كيف يفكر العالم

استراتيجية روسيا الإمبريالية في البحر الأسود..القوة البحرية والسعى إلى الهيمنة الإقليمية

طباعة

إن عدوان روسيا على أوكرانيا وجيرانها الآخرين يحول البحر الأسود إلى حدود استراتيجية لأوراسيا. فقد عطّلت روسيا تدفقات الطاقة والغذاء وغيرها من السلع، وتسببت فى نزوح ملايين المهاجرين، وزادت من انعدام الأمن ليس فقط فى أوكرانيا، بل فى جميع أنحاء منطقة البحر الأسود. وتشكّل هذه الجهود جزءا من استراتيجية أوسع وأطول المدى. فروسيا لا تسعى فقط إلى الهيمنة على أوكرانيا فحسب، بل تريد إخضاع كل دولة من الدول الخمس الأخرى المطلة على البحر الأسود -بالإضافة إلى مولدوفا، التى تحد رومانيا وأوكرانيا وتتدفق مياهها إلى البحر- لمصالحها، حتى تتمكن من ممارسة حق النقض (الفيتو) على القرارات التى تتخذها هذه الدول. كما تطمح موسكو إلى استخدام البحر الأسود كمنصة لبسط نفوذها وقوتها عبر أنحاء الشرق الأوسط، والبحر المتوسط، ​​والقوقاز.يعدّ سعى روسيا لتصبح القوة المهيمنة فى البحر الأسود عنصرا أساسيا فى استراتيجيتها لإعادة تأكيد وجودها كقوة عظمى. يعتقد الكرملين أن الفشل فى ترسيخ وجود قوى فى المنطقة سيعرّض روسيا للتغلغل الغربى، ويقلّل من قدرتها على التأثير فى المناطق المجاورة، ويعطّل صادرات السلع الأساسية الحيوية للاقتصاد الروسى. تشكّل تركيا  العقبة الأكبر أمام الأهداف الروسية فى المنطقة، لأنها الدولة الوحيدة على البحر الأسود التى لم تهيمن عليها روسيا تاريخيا، فضلا عن كونها  عضوا فى حلف الناتو. حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، احتفظ الكرملين بأدوات نفوذ كبيرة على منطقة البحر الأسود التابعة للإمبراطورية السوفيتية السابقة فى بلغاريا، وجورجيا، ومولدوفا، ورومانيا، وأوكرانيا.

فى العقود الأخيرة سعت روسيا إلى زيادة تبعية هذه الدول لموسكو من خلال مزيج من الإقناع والإكراه. ويعد تعزيز الوجود الروسى فى البحر الأسود أيضا جوهر خطة الرئيس فلاديمير بوتين التى استمرت لعقود لإحياء القوة البحرية للبلاد. وقد أعطى الأولوية لتحديث أسطول البحر الأسود، الذى أثبتت تدخلاته أهميتها فى دعم الأسطول الروسى فى البحر الأبيض المتوسط ​​وتدخله فى سوريا عام ٢٠١٥. تجاهل بوتين الحدود المعترف بها دوليا ليستولى على مساحة شاسعة من ساحل البحر الأسود، بما فى ذلك إقليم أبخازيا التابع لجورجيا عام 2008، ومنطقة القرم الأوكرانية عام 2014، والجزء الأوكرانى من ساحل بحر آزوف عام 2022. ورغم أن أوكرانيا منعت روسيا من الاستيلاء على كامل ساحلها على البحر الأسود، إلا أن موسكو نشرت ألغاما بحرية، وحاصرت وقصفت الموانئ الأوكرانية لقطع وصولها البحرى وتقليل وجود القوات البحرية الأخرى.بينما ركز العالم على معركة روسيا من أجل أوكرانيا، غالبا ما سعت موسكو إلى تحقيق هذه الأهداف بعيدا عن الأنظار - إطالة أمد الحرب، والالتفاف على العقوبات، وتعطيل الأسواق، وتعزيز نفوذها فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ينبغى على القادة الرئيسيين الآخرين العمل مع دول البحر الأسود لبناء منطقة أكثر مرونة فى مواجهة الضغوط الروسية. ومن المرجح أن يؤدى عدم القيام بذلك إلى إطالة أمد الحرب، وتمكين روسيا من ارتكاب المزيد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتفاقم تدفقات اللاجئين، وإثارة الاضطرابات فى أسواق الطاقة والسلع العالمية. من المرجح أن تمتدّ المخاوف الأمنية الإقليمية بدورها إلى القوقاز، والشرق الأوسط، والبحر الأبيض المتوسط.

