستصبح الهُويات الطائفية أقوى من هُوية الدولة القومية ذاتها. ومع استمرار إمداد الفاعلين المحليين بالموارد الطبيعية، فإنهم سيستمرون في التدخل في الشئون الداخلية للدول المجاورة، كما أن الفواعل الخارجية ستظل غير قادرة وغير راغبة في تحقيق استقرار الإقليم.

ثانية تلك المناطق التي يراها هاس مهددا لاستقرار نظام ما بعد الحرب الباردة هي "الحدود الأوروبية"، والتي يتجدد عدم استقرارها في ظل الصعود الروسي تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين، مشيرا إلى أن روسيا، في عهده، قد تخلت عن رغبتها في الاندماج مع النظام الأوروبي والعالمي الحالي، واختارت بدلا من ذلك مستقبلا قائما على العلاقات الخاصة بينها وبين جيرانها وحلفائها الحاليين، والأزمة الأوكرانية الحالية هي أكبر دليل على مشروع استعادة روسيا، أو بالأحرى الاتحاد السوفيتي.

ثالث تلك التهديدات يكمن في آسيا، وعنها يقول هاس: ليست مشكلتها في عدم استقرارها الحالي، بل في الاحتمالات المتزايدة لعدم الاستقرار بها. فمعظم الدول هناك ليست دولا ضعيفة أو مفتتة، بل دول قوية، وتزداد قوة. فالعديد من الدول في آسيا لديها هُويات قوية، واقتصادات نشطة، وميزانيات عسكرية متصاعدة، كما أن لديها ذكريات تاريخية مريرة، ونزاعات حدودية عالقة، وكل هذا يزيد من احتمالية النزاعات المسلحة فيما بينها بما يهدد النظام الدولي ككل.
تحديات نظام ما بعد الحرب الباردة

يؤكد الكاتب أن بعض التحديات التي تواجه النظام عالمية، كالمظاهر الخطيرة للعولمة، والتي ساعدت على تدفق الإرهابيين والفيروسات بأنواعها عبر الحدود، في ظل وجود آليات مؤسسية محدودة لإدارتها، إذ أسهمت مثل تلك التدفقات في تعطيل إمكانات النظام وتقويضها. كما أن صعود الشعبوية، من وجهة نظر هاس، وسط حالة من الركود الاقنصادي، جعل من تطوير فكرة الحوكمة العالمية تحديًا أكبر.

كذلك، فإن المبادئ التي شكَّلت النظام الدولي هي الأخرى محل خلاف. فبرغم وجود إجماع مثلا على أن احتلال أراضي الغير بالقوة يُعد فعلا غير مقبول في العلاقات الدولية، كما حدث مع صدام حسين، حينما حاول الاستيلاء على الكويت عام 1990، وتمت إدانته من المجتمع الدولي، فإن هذا الإجماع لم يُدن روسيا على ضمها لشبه جزيرة القرم في الربيع الماضي، وهو ما يجعل مبادئ النظام "انتقائية" بما يهدد تماسكه.

ويشير هاس، برغم ذلك، إلى أنه لا تزال هناك قوى تعمل بشكل جيد داخل هذا النظام، فلم تكن هناك حرب بين الدول الكبرى على مدى العقود الماضية، ولا يبدو أن ثمة حربا تلوح في الأفق في المستقبل القريب. فالصين والولايات المتحدة تتعاونان في بعض القضايا الدولية، والتكامل بينهما حقيقي. وكذلك روسيا وغيرها من الدول الكبرى، فنجد في إقليم آسيا-المحيط الهادي نموًا مطردًا في اقتصادات دوله بما مثَّل حائط صدّ ضد أي نزاعات، فضلا عن أن الدبلوماسية أسهمت في حل المشكلات، وتقليل مخاطر المواجهة بين الدول.

ويضيف هاس أن الاقتصاد العالمي قد استقر بعد الأزمة المالية العالمية، ويشير في هذا السياق إلى أن قواعد جديدة تم وضعها لتقليل الأزمات المستقبلية. ويرى أن معدلات النمو الاقتصادي للولايات المتحدة وأوروبا لا تزال دون المعايير التاريخية، ولكن ما يدفع الولايات المتحدة وأروبا للخلف ليس فقط تبعات الأزمة، بقدر السياسات المختلفة التي قوَّضت نموها القوي.

يُضاف إلى ذلك أن دول أمريكا الشمالية ستصبح مرة أخرى محركًا للاقتصاد العالمي بسبب اقتصادها المستقر والمزدهر، ومواردها البشرية التي تصل إلى 470 مليون مواطن. كذلك دول أمريكا اللاتينية هي الأكثر استقرارا، ونموًا، وتصاعدا في الفترة المقبلة، وإفريقيا كذلك، والتي أصبحت العديد من دولها ترتكز، بشكل أساسي، على مبادئ الحوكمة، والأداء الاقتصادي المتميز.

