من المجلة - ملف العدد

خطوات معكوسة‮:‬|السياسات الخارجية لدول الثورات والمستقبل الغامض

طباعة

كان السؤال الرئيسي أثناء التفكير في إعداد هذا الملف، هو‮: ‬هل تشكلت سياسات خارجية لدول الثورات تستحق تخصيص ملف يتناولها بالتحليل والدراسة؟،‮ ‬وكيف يمكن تناول سياسة خارجية لأنظمة لا تزال في مختبر التجربة، وتقف عند مفترق طرق، وفي مهب الريح، وفي عين العاصفة؟
لم نتمكن من تقديم إجابات علي هذا السؤال،‮ ‬فلم تتضح ملامح لسياسة خارجية جديدة في هذه الدول تشير إلى تخطيط نابع من رؤية وتوجهات منضبطة لمؤسسات صنع قرارها الخارجي‮. ‬مع ذلك،‮ ‬فقد انطلقنا في إعداد هذا الملف إحساسا بأن هناك لحظة جديرة بالبحث، وأنه حتى لو أن هناك‮ ‬غموضا يحيط بمستقبل هذه الأنظمة، فإن من المرجح أن يستمر مشهد القلق في سياسات دولها الخارجية لفترة‮.‬

إن بعض الخطوات التي أقدمت عليها هذه الأنظمة في السياسة الخارجية جاء كرد فعل معكوس علي سياسات الأنظمة السابقة التي أوصلت بلدانها إلى حالة اختناق في إدارة السياسة الخارجية،‮ ‬وأوقعتها في أزمات حادة مع الجوار، وبعضها عبر عن تصورات أولية لعالم السياسة،‮ ‬وانحيازات أيديولوجية لا تنسجم مع طبيعة صناعة القرار في الدول الحديثة، وبعضها اندفع بأفكار بسيطة وغير معقدة بشأن الرابطة الإسلامية،‮ ‬والتقارب الديني،‮ ‬من دون استيعاب لمعاني السيادة الوطنية،‮ ‬ومعني الدولة‮.‬

وعلي الرغم من أن الخطوات الجديدة في السياسة الخارجية لدول الثورات لم تأخذ شكل توجهات خارجية منتظمة، فقد اُتفق علي أهمية رصد هذه اللحظة التي يتفاعل معها جهاز الدبلوماسية والخارجية في دول الربيع مع العالم، بكل ما فيها من اضطراب وقلق، وربما تبسيط وارتباك مخل،‮ ‬وأحيانا فوضي‮. ‬من هنا،‮ ‬كانت الرغبة في تناول أوضاع جهاز الدبلوماسية وصنع السياسة الخارجية في هذه الدول، ورصد كيفية تعامل الموروث والعتيق مع الوافد الجديد،‮ ‬أشخاصا وأيديولوجيات‮.‬

كان القلق من دراسة السياسة الخارجية لدول الثورات منطلقا من أن هذه الدول شهدت،‮ ‬خلال السنتين الماضيتين،‮ ‬أزمات داخلية خطيرة، جعلت الحديث عن سياستها الخارجية مسألة أقرب إلى الترف العلمي‮. ‬فإذا كانت المقولة الراسخة هي أن السياسة الخارجية امتداد للسياسة الداخلية، فمن الطبيعي أن أغلب دول الثورات لم تكن لها إمكانية لأن تمارس سياسة خارجية،‮ ‬في ظل الكم الهائل من المشكلات الداخلية‮.‬

والأقرب أن هذه الدول تفاعلت مع العالم الخارجي،‮ ‬وفق رد الفعل،‮ ‬ووفق أهداف قصيرة الأمد، تنضوي في إطار التجريب والاختبار‮.‬ وأحيانا،‮ ‬سعت إلى استثارة ووخز الدوائر التقليدية لبلدانها، التي استقبلتها وتعاملت معها ببعض الفتور‮. ‬صحيح أن أغلب دول الثورات اتخذ خطوات مهمة للانعتاق من الرؤي والارتباطات التقليدية في السياسات الخارجية لدولها، لكن في الأغلب فقد جري ذلك دون تحليل للمكاسب والخسائر المحتملة، أو تقدير دقيق للعراقيل والعقبات‮. ‬ومن ثم،‮ ‬اتسمت تحركاتها بالانتقائية والعشوائية‮.‬ وإلى حد كبير،‮ ‬افتقدت الفاعلية‮.‬

