مقالات رأى

التدخل العسكري المصري في ليبيا

طباعة
صحوت صباح الاثنين 4 أغسطس الحالي لأقرأ في مانشيتات الصحف المصرية الصادرة في ذلك اليوم أن بياناً قد صدر عن السيد عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر الأسبق. ذكر البيان أن الوضع في ليبيا مصدر قلق كبير لمصر ودول الجوار والعالم العربي، وشدد على أن الطوائف والفصائل المتطرفة في ليبيا تهدد أمن مصر القومي بشكل مباشر، ودعا إلى بدء نقاش مصري واسع لتوعية الرأي العام بالمخاطر القائمة والحصول على التأييد اللازم في حالة اللجوء لاستخدام حق الدفاع عن النفس، وفي اليوم التالي ذكرت صحيفة «الشروق» المصرية نقلاً عما أسمته مصدراً رسمياً رفيعاً أن تصريحات موسى جاءت بالتنسيق مع رئاسة الجمهورية كرسالة ردع واضحة وهذا صحيح بالتأكيد لأن شخصاً بمكانة عمرو موسى لا يمكن أن يتكلم من رأسه في مثل هذا الموضوع. أصابتني هذه التصريحات بقلق واضح طالما أنها تلمح لتدخل عسكري مصري مباشر في ليبيا. صحيح أنها وصفت بأنها «رسالة ردع» والردع يحمل معنى التهديد وليس الاستخدام الفعلي للقوة، ولكن الردع قد يفشل وهنا يتعين اللجوء إلى هذا الاستخدام، وهو ما يمثل مسألة بالغة الحساسية والخطورة.
 
لكي نفهم هذه التصريحات لابد أن نضعها في سياق الظروف التي تحيط بالأمن الوطني المصري منذ ما يزيد على سنتين، ففي هذه المدة وحتى الآن تعرضت مصر لمخاطر غير مسبوقة على أمنها الوطني، وهي غير مسبوقة لأن مصدرها لأول مرة يأتي من الاتجاهات كافة، فحدودها مع غزة مصدر لتسلل الإرهابيين والأسلحة والذخائر، وكذلك حدودها مع ليبيا والسودان مع فروق في الدرجة بطبيعة الحال. وفي هذا السياق برزت الحدود مع ليبيا باعتبارها الأكثر خطراً لأنها تضمنت -بالإضافة إلى خروج الإرهابيين من مصر طلباً للنجاة ودخولهم إليها سعياً إلى التخريب، ناهيك عن تهريب الأسلحة والذخائر- أعمالاً ماسة بالسيادة المصرية كالهجوم على سفارة مصر في طرابلس وقنصليتها في بنغازي واختطاف دبلوماسيين، ناهيك عن استهداف المصريين العاملين في ليبيا إما بالقتل على أساس الهوية الدينية، أو الوطنية، أو بالاحتجاز المتكرر للشاحنات المصرية التي تعتبر الشريان الأساسي للعلاقات التجارية بين البلدين، وكذلك احتجاز سائقيها والمطالبة بثمن مادي أو سياسي مقابل الإفراج عنهم. وسبّب هذا كله استياء واسعاً في أوساط الرأي العام المصري وانتقادات لاذعة في بعض وسائل الإعلام المصرية لعجز الدولة عن حماية مواطنيها.
 
