بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، شهد العالم تزايدا فى أهمية المؤسسات والآليات متعددة الأطراف، مثل: الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، ومنظمة التجارة العالمية، ناهيك عن التكتلات الإقليمية. هذا يعكس إدراك الدول بأن العديد من التحديات العالمية، مثل ( تغير المناخ، والأوبئة، والإرهاب، ... إلخ) لا يمكن مواجهتها بجهود ثنائية أو فردية، بل تتطلب "شراكات متعددة" وتعاونا جماعيا. إذ تشير العديد من التحليلات إلى أن القرن الحادى والعشرين شهد صعودا ملحوظا لمفهوم "الشراكات الاستراتيجية" كبديل أو مكمل للتحالفات التقليدية. هذه الشراكات تتميز بكونها أكثر مرونة، وتستهدف غالبا قضايا محددة (مثل مكافحة الإرهاب، أو التنمية الاقتصادية، أو التحديات البيئية)، ولا تتطلب بالضرورة التزامات دفاعية متبادلة صارمة كالتى كانت سائدة فى حقبة الحرب الباردة. فبعد انتهاء التهديد الوجودى الذى مثلته تلك الحرب، باتت الدول أقل ميلا للدخول فى تحالفات عسكرية بحتة، وأكثر توجها لتكوين شراكات متعددة الأوجه تلبى مصالحها المتنوعة، كون العلاقات الدولية لم تعد محصورة فى الأبعاد الأمنية والعسكرية، بل امتدت لتشمل التعاون الاقتصادى، والتكنولوجى، والثقافى، والبيئى. هذا التنوع يتطلب "شركات متعددة" بدلا من "تحالفات ثنائية تقليدية".
تتسم رؤية الولايات المتحدة لعلاقاتها مع العراق فى ظل إدارة دونالد ترامب، سواء فى ولايته الأولى أو فى السيناريوهات المحتملة لولاية ثانية، بالعديد من الثوابت والمتغيرات التى تتأثر بشكل كبير بمبدأ"أمريكا أولا" والتحولات الإقليمية الراهنة. على الرغم من عدم وجود وثيقة واحدة شاملة بعنوان "رؤية الولايات المتحدة للعراق"، يمكن استخلاص ملامح هذه الرؤية من تصريحات ترامب، وتحليلات الخبراء، والإجراءات المتخذة.
لا يخطئ من يرى، أن الاتفاقية الإطار الاستراتيجى لعام 2008 توفر أساسا متينا لشراكة أوسع. لتحقيق رؤية استراتيجية مستقبلية ناجحة، يجب على الطرفين العمل على تعزيز السيادة العراقية، وتنويع مجالات التعاون، والحفاظ على حوار مستمر لمعالجة التحديات الإقليمية المعقدة. إن بناء شراكة متوازنة ومتبادلة المنفعة سيخدم مصالح البلدين ويساهم فى استقرار المنطقة.
تظل مكافحة الإرهاب، ولاسيما التنظيمات الإرهابية، ثابتًا رئيسيا فى السياسة الأمريكية تجاه العراق. حتى مع الدعوات لخفض الوجود العسكرى، فإن الولايات المتحدة تدرك أهمية استمرار التعاون الأمنى لمنع عودة ظهور تلك التنظيمات، هذا التعاون تحول من العمليات القتالية واسعة النطاق إلى دعم بناء القدرات العراقية وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
كما تؤكد الولايات المتحدة على دعم استقرار العراق وسيادته، وهو ما يتماشى مع المصالح الأمريكية فى منطقة مستقرة. هذا الدعم يهدف إلى تمكين الحكومة العراقية من بسط سيطرتها على كامل أراضيها وتقليل النفوذ الأجنبى، بما فى ذلك النفوذ الإيرانى. إذ تعد المصالح الاقتصادية الأمريكية، بما فى ذلك فرص الاستثمار والتجارة، ثابتا مهما. تسعى إدارة ترامب إلى تعزيز هذه المصالح، وقد تستخدم أدوات، مثل الرسوم الجمركية أو اتفاقيات التجارة وغيرها من الأدوات لتحقيق أهدافها الاقتصادية.