وأكد كُتاب هذا الملف أن السياسات الخارجية لدول الثورات هي في مرحلة من القلق، وأن الوضع الداخلي المضطرب لم يسمح بتشكيل سياسة خارجية مكتملة، خاصة أن الوافدين الجدد ليس لديهم الخبرة الكافية،‮ ‬فهم في الأغلب ليسوا وافدين من دولاب وماكينة الدولة وجهازها المختص، ولم يسبق للعديد منهم أن تعامل مع تقاليد الدبلوماسية والبروتوكول، وأن أغلبهم ربما لا يكترث باللوائح الرسمية، فوقعوا في كثير من الأخطاء مع مؤسسات رصدت عليهم حركاتهم وسكناتهم، واستغربت سلوكياتهم العفوية‮. ‬وكان بعض مفاهيمهم عن العلاقات الدولية والسياسة الخارجية لا‮ ‬يمت إلى تقاليد المؤسسات بصلة، وإنما هو إلى فكر الجماعة أقرب، بكل ما يعنيه فكر الجماعة‮ ‬Groupthink‮ ‬من ملامح، ولم يكن كل ذلك مؤشرا علي انسجام،‮ ‬وتوافق،‮ ‬أو تناغم مستقبلي ممكن‮. ‬وزاد الأمر حين ثارت التكهنات بأن صنع القرار ليس خاضعا حتى للوافدين الجدد في هذه المؤسسات‮ (‬الرئاسة،‮ ‬أو الأجهزة المعاونة الجديدة‮)‬، وإنما يفد إليهم من مكان آخر مقطوع الصلة بالتقاليد المؤسسية‮.‬

كان ذلك واضحا بشكل رئيسي في مسألتين أساسيتين، ثار بشأنهما جدل واسع في مصر، وهما الموقف المصري إزاء مشروع سد النهضة الإثيوبي،‮ ‬والموقف من سوريا‮. ‬ففي الموقفين،‮ ‬كانت الصورة الرسمية، وكأن مصر مقبلة علي حروب وكوارث مع خطب دينية رنانة، وهو أمر أعطي انطباعا وكأن أجهزة الأمن القومي،‮ ‬المتعلمة والمختصة والحديثة،‮ ‬لم يعد لها دور، وهو ما دفع الأستاذ محمد حسنين هيكل إلى الإشارة إلى أن هذا الموقف أشعره وكأن مصر في القرن الثامن عشر‮.‬

وكان ملمح وزير الخارجية المصري في زيارته مختلفا ومعبرا عن الدولة المصرية،‮ ‬المتزنة والراسخة،‮ ‬أكثر من ملمح الدولة المذعورة والمرتبكة التي صورتها المؤتمرات الشعبية‮. ‬بالتأكيد،‮ ‬لن تحل زيارة الوزير إلى إثيوبيا قضية السد،‮ ‬لكنها علي الأقل أعادت مصر إلى قضبان الدبلوماسية المنضبط والاحترافي‮. ‬وقد أكد وزير الخارجية،‮ ‬في‮ ‬27‮ ‬يونيو،‮ ‬التوافق علي حل الأزمة السورية بالطرق السلمية،‮ ‬وهذا أيضا لن يحل مشكلة سوريا، لكنه يعيد مصر إلى دبلوماسية الدولة المنضبطة‮.‬

في هذا الملف محاولة لاستكشاف ملامح دبلوماسيات وسياسات خارجية عملت علي التوجه في مسارات جديدة،‮ ‬في ظل أنفاق ودهاليز التغيير في العالم العربي، لنري حجم الثوابت والمتغيرات‮.‬

قدم الدكتور مصطفي علوي إطلالة عامة علي الإشكاليات الخاصة بمعضلات بناء سياسة خارجية جديدة لدول الربيع العربي،‮ ‬فتناول تأثير أوضاع عدم الاستقرار في البيئة الداخلية، وإشكاليات العلاقة بين مؤسسات صنع السياسة الخارجية بعد الثورات، والتحديات التي واجهت أدوار كل من المؤسسات العسكرية، وأجهزة الاستخبارات والأمن القومي‮.‬ وأشار إلى فرص جديدة لدول الربيع العربي في تنويع تحالفاتها الدولية،‮ ‬مع قرب نهاية القطبية الأحادية بعودة روسيا،‮ ‬وبروز الصين،‮ ‬ودول البريكس‮.‬

وسلط د‮. ‬أحمد تهامي الضوء علي تأثير أهم عامل جديد في عالم السياسة في دول الثورات، وهو الأيديولوجيا الإسلامية، ورصد مقدار الاتساق والتنافر بين هذه الأيديولوجيا والأجهزة الدبلوماسية الاحترافية‮. ‬ودرس حجم انعكاسات التوجهات القيمية والفكرية الإسلامية علي السياسة الخارجية لهذه الدول، ومدي الاستمرارية والتغيير في السياسات التقليدية، بفعل تأثير هذا العامل‮.‬

أما السفير محمد أنيس سالم، فقد خصص ورقته لدراسة تحديات صنع سياسة خارجية مصرية جديدة بعد ثورة‮ ‬25‮ ‬يناير‮. ‬وتناول الإشكاليات الرئيسية التي تعيق عملية إعادة صياغة هذه السياسة، وناقش‮ ‬غياب الهيكلية في السياسة المصرية، وأكد أن السياسة الخارجية في عهد الرئيس مرسي اتسمت ببعض الحركية،‮ ‬ولكن من دون فاعلية، داعيا إلى ضرورة ربط إعادة صياغة سياسة مصر الخارجية بعملية الديمقراطي‮.‬