البجعة السوداء:

لقرون شكّل البحر الأسود ملتقى حيويا لحركة الناس والسلع. لطالما اعتقدت روسيا أن السيطرة على البحر ضرورية لأمنها: ففى عام ١٧٨٣، ضمّت الإمبراطورة كاترين الثانية شبه جزيرة القرم من الإمبراطورية العثمانية لتعزيز سيطرة الإمبراطورية الروسية على البحر الأسود. وطوال معظم القرن التاسع عشر، تنافست روسيا مع الإمبراطورية العثمانية والقوى الأوروبية الكبرى على النفوذ فى البحر وما حوله. وخلال الحرب الباردة أصبح الاتحاد السوفيتى القوة الرائدة فى المنطقة. كانت تركيا منافسه الرئيسى، لكن موسكو هيمنت على جميع الدول الساحلية الأخرى المطلة على البحر الأسود, .بعد انهيار الاتحاد السوفيتى عام ١٩٩١، تغير دور روسيا الإقليمى بشكل كبير. وأصبحت جورجيا، ومولدوفا، وأوكرانيا دولا مستقلة وسعت إلى توثيق علاقاتها مع الغرب. وانضمت بلغاريا ورومانيا إلى حلف شمال الأطلسى (الناتو) عام ٢٠٠٤، وإلى الاتحاد الأوروبى عام ٢٠٠٧. ونتيجة لذلك فقدت روسيا وصولها إلى أجزاء من ساحل البحر الأسود. فى مارس ٢٠١٤، برر بوتين ضم شبه جزيرة القرم محذرا من أنه لولا ذلك لكانت سفن الناتو قد وصلت إلى سيفاستوبول، مدينة المجد البحرى الروسى. بين عامى ٢٠١٤ و٢٠٢٢، ضاعف الكرملين مساحة ساحل البحر الأسود الخاضع لسيطرته الفعلية ثلاث مرات، وعزز نفوذه من خلال استخدام مزيج من الأساليب العسكرية، والدبلوماسية، والاقتصادية، والطاقة، والتضليل الإعلامى. يعد البحر الأسود اليوم مركزا رئيسيا لتجارة الطاقة الروسية: إذ يمثل النفط والمنتجات النفطية الروسية معظم البضائع المتدفقة من نوفوروسيسك، أكبر ميناء فى روسيا وحوض البحر الأسود وخامس أكبر ميناء فى أوروبا. تمتد خطوط أنابيب الغاز الغربية المتبقية فى البلاد تحت البحر الأسود إلى تركيا ثم إلى جنوب شرق أوروبا. كما أن البحر حيوى للزراعة الروسية: حيث تمر جميع صادرات روسيا من الحبوب تقريبا ونسبة كبيرة من الأسمدة والسلع الزراعية الأخرى عبر موانئها هناك. تمكن هذه التدفقات موسكو من زيادة الإيرادات، وإنشاء أسواق جديدة، وإنشاء أنظمة تجارية أقل اعتمادا على الدولار الأمريكى، واكتساب نفوذ فى الدول المتلقية. تستخدم روسيا الآن مجموعة متنوعة من أساليب التدخل لجذب دول البحر الأسود نحو موسكو. وبطبيعة الحال لا تزال القوة الصلبة عنصرا حاسما فى استراتيجيتها، وليس فقط فى أوكرانيا. لقد زعزعت الحرب الأهلية فى جورجيا (1991-1993) الحياة السياسية فى ذلك البلد ومنحت موسكو فرصا للنفوذ، فى عام 2008، غزت روسيا جورجيا وهزمتها فى حرب قصيرة واعترفت بالجيبين الانفصاليين فى أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا كدولتين مستقلتين. هجّر نحو 8% من الجورجيين داخليا بسبب ذلك الغزو وجهود روسية أخرى لاستغلال الصراعات العرقية فى البلاد. لكن الحملات العسكرية ليست الوسيلة الوحيدة التى سعت روسيا من خلالها إلى إخضاع منطقة البحر الأسود. فقد استخدم الكرملين التضليل الإعلامى بشكل متكرر لإقناع شعوب دول ما بعد الشيوعية بالتحالف مع روسيا ضد ما يسميه الكرملين النخب الموالية للغرب، مستغلا شعوبا خاب أملها من إخفاقات حكوماتها. كما دعمت موسكو الأحزاب السياسية الموالية لروسيا، وتدخلت فى الانتخابات، وسعت إلى تنفيذ انقلابات ضد الحكام الحاليين. وتاريخيا، استغلت روسيا اعتماد بلغاريا، ومولدوفا، وأوكرانيا على الطاقة الروسية للتأثير على نخب كل دولة. أوقفت موسكو جميع عمليات نقل الغاز عبر أوكرانيا إلى أوروبا عدة مرات قبل توغلها الأول عام ٢٠١٤، وأوقفت إمدادات الغاز عن بلغاريا عام ٢٠٢٢، ومولدوفا أوائل عام ٢٠٢٥. كما قيدت تدفقات الغذاء، فحظرت صادرات القمح إلى جورجيا، أو حدّت من صادرات النبيذ المولدوفى إلى روسيا، على سبيل المثال، لتأديب جورجيا ومولدوفا عندما ترى أن أيا منهما يحيد عن أولويات موسكو. ويمتد التدخل الروسى إلى المجال الثقافى: فالكنيسة الأرثوذكسية الروسية تناشد نظرائها فى الخارج محاربة الثقافة الغربية "الشيطانية" أو "الواعية". كما يلجأ الكرملين إلى التجسس والتخريب لزعزعة استقرار هذه المجتمعات.