من جانب آخر، يمثل حجم الوجود العسكرى الأمريكى فى العراق أحد أبرز المتغيرات، إذ تسعى إدارة ترامب إلى تقليل التورط العسكرى المباشر وإنهاء "الحروب الطويلة"، مما يعنى احتمال استمرار سحب القوات أو تقليص مهامها، هذا التحول قد يؤدى إلى نقاشات حول طبيعة الدعم الأمنى المستقبلى للعراق.
فى الوقت نفسه، تتصف سياسة ترامب تجاه إيران بالضغط الأقصى والمواجهة المباشرة، مثل هذا النهج يؤثر بشكل مباشر على العراق، الذى وجد نفسه فى موقع حساس بين المصالح الأمريكية والإيرانية. مما يقود إدارة ترامب فى الضغط على العراق لتقليل علاقاته الاقتصادية مع إيران.
غنى عن البيان، أن إدارة ترامب تميل إلى التركيز على "الصفقات" التى تحقق مكاسب مباشرة للولايات المتحدة، بدلا من بناء شراكات شاملة وطويلة الأمد قد تتطلب التزامات أكبر. هذا قد يؤثر على مدى عمق وتنوع الشراكة بين البلدين، وقد يركز على جوانب محددة (مثل الطاقة أو مكافحة الإرهاب) على حساب جوانب أخرى (مثل التنمية المؤسسية أو تمكين تجربة النظام الديمقراطى فى العراق).
فى ظل ما تقدم، تتأثر رؤية الولايات المتحدة بشكل كبير بالتحولات الإقليمية، لاسيما الصراع الإسرائيلي-الإيرانى وديناميكيات القوى فى الشرق الأوسط. بمعنى التصعيد أو التهدئة فى هذه الصراعات يمكن أن يغير أولويات السياسة الأمريكية إزاء العراق.
بمعنى آخر، إن الولايات المتحدة الأمريكية، فى ظل إدارة دونالد ترامب الثانية، تمتلك إطارًا عامًا للسياسة تجاه العراق، ولكنه قد لا يكون "رؤية واضحة" بالمعنى التقليدى الذى يتضمن استراتيجية مفصلة طويلة الأمد مع أهداف محددة لكل جانب من جوانب العلاقة. هذا الإطار يتميز بـ:
1- التركيز على المصالح الأمريكية المباشرة: الأولوية هى للمصالح الأمنية (مكافحة الإرهاب) والاقتصادية (التجارة والطاقة) الأمريكية.
2- المرونة والبراجماتية: قد تتغير التكتيكات والأولويات بناءً على الظروف الإقليمية والداخلية الأمريكية، مع الميل نحو الحلول السريعة والانسحاب من التورطات الطويلة.
3- التعامل مع العراق كجزء من استراتيجية إقليمية أوسع: يُنظر إلى العراق غالبًا كساحة للتنافس مع إيران، أو كجزء من استراتيجية أوسع لتحقيق الاستقرار الإقليمى.
بشكل عام، تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على عراق مستقر وغير خاضع بالكامل للنفوذ الإيرانى، مع تقليل التكاليف والالتزامات الأمريكية. ومع ذلك، فإن كيفية تحقيق هذه الأهداف قد تفتقر إلى خطة عمل شاملة ومفصلة، وتعتمد بشكل كبير على التطورات الميدانية والسياسات المتقلبة لإدارة ترامب.
بالمقابل,يسعى العراق لتعزيز دوره كمركز للربط الإقليمى عن طريق مشاريع مثل "طريق التنمية"، مما يجعله نقطة جذب للمصالح الإقليمية والدولية. فضلا عن تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجى لعام 2008 (SFA)، تلك الاتفاقية التى تعد حجر الزاوية فى العلاقات الثنائية، وتوفر إطارا للتعاون فى مختلف المجالات، وعلى الرغم من انسحاب القوات القتالية الأمريكية، فإن الاتفاقية توفر أساسا للتعاون المستمر فى مكافحة الإرهاب وبناء القدرات الأمنية العراقية.ناهيك عن أن الاتفاقية تشمل جوانب اقتصادية مهمة، مثل تعزيز التجارة والاستثمار، وهو ما يتوافق مع تركيز إدارة ترامب على الصفقات التجارية.
