تشهد الساحة الدولية تحولات عميقة تعكس حجم التنافس العالمى على الموارد الاستراتيجية التى أصبحت محركا أساسيا للسياسة والاقتصاد فى القرن الحادى والعشرين، وفى هذا السياق برز الاجتماع الذى عقده الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب مع خمسة من قادة الدول الإفريقية كحدث له أبعاد استراتيجية تتجاوز الطابع البروتوكولى أو الاقتصادى المعلن، إذ يندرج اللقاء ضمن مسار أوسع تحاول فيه القوى الكبرى إعادة رسم خريطة النفوذ فى القارة السمراء التى طالما كانت محط أطماع وتنافس على مر التاريخ.
إفريقيا اليوم ليست مجرد قارة بعيدة عن مراكز القرار الدولى، بل باتت تشكل مركزا متقدما فى الصراع الجيوسياسى والاقتصادى، فهى تملك ما يقارب ثلث احتياطيات العالم من المعادن الحيوية وتضم أكبر مخزون عالمى من الذهب، والماس، واليورانيوم، والكوبالت، والليثيوم، والفوسفات، والبوكسيت، والجرافيت.. وغيرها من الثروات النادرة التى لا غنى عنها فى الصناعات الحديثة بدءا من الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية وصولا إلى السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة والتكنولوجيا النووية، ومع ذلك لا تزال القارة تعيش مفارقة لافتة فهى غنية بالفقر ومليئة بالموارد التى لم تنعكس بعد على حياة شعوبها.
إفريقيا القارة الغنية بالفقر:
منذ عقود طويلة توصف إفريقيا بأنها أغنى قارات العالم بالموارد الطبيعية لكنها فى الوقت ذاته الأكثر فقرا من حيث مؤشرات التنمية البشرية، والبنية التحتية، ومستويات التعليم والصحة، ويرجع هذا التناقض إلى عوامل تاريخية ترتبط بفترة الاستعمار الأوروبى الذى مارس استنزافا واسعا لموارد القارة دون أن يترك وراءه بنية اقتصادية قادرة على الاستدامة، وبعد الاستقلال لم تتمكن غالبية الدول الإفريقية من تحويل ثرواتها إلى رافعة للتنمية بسبب ضعف الحوكمة، وانتشار الفساد، وتبعية الاقتصاديات المحلية للأسواق العالمية، ولعل المثال الأبرز أن الكونغو الديمقراطية التى تملك أكثر من نصف احتياطى العالم من الكوبالت لا تزال تصنف بين الدول الأفقر فى العالم.
الثروة المعدنية فى إفريقيا لم تتحول إلى قوة اقتصادية تعزز السيادة، بل غالبا ما كانت نقمة غذت النزاعات الداخلية والحروب الأهلية وساهمت فى تدخلات أجنبية متكررة، ومن هنا نفهم لماذا ينظر الكثير من الباحثين إلى موارد القارة باعتبارها ساحة صراع أكثر من كونها فرصة للتنمية، وهذا ما يجعل أى اجتماع أو مبادرة دولية تتعلق بإفريقيا محاطا دائما بتساؤلات وشكوك حول النوايا الحقيقية.
الاجتماع كإشارة استراتيجية:
لقاء ترامب بخمسة رؤساء أفارقة لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الدولى الراهن حيث تتسارع المنافسة بين الولايات المتحدة، والصين، وروسيا على النفوذ فى القارة، فبينما روج الخطاب الرسمى الأمريكى لفكرة تعزيز التعاون الاقتصادى وفتح آفاق جديدة للشراكة، فإن المتابعين يدركون أن الأجندة الخفية كانت تتركز على محاولة تأمين سلاسل التوريد الأمريكية وضمان الوصول إلى المعادن الاستراتيجية التى أصبحت أساسا للصناعات التكنولوجية والعسكرية فى آن واحد.
فالصين مثلا سبقت الولايات المتحدة بخطوات واسعة من خلال استثمارات ضخمة فى البنية التحتية، والموانئ، والطرق، والسكك الحديدية، ومشروعات التعدين، وأطلقت مبادرة الحزام والطريق كإطار جامع لهذه التحركات، أما روسيا فاختارت مدخلا مختلفا من خلال العقود العسكرية والدعم الأمنى لبعض الأنظمة مقابل الحصول على امتيازات فى قطاع التعدين والطاقة، ومن هنا جاء تحرك ترامب بمثابة محاولة لاستعادة زمام المبادرة الأمريكية وتقليص النفوذ المتنامى لمنافسى واشنطن.