سجل متباين:

سرّع هجوم موسكو على أوكرانيا عام ٢٠٢٢ من جهودها للسيطرة على البحر الأسود، وكشف عن فوائد العمل التمهيدى الذى أرسته سابقا لترسيخ سيطرتها. لقد أدت قدرتها على تعطيل حركة المرور البحرى إلى اضطراب تدفقات الطاقة الإقليمية: فرغم انخفاض صادرات روسيا من الغاز إلى بلغاريا، ورومانيا، وأوكرانيا بشكل ملحوظ منذ فبراير 2022، إلا أن صادراتها إلى جورجيا وتركيا زادت بشكل ملحوظ مع رفض كل من هاتين الدولتين الانضمام إلى العقوبات المفروضة على روسيا. وأصبحت تركيا أكبر مشتر عالميا لمنتجات النفط المكررة الروسية. ويعاد وضع علامات على العديد من هذه الواردات فى جورجيا وتركيا، ثم يعاد تصديرها للالتفاف على حظر الاستيراد الذى فرضه الاتحاد الأوروبى.

أصبح البحر أيضا منطقة انطلاق رئيسية لـ "أسطول الظل" الروسى من السفن غير المسجلة، والذى تستخدمه روسيا للالتفاف على العقوبات الغربية. واستغلت روسيا وصولها إلى البحر الأسود لتعطيل منافسيها الزراعيين. يصف الرئيس الروسى السابق ديمترى ميدفيديف الغذاء بأنه "سلاح روسيا الصامت". وسرق الكرملين المنتجات الزراعية الأوكرانية وقصف الأراضى الزراعية والبنية التحتية الزراعية والموانئ الأوكرانية لتقويض مصدر رئيسى لإيرادات كييف وكسب أسواق جديدة لموسكو.