ووفقا لكل ما تقدم، يمكن تصور عدة رؤى محتملة لطبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق فى ظل إدارة ترامب:
التصور الأول: ستسعى إدارة ترامب إلى تقليل التورط العسكرى المباشر فى العراق، مع التركيز على:
• التعاون الأمنى المحدود: سيقتصر التعاون الأمنى على مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخباراتية، مع تقليل الوجود العسكرى الأمريكى بشكل كبير.
• تعزيز العلاقات التجارية: ستسعى الولايات المتحدة إلى زيادة التبادل التجارى مع العراق، وقد تستخدم الرسوم الجمركية كأداة للضغط لتحقيق مصالحها التجارية.
• دعم استقرار العراق: سيتم دعم استقرار العراق بشكل غير مباشر عن طريق المساعدات الاقتصادية والسياسية، بدلا من التدخل العسكرى المباشر.
التصور الثانى: إذا لم يتمكن العراق من تحقيق التوازن بين المصالح الأمريكية والإيرانية، أو إذا تراجعت الولايات المتحدة عن التزاماتها، فقد يؤدى ذلك إلى:
• زيادة النفوذ الإيرانى: قد توظف إيران أى فراغ تتركه الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز نفوذها خارج حدودها.
• تزايد التوترات الإقليمية: قد يؤدى تراجع النفوذ الأمريكى إلى زيادة التوترات بين القوى الإقليمية المتنافسة فى العراق.
• ظاهرة عدم الاستقرار: قد يؤدى ضعف الدعم الخارجى إلى تدهور الوضع الأمنى والاقتصادى فى العراق.
التصور الثالث: يتطلب جهودا من الطرفين لتحقيق شراكة أكثر توازنا، لكن فى ظل الإدارة الترامبية يتطلب جهودا أكبر من العراق، بغية جذب واستقطاب الولايات المتحدة عن طريق تفعيل كامل للاتفاقية الإطار الاستراتيجى، بما فى ذلك التعاون الاقتصادى والثقافى، وليس فقط الجانب الأمنى. ناهيك عن تنويع مجالات التعاون، عن طريق توسيع مجالات التعاون لتشمل الطاقة، والتنمية، والبنية التحتية، والتعليم، بما يخدم مصالح الطرفين. لا سيما أن العراق ممكن أن يؤدى دور الجسر الإقليمى عن طريق دعم الولايات المتحدة للعراق كجسر للتواصل والتعاون الإقليمى، بدلا من أن يكون ساحة للصراعات والاقتتال.
لتحقيق التصور أعلاه وتعزيز العلاقة بين العراق والولايات المتحدة فى ظل إدارة ترامب، مطلوب من الحكومة العراقية الحالية تعزيز سيطرتها على جميع الأراضى والفصائل المسلحة، وتحجيم النفوذ الأجنبى. كما على العراق أن يسعى لتنويع شركائه الدوليين والإقليميين، وعدم الاعتماد على طرف واحد، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع الجميع أما تحالفاته الدولية يجب أن تحدد وفقا لمستقبل البوصلة الشرق أوسطية التى تميل نحو الحليف الواحد والشركاء المتعددين. علاوة على ذلك، يجب على العراق توظيف موارده الطبيعية والبشرية لتحقيق التنمية الاقتصادية، وجذب الاستثمارات الأجنبية، بما فى ذلك الاستثمارات الأمريكية.
ختام القول، هناك اعتراف متزايد بأهمية العراق كلاعب محورى فى المنطقة، وقدرته على المساهمة فى الاستقرار الإقليمى. كما أن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للعراق فى هذا الدور يتوافق مع فكرة أن العراق يمكن أن يكون "حليفًا واحدًا" قويًا فى المنطقة، قادرًا على بناء "شركات متعددة" مع جيرانه. فالعديد من الخبراء والمؤسسات الأمريكية تؤكد على ضرورة توسيع نطاق العلاقة مع العراق لتشمل جوانب متعددة تتجاوز التعاون الأمنى والعسكرى. هذا يتوافق مع فكرة "الشراكات المتعددة"، حيث لا تقتصر الشراكة على المجال العسكرى فقط.