ارتكزت بعض الاقترابات التقليدية في تفسير ذلك الأمر على فكرة "سقوط وصعود القوى"، أي التقدم الصيني مقابل التراجع الأمريكي، إلا أن هذا التفسير، طبقًا للكاتب، يبالغ في ضعف الولايات المتحدة، ويستخف بضعف الصين، إذ إن الأخيرة تعاني تحديات عدة ما بين نمو متباطئ، وفساد متزايد، ومعدلات شيخوخة كبيرة، ومشكلات مع الجيران، بينما الولايات المتحدة لا تعاني هذه الأمور، ولا توجد أية دولة أخرى، حتى الآن، قادرة على تحدى الولايات المتحدة.
ويقول هاس في مقالته: بالفعل تنحسر هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي، لكن لا يوجد من يخلفها حتى الآن، ومن المرجح أن يتحول النظام الدولي إلى نظام فوضوي يفسح المجال للعديد من مراكز القوى المستقلة، والتي لن تعطي اهتمامًا كبيرًا لمصالح الولايات المتحدة وتفضيلاتها، وهو ما سيخلق مشكلات جديدة، فضلا عن تعقيد المشكلات الحالية.

أسباب تصدُّع نظام ما بعد الحرب الباردة

يرجع هاس بعض أسباب تفكك نظام ما بعد الحرب الباردة إلى عوامل بنيوية، وأخرى اختيارية. ففي الشرق الأوسط، على سبيل المثال، تم تقويض النظام بسبب الحكومات الفاسدة غير الشرعية المستقرة في ذلك الإقليم، ونظم التعليم الفقيرة، والمشكلات المتعلقة بالدين، لكن ما زاد الطين بلة هو سلوك العامل الخارجي. فقرار الولايات المتحدة لعزل صدام حسين من العراق كان خاطئا، لأنه مكَّن الأغلبية الشيعية من حكم البلاد. فبدلا من موازنة الطموحات الإيرانية في العراق، أسهم القرار في خدمة تلك التطلعات.

كذلك، يرى هاس أن مطالبة الولايات المتحدة بإقصاء حسنى مبارك من الحكم كانت قرارا خطأ، لأن الأحداث اللاحقة أثبتت أن مصر لا تزال غير مستعدة للانتقال الديمقراطي، وهو الأمر الذي أثار تساؤلات داخل العواصم العربية الأخرى الواثقة في الالتزامات الأمريكية.  كما أسهم التدخل الأمريكي-الأوروبي في ليبيا في خلق "دولة فاشلة"، مُسيطر عليها من قِبَل الميليشيات المسلحة. وفي سوريا، عبَّرت الولايات المتحدة عن دعمها لإقصاء نظام بشار الأسد، إلا أنها بعد ذلك لم تقم بما يجب لتحقيق ذلك. وكذلك، وُجهت انتقادات لسياسة الولايات المتحدة في آسيا نتيجة لعدم قدرتها على تحقيق استقرار الأوضاع لحلفائها في الإقليم.

ويُرجع الكاتب تفكك نظام ما بعد الحرب الباردة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية، أولها: توزيع القوة في العالم بين العديد من الفواعل، ثانيها: تضاؤل احترام العالم للنموذج السياسي والاقتصادي الأمريكي، ثالثها وأخيرا: خيارات الولايات المتحدة الخاطئة، خصوصًا في الشرق الأوسط. ونتيجة لتلك الأسباب مجتمعة، يخلص هاس، برغم استمرارية قوة الولايات المتحدة، إلى أن نفوذها على مستوى العالم قد تضاءل.

ما العمل؟

يدعو هاس  الولايات المتحدة، لمواجهة الأزمات التي تعصف بنظام ما بعد الحرب الباردة التي كانت تسيطر عليه بمفردها، إلى أن تُضيِّق الفجوة بين طموحاتها وأفعالها في الشرق الأوسط، فليست كل الدول مؤهلة للديمقراطية، وقد تكون هناك العديد من العقبات التي تواجه التحول الديمقراطي في تلك الدول، وما يجب على الولايات المتحدة في هذا الصدد أن تفعله من أجل تعزيز النظام في تلك الدول هو تشكيل السياسات الخارجية لتلك الدول بدلا من انغماسها في التأثير فى سياساتها وقراراتها الداخلية. ومن ناحية أخرى، يمكنها، على سبيل المثال، دعم المجتمع المدني في هذه الدول، وكذلك دعم اللاجئين، والإسهام في محاربة الإرهاب، ونزع الأسلحة النووية.

وفي آسيا، فإن الأمر أكثر بساطة، فيجب على الولايات المتحدة أن تنفذ سياستها الحالية بدأب، بحيث تدفع الإدارة الأمريكية آسيا للدخول في مستوى أعلى من الدبلوماسية التفاوضية لتهدئة الإقليم من تلك النزاعات المختلفة بما يضمن استقرار النظام.

وبالنسبة للأزمة الروسية- الأوكرانية، فالمطلوب خليط من الجهود يدعم أوكرانيا اقتصاديا وعسكريا، ويقوي الناتو، ويعاقب روسيا. وفي الوقت ذاته، يُعرض على روسيا مخرج دبلوماسي من الأزمة يضمن عدم جعل أوكرانيا عضوا في "الناتو" في أي وقت، أو يضمن عدم دخولها في روابط خاصة وحصرية مع الاتحاد الأوروبي.

أما على المستوى العالمي، فيجب أن يظل هدف السياسة الأمريكية هو التكامل، ومحالة ضم آخرين للترتيبات المختلفة من أجل مواجهة التحديات العالمية كالتغير المناخي، والإرهاب، والتجارة، والصحة العامة، بما يضمن الحفاظ على مصالح الجميع، بما فيه الولايات المتحدة، ويضمن استقرار النظام.

طباعة

تعريف الكاتب