تمثل جهود روسيا لزعزعة استقرار دول البحر الأسود الأخرى قصة نجاحات وانتكاسات متفاوتة. تعتبر جورجيا ومولدوفا أضعف حلقات المنطقة. وتتمركز القوات الروسية فى المناطق المنفصلة فى كل دولة، ويوفر السخط المحلى الأوسع أرضا خصبة للتكتيكات الروسية التخريبية. اتجه الحزب الحاكم فى جورجيا، "الحلم الجورجي"، نحو روسيا، حيث علّق مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى فى نوفمبر 2024، ثم سنّ لاحقا تشريعات تقمع حرية التعبير والتجمع. على الرغم من معارضة شريحة كبيرة من المجتمع الجورجى لهذه التحركات، إلا أن الحزب نجح فى الفوز فى انتخابات متتالية، ويخشى كثير من الجورجيين من أن تواصل البلاد نهجها المؤيد للاتحاد الأوروبى، أن تغزوها روسيا مجددا. ويبدو أن الترهيب يجدى نفعا. ويظهر فوز المرشحين المؤيدين للغرب فى الانتخابات المولدوفية والرومانية الأخيرة حدود التدخل الروسى، لكن الكرملين يسعى جاهدا للتلاعب بالانتخابات البرلمانية المولدوفية المقررة خريف عام ٢٠٢٥ لتعزيز نفوذ الأحزاب الموالية لروسيا.

الصراع على أوكرانيا هو صراع أيضا من أجل مستقبل البحر الأسود:

لقد ضمنت موسكو الوصول إلى أسواق الحبوب الرئيسية على حساب أوكرانيا، لكن استعراض قوتها الزراعية فاقم التوترات مع الدول المتلقية. وقد أبلغ القادة الأفارقة بوتين أن الحرب خلقت انعداما فى الأمن الغذائى: ففى يوليو 2023، على سبيل المثال، وصف الدبلوماسى الكينى كورير سينغوى انسحاب روسيا من اتفاقية سمحت لأوكرانيا بتصدير الحبوب عبر البحر الأسود بأنه "طعنة فى الظهر". ورغم أن موسكو نجحت فى استغلال البحر للتهرب من العقوبات، وتوليد الإيرادات، والحصول على تقنيات حيوية، إلا أن هذا الجهد تطلب تطوير أنظمة تجارة وشحن معقدة وغير فعالة، كما سعت بعض دول البحر الأسود إلى مصادر طاقة بديلة. كما أجبرت الحرب فى أوكرانيا موسكو على التعامل مع أكبر تدفق لسكانها منذ الثورة البلشفية عام 1917. وقد أدى نجاح أوكرانيا فى حرمان روسيا من السيطرة البحرية وإلحاق أضرار جسيمة بأسطولها فى البحر الأسود إلى تقليص نفوذ موسكو فى المناطق المجاورة. وكذلك فعل قرار تركيا بإغلاق المضائق التركية أمام السفن العسكرية الروسية بعد أيام من غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022.

 تربط أنقرة علاقات معقدة مع موسكو: فتركيا شريك تجارى مهم ومشترى للنفط الروسى، فضلا عن كونها طريق عبور رئيسيا للغاز الروسى. ومع ذلك فإن اختيار أنقرة لإغلاق المضائق التركية لم يحد من قدرة موسكو على شن حرب بحرية ضد أوكرانيا فحسب، بل منع روسيا أيضا من استخدام البحر لإبراز قوتها البحرية فى البحر الأبيض المتوسط ​​والشرق الأوسط. ولا تزال موسكو لاعبا مهما فى جنوب القوقاز، لكنها فقدت دورها كقوة مهيمنة إقليمية، وتلعب تركيا الآن دورا إقليميا أكثر أهمية بكثير مما كانت عليه قبل عام 2022. فحتى عام 2023، عملت روسيا كحامية لأرمينيا فى صراعها مع أذربيجان على جيب ناجورنو كاراباخ، ولكن عندما هاجمت أذربيجان أرمينيا فى عام 2023، لم تأت روسيا، التى تجاوزت قدرتها العسكرية، لمساعدة أرمينيا. بعد عقود من القتال، وقّعت أرمينيا وأذربيجان فى أغسطس 2025 اتفاقية سلام لإنهاء الصراع، لكنهما وقّعتاها فى البيت الأبيض، وليس فى الكرملين، مما سلّط الضوء على حدود النفوذ الروسى فى المنطقة. كما أجبرت الضغوط على قدراتها العسكرية موسكو على إعطاء الأولوية لحربها فى أوكرانيا على دعمها للديكتاتور السورى بشار الأسد. بعد الإطاحة بنظام الأسد فى ديسمبر الماضى، يسعى الكرملين جاهدا لاستعادة نفوذه لدى القيادة الجديدة فى دمشق. وهو بحاجة إلى هذا النفوذ: فخسارة قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية الروسيتين فى سوريا ستعقّد جهود موسكو لتوسيع عملياتها فى البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا. وتواجه روسيا الآن منافسة متزايدة فى البحر الأسود وآسيا الوسطى من الصين والاتحاد الأوروبى، حيث يبنى كل منهما وجوده الاقتصادى والسياسى.

تغيير جذرى:

يتعين على صانعى السياسات الساعين إلى استغلال سجل موسكو المتباين فى البحر الأسود التغلب على تحديات عديدة. لا تزال دول المنطقة، التى كانت فى فترة ما بعد الشيوعية، تعانى، مما يجعلها عرضة للنفوذ الروسى. وقد أدى توقف برامج المساعدات الخارجية الأمريكية فى أوكرانيا ودول أخرى فى المنطقة، والتى كانت تهدف إلى مكافحة الفساد، ودعم استقلالية وسائل الإعلام، وتعزيز التنمية الاقتصادية، والصحة، والحوكمة الرشيدة، إلى ترك فجوة لا يمكن سدّها إلا من قبل حلفاء الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو. وتسير مفاوضات انضمام الاتحاد الأوروبى مع مولدوفا وأوكرانيا ببطء، وتواجه معارضة من بعض الدول الأعضاء.وقد طرح كل من الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو استراتيجيات جديدة للمنطقة، لكنهما يواجهان عقبات فى التنفيذ. فخطة بروكسل مليئة بالنوايا الحسنة، لكنها تفتقر إلى التزامات ملموسة، ولا تتضمن ميزانية. وقد ركز حلف الناتو على الدفاع عن حدوده الشمالية-الشرقية، على الرغم من أن آخر ثلاث غزوات روسية وقعت فى البحر الأسود، وليس فى بحر البلطيق. وفى السنوات الثلاث الماضية، أعطت دول الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو الأولوية لاستراتيجياتها الخاصة بالصمود، والآن يتعين عليهما وضع خطط لتحقيق الاستقرار فى شركائهما المعرضين للخطر فى البحر الأسود. يجب على بروكسل حشد التمويل اللازم لمواكبة الخطاب الطموح الذى طرحته فى مايو 2025 حول ما يسمى بأجندة الربط مع دول البحر الأسود، والقوقاز، وأوراسيا، والشرق الأوسط. ينبغى على الاتحاد الأوروبى إنشاء ممرات غربية-شرقية تربط البحر الأبيض المتوسط، ​​والبحر الأسود، وبحر قزوين، متجاوزة روسيا ومتضمنة تركيا، وهو ما تجنبته خطط الاتحاد الأوروبى حتى الآن. إضافة إلى ذلك ينبغى على أعضاء مبادرة البحار الثلاثة، التى تسعى إلى بناء روابط رقمية، وطاقية، ونقلية بين البحر الأدرياتيكى، والبحر الأسود، وبحر البلطيق، دعوة أوكرانيا ومولدوفا للانضمام إليها كأعضاء كاملين.

وينبغى على دول البحر الأسود مواصلة تطوير مواردها الهائلة من الطاقة. وتعمل بلغاريا وجورجيا، ورومانيا بالفعل على بناء كابل طاقة تحت الماء فى البحر الأسود، يتجاوز روسيا ويربط موارد الطاقة المتجددة فى أذربيجان مباشرة بشبكة الطاقة الأوروبية. يمكن أن تؤدى اكتشافات الغاز البحرية الأخيرة فى رومانيا، بمجرد استغلالها بالكامل، إلى أن تصبح بوخارست أكبر منتج للغاز فى الاتحاد الأوروبى. ويحمل حقل غاز ساكاريا التركى بوادر خير مماثلة. حدّت الحرب من قدرة أوكرانيا على استغلال مواردها من الغاز، ولكن فى زمن السلم يمكن لشركات الطاقة التابعة للاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، بالإضافة إلى المساعدات المالية الدولية، أن تساعد البلاد على أن تصبح منتجا رئيسيا للغاز.