غير أن السؤال المهم يبقى: هل يبرر كل ما سبق تدخلاً عسكرياً مصرياً مباشراً في ليبيا؟ الإجابة بالتأكيد هي النفي، فماذا عساه أن يكون الهدف من هذا التدخل؟ هو بالضرورة حماية المصالح المصرية التي أُصيبت بضرر شديد على نحو ما سبقت الإشارة إليه، فكيف تتحقق هذه الحماية؟ هل يمكن أن يحدث ذلك بغزو ليبيا عسكرياً؟ بالتأكيد لا أيضاً لعدة اعتبارات أولها عدم ملاءمة التوقيت، فالقوات المسلحة المصرية مشتبكة الآن في معركة ضارية ضد الإرهاب في سيناء، وقد حققت في هذا الصدد إنجازات حقيقية ولافتة، ولكنها لم تجتث جذور الإرهاب تماماً حتى الآن. وهذا فضلاً عن دورها في حماية الحدود الجنوبية لمصر مع السودان من مخاطر شبيهة بمثيلتها على الحدود مع ليبيا ومشاركتها في مواجهة العمليات الإرهابية المتبقية على امتداد الساحة المصرية، وهي بالتأكيد ليست بحاجة الآن لفتح جبهة جديدة، وخاصة أن هذه الجبهة لن تتضمن مواجهة بين جيشين نظاميين وإنما ستُفضي إلى ما يعرف بحرب «غير متماثلة» بمعنى حرب بين جيش نظامي ومليشيات مسلحة. وفي هذا النوع من الحروب لا ينعكس الخلل في ميزان القوى الذي يكون عادة فادحاً لصالح الجيش النظامي على مجرى العمليات العسكرية لأن المليشيات تضرب وتهرب، فلا قواعد ثابتة لها ولا هي بالضرورة راغبة في اكتساب أراض واحتلالها على نحو دائم. ولذلك عادة ما تجد الجيوش النظامية نفسها في هذا النوع من الحروب في موقف مربك وقد يُهزم بعضها في المواجهة ليس بالضرورة بالمعنى التقليدي للخسارة العسكرية وإنما بمعنى العجز عن تحقيق الأهداف على رغم تكبد خسائر قد تكون فادحة أو على الأقل كاشفة هذا العجز. وسيكون التدخل العسكري المباشر في ليبيا فرصة ذهبية لكل من يخاصم مصر ونظام حكمها الحالي لكي يلقي بثقله في المواجهة لعل وعسى، وساعتها سيبدو العجز عن تحقيق الهدف مهيناً للنظام المصري.
هل تقف مصر إذن مكتوفة الأيدي إزاء هذه المخاطر الداهمة؟ بالطبع لا، فكيف تكون المواجهة؟ من الواضح أن الدبلوماسية لم تعد كافية، وأن رسائل الردع والاستخدام الفعلي للقوة باتت مطلوبة، فإذا كنا قد استبعدنا التدخل العسكري المباشر كيف يكون التصرف إذن؟ ربما تكون الدوائر المصرية الرسمية قد أيدت اللواء حفتر سراً لكن نجمه الآن يبدو آفلاً ومن المؤكد أن البداية في هذه الظروف يجب أن تتم مع الحكومة الليبية. صحيح أنها مهيضة الجناح لكن الاتفاق معها يوفر الشرعية لأي تحرك مصري داخل ليبيا، وقد يتضمن هذا الاتفاق على سبيل المثال إعطاء حرية حركة للقوات المصرية في شريط حدودي لوأد أي أعمال تنوي الإضرار بمصر وأمنها، وتوفير حماية عسكرية مصرية كافية لمقر السفارة المصرية في طرابلس والقنصلية في بنغازي وربما تمتد هذه الحماية إلى مقار المشروعات المصرية الكبرى في ليبيا، وقد يصل الأمر لحماية حقيقية لقوافل الشاحنات المصرية بين مصر وليبيا أو الاكتفاء بتسليم البضائع المصرية في المنطقة الحدودية التي سبقت الإشارة إلى إمكانية الاتفاق على أن يكون للقوات المصرية وجود فيها، وقد يتضمن الاتفاق أيضاً توجيه ضربات جوية محددة لمواقع الإرهاب وتأمين مطارات بعينها بحماية عسكرية كافية.
 
ومن ناحية ثانية يتعين على السياسة المصرية أن تحاول بلورة دور عربي فاعل إما من خلال الجامعة العربية، سواء على المستوى الوزاري أو مستوى القمة، فإذا لم يمكن ذلك يبقى مطروحاً أن يتفق عدد من الدول العربية صاحبة المصلحة الأكبر في القضاء على الإرهاب على إطار عربي وإن يكن جزئياً للمواجهة، ويمكن إشراك الأمم المتحدة والمنظمة الإسلامية كإطار إضافي للشرعية مع الحرص على أن يكون زمام المبادرة دبلوماسياً وعسكرياً في اليد العربية علماً بأن مصادر الحكومة الليبية صرحت بما يفيد عدم ممانعتها في هذه الأطر. وتحتاج هذه البدائل كافة إلى جهود مكثفة حتى يمكنها أن تنجح في مواجهة خطر الإرهاب المتفاقم في ليبيا بعيداً عن أي قرارات غير محسوبة تفضي إلى تدخل عسكري مباشر شامل من طرف واحد سيكون كارثياً بكل تأكيد.
 
---------------------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 12/8/2014.
طباعة

تعريف الكاتب

د. أحمد يوسف أحمد