تحظى منطقتا جنوب القوقاز وآسيا الوسطى بأهمية بالغة لدى القوى الدولية فى مختلف النواحى سواء كانت سياسية، أو أمنية، أو اقتصادية، وشهدت تلك المنطقة مراحل مختلفة من الاهتمام والتجاهل الدولى بحكم المصالح الحاكمة للقوى الفاعلة فى آسيا، لكن دول تلك المنطقة ظلت حائرة بين حالة استقطاب المعسكر الشرقى والغربى وإرضاء دول الجوار وأجنداتها السياسية المختلفة.
وتاريخيا رفضت إيران أى تحالفات قريبة من جغرافيتها تعمل على تطويقها وإحداث تغيير جيوسياسى على حدودها وخاصة ما يروج له إعلاميا بـ "العالم التركى" المرتبط بدول السينات الخمس وجنوب القوقاز المرتبط بتركيا فى اللغة والثقافة والقواسم التاريخية المشتركة، حتى إن إيران عملت على احتواء النفوذ الروسى فى تلك المنطقة الذى تراجع بفعل الحرب الأوكرانية، واستدعت فى سبتمبر 2024 السفير الروسى فى طهران أليكسى ديدوف لإبلاغه بتحفظات طهران على السياسة التى تعتمدها روسيا فى جنوب القوقاز بما يتعارض مع المصالح الإيرانية.
وتزامن مع توقيع الرئيس الأميركى دونالد ترامب اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان فى أغسطس 2025، الكشف عن مشروع ممر تجارى قديم جديد فى جنوب القوقاز وهو "طريق ترامب للسلام والازدهار الدولى" (TRIPP) بطول 40 كيلو مترا بداية من باكو فى أذربيجان مرورا بزنغزور الأرمينية ويربط أذربيجان بإقليم نخجوان حتى قارص بشرق تركيا، ما اعتبرته إيران يزيد التوترات فى المنطقة ويتعارض مع مصالح الأمن القومى الإيرانى الأمر الذى تراه يفقدها عمقها الاستراتيجى الشمالى فى أرمينيا.
وفى هذا المقال سنعمل على توضيح طبيعة النفوذ الإيرانى فى منطقة جنوب القوقاز وكيفية تعامل طهران مع الخصوم، والحلفاء، والمنافسين فى هذه المنطقة التى تدخل على خط صراع الممرات التجارية.
خلال زيارة الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان إلى يريفان حصلت إيران على تطمينات أرمينية تتمثل فى صون الحدود الدولية وعدم انقطاع حركة النقل التى تعد مسألة حيوية للطرفين بل واستمرار مشروع "مفترق طرق السلام" للتجارة بين البلدين، والعمل على تدشين جسر ثان وطرق على الحدود أبرزها طريق كاجاران-أغاراك بطول 32 كيلومترا الذى أوكل تنفيذه إلى شركة إيرانية، فضلا عن رفع حجم التبادل التجارى إلى مليار دولار ثم إلى ثلاثة مليارات دولار، وبحث مشروع الخط الثالث لنقل الكهرباء بين البلدين بهدف زيادة الصادرات الكهربائية إلى إيران.
قدمت أرمينيا أيضا تأكيدات بأن أراضيها لن تشكل تهديدا لإيران وفق تصريحات وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى للتلفزيون الإيرانى الرسمى، خاصة بعد حديث ترامب عن تمديد أرمينيا حقوق الولايات المتحدة فى إدارة الممر لمدة 99 عاما، وهو ما اعتبرته إيران يهدد حدودها لوجود الولايات المتحدة قرب أراضيها.
وبين التطمينات الأرمينية والتطلعات الإيرانية توجه بزشكيان إلى بيلاروسيا التى تصدر سلعها إلى إيران عبر السكك الحديدية إلى روسيا ثم النقل البحرى عبر بحر قزوين إلى الموانئ الإيرانية ضمن الممر الدولى الشمالى-الجنوبى (INSTC) الرابط للهند، وإيران، وأذربيجان، وروسيا بآسيا الوسطى وبيلاروسيا فى النهاية و المتكامل مع مبادرة الحزام والطريق الصينية.