خريطة الثروات الإفريقية:
حين نتأمل الخريطة الجيولوجية للقارة ندرك لماذا تشكل إفريقيا هدفا دائما للصراع الدولي؟ على سبيل المثال، تمثل الكونغو الديمقراطية أكثر من خمسين فى المئة من الاحتياطى العالمى للكوبالت بما يقارب ستة ملايين طن من أصل أحد عشر مليونا، وهى أنتجت فى عام 2023 نحو مئة وسبعين ألف طن مع توقعات بالارتفاع إلى مئتين وخمسة وعشرين ألفا فى 2024، والكوبالت عنصر أساسى فى بطاريات الليثيوم المستخدمة فى السيارات الكهربائية.
بينما تحتضن جنوب إفريقيا أكثر من تسعين فى المئة من احتياطيات معادن مجموعة البلاتين، وتنتج كميات ضخمة من الكروم والمنجنيز وهما عنصران يدخلان فى صناعة الطاقة النظيفة والسبائك الفولاذية.
ويملك المغرب أكثر من خمسين مليار طن من احتياطيات الفوسفات تمثل سبعين فى المئة من الاحتياطى العالمى، ويشكل هذا القطاع عشرة فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد.
وتعد زيمبابوى الدولة الإفريقية الأولى فى احتياطى الليثيوم بنحو أحد عشر مليون طن وهى سادس أكبر منتج عالمى، وتنتج نحو ألف ومئتى طن سنويا مع توقعات بأن تستحوذ على عشرين فى المئة من سوق الليثيوم إذا استثمرت احتياطياتها بشكل كامل.
وتحتل غينيا كوناكرى المرتبة الثانية عالميا فى احتياطات البوكسيت الذى يستخدم فى صناعة الألمنيوم، وتمثل ثلاثة وعشرين فى المئة من الاحتياطى العالمى، حيث بلغ إنتاجها مئة وثلاثة وعشرين مليون طن فى 2023 بزيادة ملحوظة على 2020.
أما موزمبيق وتنزانيا فتمتلكان معا نحو ثلاث عشرة فى المئة من احتياطيات الجرافيت العالمية، فيما تنتج موزمبيق أكثر من خمسة وعشرين مليون طن، وتملك تنزانيا سبعة عشر مليونا، ويعد الجرافيت مادة أساسية فى البطاريات الحديثة.
وتنتج ناميبيا نحو عشرة فى المئة من اليورانيوم العالمى وتعد ثانى أكبر منتج له، وهو مورد بالغ الأهمية فى الصناعات النووية السلمية والعسكرية.
مثل هذه المعطيات تجعل من القارة كنزا استراتيجيا لا غنى عنه فى مسار التحول العالمى نحو الطاقة المتجددة والثورة الصناعية الرابعة.
القوى الكبرى فى سباق السيطرة:
ترى الولايات المتحدة أن فقدانها لزمام المبادرة فى إفريقيا يشكل خطرا على مصالحها الاستراتيجية، ولهذا تسعى إلى إعادة ترسيخ وجودها عبر مبادرات اقتصادية وأمنية، لكنها تواجه صعوبة فى منافسة النموذج الصينى الذى يقدم للدول الإفريقية استثمارات مباشرة فى البنية التحتية مقابل الحصول على عقود طويلة الأجل فى التعدين.
الصين بدورها أدركت مبكرا أن مستقبل الاقتصاد العالمى مرتبط بالمعادن النادرة فعملت على تأمين مصادرها من إفريقيا منذ عقدين، واليوم تسيطر الشركات الصينية على حصة كبيرة من مشروعات الكوبالت والنحاس فى الكونغو، إضافة إلى مشاريع فى زيمبابوى وأنجولا وغيرها.
أما روسيا فاعتمدت استراتيجية تقوم على استخدام القوة الناعمة والخشنة معا، فهى تقدم دعما عسكريا وأمنيا لبعض الأنظمة مقابل امتيازات فى قطاعات التعدين والطاقة، وقد ساعدها هذا النهج فى إيجاد موطئ قدم فى مناطق كانت بعيدة نسبيا عن النفوذ الروسى التقليدى.
بينما وجد الاتحاد الأوروبى نفسه متأخرا نسبيا عن سباق النفوذ، لكنه يحاول الآن الدخول من بوابة الاستدامة والحوكمة الرشيدة فى استغلال الموارد، غير أن قدرته على المنافسة تبقى محدودة مقارنة بالولايات المتحدة والصين.
فرص الدول الإفريقية وتحدياتها:
بالنظر من زاوية أخرى قد تمثل هذه المنافسة فرصة للدول الإفريقية إذا ما أحسنوا إدارة اللعبة، إذ يمكنهم جذب استثمارات ضخمة وتوفير فرص عمل لشعوبهم ونقل التكنولوجيا من الخارج، لكن التحدى يكمن فى قدرة الأنظمة على فرض شروط عادلة تضمن مصلحة الشعوب وعدم تكرار سيناريو الاستنزاف الذى شهدته القارة عبر عقود طويلة.
التاريخ مليء بالأمثلة التى تكشف كيف تحولت الثروات إلى لعنة، فموارد النفط فى بعض الدول الإفريقية لم تسهم فى التنمية بل غذت الفساد وأشعلت النزاعات، وإذا لم تتغير معادلة الحوكمة فإن احتمال تكرار ذلك مع المعادن الجديدة يبقى قائما بقوة.
التحديات لا تقف عند حدود الفساد بل تشمل أيضا هشاشة المؤسسات، وغياب التصنيع المحلى، والاعتماد المفرط على تصدير المواد الخام، وهو ما يحرم القارة من القيمة المضافة ويجعلها تابعة لاقتصادات الخارج.
معادلة الثروة أو التنمية:
السؤال الجوهرى الذى يواجه القارة اليوم يتمثل فى ما إذا كانت هذه الثروة الهائلة ستتحول إلى نعمة أم ستبقى نقمة، فالمعادلة لم تعد مجرد من يملك الموارد بل من يحسن التفاوض على استثمارها، وإذا اكتفت الدول الإفريقية بدور المورد للمواد الخام فلن تنجح فى تغيير واقعها، بينما إذا استطاعت فرض شراكات تضمن التصنيع المحلى وتوليد فرص العمل وتطوير التعليم والبنية التحتية فإنها ستتمكن من تحويل الموارد إلى قوة تنموية حقيقية.
تقدم التجارب الدولية نماذج متباينة، فبعض دول أمريكا اللاتينية تمكنت من بناء صناعات متقدمة اعتمادا على مواردها بينما غرقت أخرى فى دوامة الفساد والفقر، ومن هنا تأتى أهمية أن يتعلم القادة الأفارقة من هذه التجارب وأن يدركوا أن الثروة وحدها لا تكفى لبناء مستقبل مستدام.
قراءة استراتيجية فى مستقبل العلاقة الأمريكية-الإفريقية:
يعكس الاجتماع بين ترامب والقادة الأفارقة إدراك واشنطن بأن خسارة إفريقيا تعنى خسارة موقع متقدم فى معركة التكنولوجيا والطاقة العالمية، وفى الوقت ذاته يدرك القادة الأفارقة أن أمامهم فرصة تاريخية لاستثمار هذا الاهتمام الدولى لتحقيق مكاسب استراتيجية، لكن الأمر يتوقف على قدرتهم على التفاوض بذكاء وعلى وعيهم بمصالح شعوبهم.
من المتوقع خلال العقد المقبل أن يتصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين على القارة، وستسعى واشنطن إلى تعزيز حضورها عبر مزيج من الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية وربما الأمنية، فى حين ستواصل بكين توسيع استثماراتها وربط مصالحها بمصالح القارة من خلال مشاريع كبرى للبنية التحتية، أما روسيا فستبقى لاعبا مؤثرا فى مناطق معينة عبر أدواتها الأمنية والعسكرية.
وأخيرا..يبقى السؤال الأبرز هل سيكون اجتماع ترامب مع القادة الأفارقة خطوة فى اتجاه شراكات عادلة تحقق التنمية للقارة أم مجرد فصل جديد من فصول السعى الدولى للهيمنة على المعادن النفيسة، الإجابة ستتضح فى السنوات المقبلة لكن المؤكد أن إفريقيا ستظل محورا رئيسيا فى معادلات السياسة والاقتصاد العالمى، فهى لم تعد قارة بعيدة على الهامش بل قلب نابض لمستقبل التكنولوجيا، والطاقة، والصناعة، وعلى القادة الأفارقة أن يدركوا أن اللحظة التاريخية التى يعيشونها قد لا تتكرر، فإما أن يكتبوا فصلا جديدا من النهضة الإفريقية أو أن يتركوا القارة غنيمة لصراعات القوى الكبرى.