ستكون تركيا محورية فى أى استراتيجية لمنع روسيا من السيطرة على البحر الأسود. غالبا ما تختلف أنقرة عن حلفائها فى الناتو بشأن طبيعة التحديات الإقليمية: فقد سلّحت أوكرانيا ورفضت الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، على سبيل المثال، لكنها تحافظ على علاقات تجارية مربحة مع موسكو. وينبغى على صانعى السياسات الأوروبيين والأمريكيين إدراك هذا التعقيد والبناء على المصالح المشتركة، مثل تعزيز سلاسل التوريد الإقليمية وروابط البنية التحتية، بالإضافة إلى الحفاظ على حرية الملاحة، وكبح التوسع الروسى فى البحر الأسود.

تعارض تركيا وجودا بحريا رسميا لحلف الناتو فى البحر يشمل دولا خارج منطقتها الساحلية المباشرة. لكن أنقرة تقدم دعما ماديا ملموسا لجهود تحديث الدفاع فى بلغاريا ورومانيا. وبحلول عام 2030، يخطط الناتو لجعل منشأته بالقرب من كونستانزا، رومانيا، موقعه الرئيسى على البحر الأسود وأكبر قاعدة له فى أوروبا. ويمكن للحلف تعزيز حضوره المتقدم من خلال تحسين قدرات الدفاع الجوى ونشر قوات إضافية فى مجموعاته القتالية متعددة الجنسيات فى بلغاريا ورومانيا. ويمكن لحلف الناتو تدوير السفن والمجموعات البحرية المتحالفة فى البحر الأسود، مع استكمالها بدوريات جوية ومناورات منتظمة. كما يمكن لتعزيز الاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع مراقبة الأنشطة الروسية بشكل أفضل.

للولايات المتحدة مصلحة فى أن تكون أوروبا موحدة وحرة وتنعم بالسلام، وبالتالى فى تعزيز الحرية فى منطقة البحر الأسود. ويمكن أن يحدث تعزيز الدعم الأمريكى لمبادرات حلف شمال الأطلسى (الناتو) والاتحاد الأوروبى تأثيرا هائلا بتكلفة منخفضة نسبيا. ومع ذلك بعد قمة ترامب وبوتين فى ألاسكا، بات واضحا ما إذا كان ترامب سيضغط على روسيا لإنهاء الصراع، الذى قد يستمر لبعض الوقت. ومع ذلك فإن وقف أهداف موسكو التوسعية يجب أن يبدأ بإنهاء تلك الحرب. لقد دفع استهداف روسيا للبنية التحتية المدنية الملايين إلى النزوح من ديارهم، ورسّخ الهيمنة الروسية فى الأراضى الأوكرانية المحتلة.

ومن المرجح أن يواصل الكرملين هذه الجهود حتى تدرك الجهات الدولية الفاعلة أن الصراع من أجل أوكرانيا هو أيضا صراع من أجل مستقبل البحر الأسود. ويجب أن تقرن جهود إنهاء الحرب باستراتيجية فعّالة لمنع هيمنة موسكو على منطقة البحر الأسود الكبرى. كما ينبغى على صانعى السياسات فى أمريكا الشمالية وأوروبا إعطاء الأولوية للمبادرات المصممة لتحسين الحوكمة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية فى المنطقة، وضمان الإنتاج الآمن للسلع وعبورها. وإذا فشلت هذه الخطوات فى تحقيق الاستقرار فى المنطقة، فإن عدوان روسيا فى أوكرانيا قد يمتد إلى مولدوفا وجورجيا، وقد يتضخم حتى إلى مواجهة مباشرة مع دول حلف شمال الأطلسى المطلة على البحر الأسود، الأمر الذى قد تمتد عواقبه إلى الأسواق فى جميع أنحاء العالم ويهدد مجموعة أوسع من المصالح الأمريكية والأوروبية.

المصدر:

Daniel S. Hamilton and Angela Stent,Russia’s Imperial Black Sea Strategy:Maritime Power and the Quest for Regional Dominance, Foreign Affairs, August 19, 2025.

طباعة

    تعريف الكاتب

    عرض - عمر أحمد

    عرض - عمر أحمد

    باحث فى العلوم السياسية