الرئيس الإيرانى وقع مع بيلاروسيا 12 وثيقة تعاون وأكد على التوافق بشأن رفض سياسات أمريكا أحادية الجانب، بل والعمل مع مينسك على إبرام معاهدة شراكة استراتيجية وتعزيز العلاقات الثنائية فى مختلف المجالات بما فى ذلك التعاون العسكرى، فى رسالة مفادها إعادة تموضع إيران تجاه المعسكر الشرقى الرافض لأى تدخلات أمريكية فى المنطقة.
تتزايد المخاوف الإيرانية من نشوب حرب جديدة مع إسرائيل صاحبة العلاقات الوطيدة مع أذربيجان، أو إخراجها من معادلة الممرات التجارية التى تتشكل فى الوقت الراهن.
لكن مخاوف طهران تجاه جنوب القوقاز وآسيا الوسطى ليست بجديدة فلطالما رفضت ممر زنغزور منذ حرب الـ 44 يوما عام 2020، وشهدت تلك الفترة توترا مع روسيا ما عكس تباين فى المواقف حول ترتيبات الوضع الإقليمى فى جنوب القوقاز، وشهدت كذلك توترا مع تركيا وصلت لقيام إيران بسلسلة من المناورات العسكرية فى شمال غرب البلاد فى إشارة واضحة إلى جدية واستعداد طهران منع هذا الإجراء بحسب تصريحات لمستشار المرشد الإيرانى على أكبر ولايتى.
أما إسرائيل فظلت أبرز العوامل الموترة للعلاقات بين إيران وأذربيجان التى تتهمها إيران بأنها قاعدة للنشاطات الاستخباراتية الإسرائيلية الموجهة ضد إيران، وتكمن المصالح الإسرائيلية التجارية فى منطقة القوقاز فى تأمين خط جيهان النفطى وتأمين تدفقات النفط التى تغذى خط الأنابيب الممتد من أذربيجان ثم جورجيا حتى ميناء جيهان التركى وصولا إلى ميناء عسقلان فى الأراضى المحتلة.
تضم منطقة القوقاز وآسيا الوسطى عدة جماعات يهودية فى جورجيا وأذربيجان ويهود الجبال أو يهود داغستان، وعملت إسرائيل على دعم تلك الجاليات عن طريق الثقافة والترويج للأفكار الدينية بما يتماشى مع أهداف إسرائيل التوسعية، وركزت علاقاتها مع ثلاث دول فى آسيا الوسطى بشكل رئيسى وهى أذربيجان، وكازاخستان، وأوزبكستان لقربها من إيران، واعترفت باستقلال تلك الدول وأبرمت اتفاقيات لعلاقات دبلوماسية كاملة استغلالا لتوجه تلك الدول التى تفصل الدين عن السياسة فى علاقاتها الخارجية.
ختاما، وما بين التنافس التركى، والروسى، والإسرائيلى ودخول الولايات المتحدة فى معادلة التنافس فى جنوب القوقاز، تتجاوز مخاوف طهران المخاوف الجيوسياسية بل تشمل المخاوف الجيواستراتيجية، مما يدفع إيران إلى استعادة تنشيط الممرات التجارية المحسوبة على المعسكر الشرقى وخاصة الممر الشمالى-الجنوبى وطريق الحرير الجديد، بجانب كسر العزلة التى تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل فرضها بمنطقة جنوب القوقاز عن طريق إيجاد موطئ قدم فى معادلة الممرات التجارية المستحدثة اعتمادا على علاقاتها القديمة بتلك الدول، واستثمارا لبنية السكك الحديدية والطرق التجارية التى طورتها خلال السنوات الماضية.