ورصد السفير عبدالسلام بوعائشة التجاذبات الحادة في السياسة الخارجية التونسية، وصراعات الأجهزة والمؤسسات والأفكار الجديدة،‮ ‬في ظل الحكومات التونسية المتعددة بعد الثورة‮.‬ وأشار إلى الصراعات في مراكز صنع القرار والجهاز الدبلوماسي للدولة،‮ ‬نتيجة الاختراقات التي بدأت تمارسها دبلوماسية أخري‮ ‬غير رسمية، بدأت تفتح ما سماه بـ‮ "‬نوافذ خاصة‮" ‬و"بوابات جانبية‮" ‬في جدار السياسة الخارجية التونسية‮.‬

وتناول د‮. ‬خالد حنفي علي الحالة الانتقالية في السياسة الخارجية الليبية، مركزا علي تحركات ليبيا في الدوائر‮: ‬العربية،‮ ‬والإفريقية،‮ ‬والأوروبية‮. ‬وتوقع أن تبقي ليبيا بعد الثورة علي التحالفات تجاه الجوار العربي،‮ ‬وإن كان بمستوى منخفض، وأن تشهد علاقتها مع إفريقيا حالة من ترشيد الاهتمام،‮ ‬مع الحفاظ علي المصالح المستقرة لها في القارة‮. ‬ويري أن الدائرة المتوسطية هي من الدوائر المرشحة لتكون الأكثر اهتماما في السياسة الخارجية الليبية‮.‬

ويرصد د‮. ‬عبدالسلام محمد تحرك الدبلوماسية اليمنية للبحث عن منافذ جديدة للقوة، مشيرا إلى ضرورة إنهاء اليمن الخلافات مع دول مجلس التعاون الخليجي،‮ ‬والتعامل وفق منهج الندية وليس التبعية‮.‬ وأكد أهمية اتجاه الدبلوماسية اليمنية للاهتمام بإطلالتها علي البحر الأحمر،‮ ‬وبحر العرب،‮ ‬والمحيط الهندي، وتوطيد علاقتها بدول القرن الإفريقي،‮ ‬والسودان،‮ ‬ومصر، واستغلال النفوذ العائلي والتجاري والتاريخي مع دول القرن الإفريقي،‮ ‬خاصة إثيوبيا،‮ ‬لإيجاد شراكة اقتصادية وأمنية كبيرة‮.‬

أما الأستاذ عبدالوهاب بدرخان، فقد ركز علي السياسة الخارجية السورية في تعاملها مع الثورة والأزمة الداخلية، فتناول محورية‮ "‬المؤامرة‮" ‬في فكر النظام السوري، وموقف النظام من جهود الوساطات من قبل تركيا وروسيا، ومبادرة الوساطة العربية، ومهمة كوفي أنان‮.‬ وناقش كيف تمكن النظام السوري من تسليط الضوء علي ما سماه بـ‮ "‬الإرهاب‮"‬،‮ ‬واستشراء ظاهرة‮ "‬الجهاديين‮" ‬في مواجهة استحقاق‮ "‬التنحي‮" ‬قبالة الرئيس بشار‮.‬

وبالرغم من أن البحرين ليست من دول الربيع العربي، فقد كان تناولها محل إغراء،‮ ‬بالنظر إلى كونها دولة شهدت أحداثا مماثلة لدول الثورات،‮ ‬وتمكنت من العودة للحالة الطبيعية‮.‬ وكان السؤال‮: ‬كيف تمكنت هذه المملكة الصغيرة من العودة إلى هذه الحالة بسرعة؟، وكيف حركت سياستها الخارجية إقليميا ودوليا؟‮.‬

في هذا السياق، تناول د‮. ‬أشرف كشك تأثير الأحداث السياسية في عام‮ ‬2011‮ ‬في السياسة الخارجية لمملكة البحرين، وعرض لآليات السلطات في التعامل مع الأزمة السياسية،‮ ‬متناولا الآليات الأمنية، والاقتصادية، والسياسية‮. ‬وعلي الصعيد الخارجي،‮ ‬تناول التوجهات الجديدة التي تبنتها البحرين مثل تأييد فكرة الاتحاد مع دول مجلس التعاون، والتعامل مع التهديدات الإيرانية، وتعزيز الخيارات الدفاعية مع كل من بريطانيا،‮ ‬وفرنسا،‮ ‬وحلف الناتو، وتناول ما سماه بالاتجاه شرقا في سياسة البحرين الخارجية،‮ ‬وهو ما وضح مع الهند‮.‬

وبشكل عام، يقدم الملف تحليلا للسياسات الخارجية لدول الربيع في مرحلة التحول، وهي لحظة كان من المهم تناولها في وقتها، لأنها لو مرت دون رصد،‮ ‬فإنه قد لا يجري فهم طبيعة التحولات،‮ ‬والضغوط،‮ ‬وآليات صنع ورسم التوجهات، والحسابات في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ المنطقة،‮ ‬وتشكيل توجهاتها الخارجية‮.‬

طباعة

تعريف الكاتب

د. معتز سلامة

د. معتز سلامة

رئيس وحدة دراسات الخليج بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية