حين تتقاطع السياسة مع الذاكرة، تصبح العلاقات بين الدول أكثر هشاشة مما تبدو عليه فى ظاهرها، ويصير التاريخ سلاحا ناعما لكنه بالغ التأثير. وتمثل العلاقة بين الجزائر وفرنسا أحد أبرز النماذج على ذلك، علاقة لا تُفهم فقط من خلال المصالح والمواقف الراهنة، بل عبر جذور عميقة من الإرث الاستعمارى، والتحولات الداخلية، والمناخات الدولية التى أعادت باستمرار إنتاج التوتر فى صور متعددة.
لقد ظلت هذه العلاقة مشدودة بين خطاب الشراكة ومحطات التصدع، تتجاذبها اعتبارات الجغرافيا والاقتصاد من جهة، وأشباح الماضى من جهة أخرى. فكلما بدت ملامح التقارب ممكنة، كان للذاكرة دور فى إعادة تحديد مواقف الطرفين بشحنة رمزية يصعب تجاوزها. ولا عجب، إذ لم تُبن هذه العلاقة يوما على مصالحة صريحة أو مراجعة متبادلة، بل على إدارة حذرة لمخزون تاريخى لم يصف ولم يعترف به بالكامل. ومع تكرار الأزمات فى السنوات الأخيرة، بدا أن ما يجمع البلدين هو توتر مزمن أكثر من كونه تفاعلا سياسيا ناضجا. من ملف الذاكرة والاعتذار، إلى قضايا الهجرة والطاقة.
أولًا- الجذور التاريخية للتوترات الجزائرية-الفرنسية:
من تصاعد الخطابات الشعبوية فى الداخل الفرنسى، إلى سعى الجزائر لإعادة التموضع إقليميا، جميعها قضايا تعكس خللا أعمق فى تصور كل طرف للآخر، غير أن فهم هذه الديناميكيات المعقدة، لا يكتمل دون العودة إلى البنية التاريخية التى قامت عليها هذه العلاقة.
منذ لحظة الاحتلال الفرنسى للجزائر عام 1830، بدأت تجربة استعمارية مختلفة عن سائر التجارب الاستعمارية فى إفريقيا والعالم العربى. لم تكن فرنسا تمارس مجرد هيمنة عسكرية أو إدارية، بل قامت بتأسيس مشروع استيطاني اقتلاعي، هدفه إعادة تشكيل الأرض والإنسان. فقد سعت إلى تفكيك المجتمع الجزائرى، ومصادرة أراضيه، وفرض ثقافة بديلة، لتتحول الجزائر تدريجيا إلى امتداد جغرافى وثقافى للدولة الفرنسية، مع ما يرافق ذلك من محو متعمد للهوية الأصلية وتاريخ السكان الأصليين.
هذا الطابع الاستيطانى العنيف ولد مقاومة جزائرية مستمرة عبر العقود، لكنها بلغت ذروتها عام 1954 مع انطلاق ثورة التحرير الوطنية. هذه الثورة لم تكن فقط صراعا مسلحا من أجل الاستقلال، بل إنه كان أيضا إعلانا حاسما برفض المشروع الكولونيالى برمته. وكان رد الفعل الفرنسى شديد القسوة، حيث لجأت فرنسا إلى أساليب قمع ممنهجة، من تعذيب وقتل جماعى، إلى تهجير وتشويه. وقد مثلت الحرب الجزائرية من أجل الاستقلال واحدة من أكثر النزاعات صعوبة على التصالح التاريخى، نظرا لما تسببت فيه من آثار مؤلمة على الصعيدين الشعبى والسياسى.
ومع نيل الجزائر استقلالها فى 1962، بدا وكأن صفحة جديدة ستفتح فى العلاقة بين البلدين. غير أن الواقع سرعان ما كشف أن الاستقلال السياسى لم ينه شبكة العلاقات المتشابكة مع فرنسا. فعلى الرغم من تبنى الجزائر خطاب السيادة الكاملة، استمر التعاون فى مجالات متعددة كالتعليم، والطاقة، والتدريب التقنى، من خلال اتفاقيات ما بعد الاستقلال، التى أعادت إنتاج العلاقة فى صورة جديدة، قائمة على "شراكة غير متكافئة"، فيها الجزائر طرف مستقل شكليا، لكنه يعتمد جزئيا على الخبرة الفرنسية، بينما تستفيد باريس من مكانة الجزائر الإقليمية ومواردها الحيوية.
فى هذا السياق، برزت الجالية الجزائرية فى فرنسا كأحد أبرز مظاهر التداخل البنيوى بين الداخلين السياسيين لكلا البلدين. هذه الجالية، التى تشكلت عبر مراحل متعاقبة من الهجرة –قبل وبعد الاستقلال– تحولت إلى مكون اجتماعى، واقتصادى، وثقافى داخل المجتمع الفرنسى، لكنها كانت أيضا موضع تجاذب سياسى متكرر. فكل توتر فى العلاقات الرسمية، ينعكس سريعا على هذه الجالية، سواء من حيث خطاب الكراهية، أو من خلال توظيفها كورقة ضغط أو تهدئة بحسب السياق السياسى فى كلا البلدين. بل إن قضايا الهوية والانتماء التى تحيط بهذه الجالية غالبا ما تتحول إلى معارك رمزية داخل الخطاب السياسى الفرنسى، خاصة مع تصاعد اليمين المتطرف.
هذا التداخل الاجتماعى ترافق مع استمرار النفوذ الثقافى الفرنسى داخل الجزائر، وبشكل خاص من خلال اللغة. فعلى الرغم من تبنى سياسات التعريب منذ الاستقلال، بقيت الفرنسية حاضرة بقوة فى التعليم الجامعى، والإدارة، والإعلام، كما ظلت اللغة الأكثر استخداما فى مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا. وهو ما يعكس استمرار الروابط الرمزية مع المستعمر السابق، فى مشهد لغوى–سياسى معقد، حيث كانت الجزائر تسعى إلى تثبيت هويتها الوطنية، لكنها فى الوقت ذاته لا تزال تستخدم لغة القوة التى قاومتها. هذا التعارض جعل من اللغة الفرنسية –حتى اليوم– ساحة لصراع غير معلن حول الهوية والانتماء، تتداخل فيه اعتبارات البراجماتية مع حساسيات التاريخ والرمز.
لكن العامل الأشد حساسية فى هذه العلاقة ظل دائما ملف الذاكرة التاريخية. إذ لم تنجح فرنسا حتى الآن فى تقديم اعتراف كامل وصريح بالطابع الإجرامى لاستعمارها، مكتفية أحيانا بتصريحات انتقائية، أو مبادرات رمزية غير مكتملة. وقد تجسد هذا التوتر بشكل واضح فى الأزمة التى اندلعت عام 2021، بعد تصريحات الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون"، هذه التصريحات لم تكن استثناءً، بل مثال على مدى قابلية الذاكرة لأن تتحول إلى عامل انفجار سياسى فى أى لحظة، حتى بعد أكثر من نصف قرن من نهاية الاحتلال.
وبالنظر إلى هذا التراكم، يمكن القول إن العلاقة الجزائرية–الفرنسية لم تدخل يوما فى خانة "التطبيع المستقر". فهى علاقة محكومة بذاكرة استعمار لم تتم معالجته بعد، وبشبكة مصالح متشابكة لم تُفكك، وبتصورات متباينة للماضى والمستقبل. ولعل خصوصية هذه العلاقة تكمن فى أنها لا تختزل فى مفردات التعاون أو الصراع، بل تتقاطع فيها الرمزية السياسية مع الضرورات العملية، وتظل كل محاولة لتهدئتها معرضة للانتكاس عند أول استدعاء للذاكرة. وحتى اللحظة، لا تزال هذه العلاقة تُدار بعقلية مزدوجة: بين خطاب رسمى يتحدث عن الشراكة، وخطاب رمزى يذكر دوما بأن التاريخ لم يطو بعد.
ثانيًا- تصاعد التوترات بين فرنسا والجزائر (2021-2025):
تتسم العلاقات الجزائرية - الفرنسية منذ الاستقلال بتقلبات متلاحقة، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدا ملحوظا فى وتيرة التوترات، انعكاسات لتراكمات تاريخية عميقة وأزمات متجددة على الصعد السياسية، والثقافية، والاقتصادية. وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على استقلال الجزائر فى عام 1962، إلا أن ظلال الاستعمار الفرنسى الذى بدأ فى عام 1830 لا تزال تلقى بظلالها على المسار المشترك، مما يجعل العلاقة بين البلدين حالة فريدة من نوعها، تتشابك فيها الذاكرة بالسيادة والمصالح.
1- نقطة الانطلاق الحاسمة فى التصعيد الأخير كانت تصريحات الرئيس الفرنسى "إيمانويل ماكرون" فى فبراير 2021، حين صرح بأن "الجزائر لم تكن أمة قبل الاستعمار.. لقد جلبنا لهم الدولة، وهذا جزء من الحقيقة". (تكرار) هذه العبارة أثارت موجة غضب عارمة فى الجزائر، إذ اعتبرت تقليلا من شرعية الدولة الجزائرية وتاريخها الوطنى، واستعادة للمواقف الاستعمارية التى ظن الكثيرون أنها تم تجاوزها. وجاء رد وزير الخارجية الجزائرى "رمطان لعمامرة" حازما حيث صرح بـأن الجزائر "ترفض أى محاولة للتقليل من سيادتها أو إنكار تاريخها، ونطالب باعتراف رسمى من فرنسا بجرائمها الاستعمارية".
جاء هذا التصعيد فى سياق ملف الذاكرة الذى ظل يشكل عقدة مركزية فى العلاقات الثنائية. فقد أقرّ تقرير بن يمين ستورا فى 2018، المكلف من قِبل الإليزيه، بعدد من الانتهاكات الجسيمة التى ارتكبتها فرنسا خلال فترة الاستعمار. مما جعل التقرير محط رفض فى الجزائر واعتبرته استمرارا لسياسة "الإنكار المتحضر". كما أشارت تقارير إلى أن "العلاقة بين الجزائر وفرنسا لا تزال مرتبطة بماضٍ استعمارى مثقل، والصراع حول الذاكرة هو محور التوترات المستمرة".
2- لم يقتصر التوتر على قضايا الذاكرة التاريخية، بل شمل ملف الهجرة والاندماج فى فرنسا، حيث تشكل الجالية الجزائرية إحدى أكبر الجاليات الأجنبية. على الرغم من الأدوار الاقتصادية والاجتماعية التى تلعبها هذه الجالية، فإنها أصبحت فى السنوات الأخيرة هدفًا للخطابات السياسية الفرنسية، خاصة مع صعود اليمين المتطرف واستخدام ملف الهجرة كورقة انتخابية. تصريحات، مثل "فشل الاندماج" و"الخطر الإسلامى" تم تفسيرها فى الجزائر كتمثيل لعقلية استعمارية قديمة ترى الجزائريين كتهديد مستمر للهوية الفرنسية. وفى رد فعل متصل ترفض الجزائر التعاون الكامل مع فرنسا بشأن ترحيل المهاجرين غير النظاميين، مما يشكل خلافات إدارية وسياسية تعكس عمق التوترات الثنائية.
فى هذا السياق يمكن القول إن "ملف الهجرة فى فرنسا يرتبط ارتباطا وثيقا بالذاكرة الاستعمارية، إذ يُعاد إنتاج التوتر القديم فى صيغ جديدة تلامس الهوية والسيادة". هذا الربط يعكس عمق الأزمات المستمرة التى تتجاوز القضايا السطحية لتصل إلى جوهر التفاعل بين الطرفين.
3- على الصعيد الدبلوماسى، أصبحت العلاقات بين البلدين عرضة لتقلبات مفاجئة، تتجسد فى تأجيلات متكررة للزيارات الرسمية، وتصريحات انفعالية. زيارة وزير الداخلية الفرنسى "جيرالد دارمانان" إلى الجزائر فى مارس 2023 كانت محطة أخرى من محطات التوتر، وتسربت تصريحات لم تكن هذه التصريحات معزولة، بل جاءت بعد أسابيع من تسلم الرئيس ماكرون تقرير المؤرخ الفرنسى بنجامين ستورا حول "مصالحة الذاكرة"، الذى أوصى بعدد من الخطوات الرمزية، دون أن يتضمن اعتذارًا رسميًا عن الاستعمار. ورغم إشادة باريس بالتقرير، فإن امتناع الرئيس الفرنسى عن تقديم اعتذار، والاكتفاء بالتأكيد على أن "المصالحة لا تمر عبر الندم"، فسره الجزائريون كمحاولة لتجاوز الذاكرة بدون مساءلة، وكأنه يراد إنهاء ملف الاستعمار من طرف واحد.
وفى موازاةذلك،أثارتبعضالمواقفالفرنسيةالأخرىمزيدامنالتوتر،لاسيماتلكالمتعلقةبالهجرةوالجاليةالجزائريةفى فرنسا. فقدأعلنوزيرالداخليةالفرنسى جيرالددارمانان،فى أكثرمنمناسبة،أن"الجزائرترفضاستعادةمواطنيهاالمقيمينبشكلغيرقانونى فى فرنسا"،وعللتالحكومةالفرنسيةقرارهابخفضعددالتأشيراتالممنوحةللجزائريينبنسبةقاربت50%فى عام2021بهذاالرفض،وهومااعتبرتهالجزائرإجراءغيرمتكافئ،يعاقبشعبًابأكملهتحتمبرراتإداريةوسياسية. كماأنالخطاباتالفرنسيةبشأن"فشلالاندماج" أو"الخطرالإسلامى"،خاصةفى سياقصعودالخطاباليمينى،كثيراماحملتإشاراتسلبيةفُهمتفى الجزائرعلىأنها(استمرارلعقليةاستعماريةقديمةفى ثوبجديد). وصفهاالجانبالجزائرى بأنها"أمنيةهجومية"،مماأثارردودفعلحادةوزادمنتعقيدالمناخالسياسى بينالبلدين. بالإضافةإلىذلك،غالبًاماتصدرالتغطياتالإعلاميةالفرنسيةتعظيمًاللأزماتالداخليةالجزائرية،ممايعززشعورابعدمالاحترامويغذى مناخالشكالمتبادل.
4- شهدت العلاقة بين باريس والجزائر تحولات مهمة عقب اندلاع الحرب فى أوكرانيا عام 2022. سعت فرنسا والاتحاد الأوروبى لتأمين مصادر بديلة للطاقة بعيدا عن روسيا، وبرزت الجزائر كشريك استراتيجى رئيسى فى هذا الملف، نظرا لموقعها كمصدر رئيسى للغاز الطبيعى. ومع ذلك اختارت الجزائر تنويع تحالفاتها الاقتصادية، متجهة إلى إقامة شراكات مع إيطاليا، وتركيا، والصين، فى محاولة لإعادة ترتيب أولوياتها بعيدا عن الاعتماد التقليدى على فرنسا. هذه الخطوة أضعفت النفوذ الفرنسى فى المغرب العربى وأثارت قلقا فى باريس حيال تراجع موقعها الجيوسياسى.
5- تتباين رؤى البلدين تجاه قضايا مثل ليبيا ومنطقة الساحل الإفريقى. تدعم الجزائر الحلول السياسية والسلمية بعيدا عن التدخل العسكرى المباشر، بينما تميل فرنسا إلى نهج أكثر تدخلا أمنيا وعسكريا. هذا الاختلاف فى التصورات لا يترك مجالا كبيرا للتنسيق، مما يعزز من حالة التوتر، إذ تعكس كل خطوة من كلا الطرفين محاولة لإعادة تشكيل نفوذه فى المنطقة. وباتت الجزائر تسعى لتقويض الهيمنة الفرنسية من خلال تحالفات دبلوماسية جديدة، مما يظهر تصاعد المنافسة بين الدولتين.
يمكن القول إن دوافع التصعيد الراهن تتداخل فيها عدة عوامل: الذاكرة التاريخية التى لم تعالج بجدية، والتوترات السياسية حول ملفات الهجرة والسيادة، والتحولات الاقتصادية الجيوسياسية، والتنافس الإقليمى الذى بات أكثر وضوحا. كما أن تصريحات رسمية مثل تلك التى أدلى بها "ماكرون"، وردود الفعل الجزائرية عليها، تؤكد أن غياب الاعتراف الرسمى الفرنسى بجرائم الماضى يضع حواجز صلبة أمام بناء شراكة متينة، ويجعل من التاريخ قضية مركزية لا مفر منها.
فى هذا الإطار، تبدو العلاقة بين البلدين معقدة أكثر من مجرد صراع سياسى أو تاريخى، بل هى مزيج معقد من الرموز، والهوية، والمصالح، مما يجعلها عرضة للتقلبات والصراعات فى كل منعطف. لذلك، فإن بناء علاقة جديدة تتطلب جهودا حقيقية لمعالجة ملفات الماضى، وفهما عميقا للطبيعة الديناميكية للتفاعلات السياسية، والاقتصادية، والثقافية بين البلدين.
ثالثًا- التحولات الراهنة: لماذا تصاعدت التوترات مجددا بين الجزائر وفرنسا؟
بلغ التصعيد بين فرنسا والجزائر مستوى غير مسبوق فى عام 2025، حين اعتقلت السلطات الفرنسية فى مارس أحد الموظفين فى القنصلية الجزائرية بباريس، على خلفية علاقته المزعومة بالمعارض الجزائرى أمير دى زى، مما اعتبرته الجزائر خرقا صريحا للأعراف الدبلوماسية. وجاء الرد الجزائرى سريعا، بطرد 12 دبلوماسيا فرنسيا فى 14 أبريل، ثم تبعته فى 11 مايو بطرد 15 موظفا دبلوماسيا فرنسيا إضافيا، بدعوى تجاوزهم المهام الدبلوماسية الموكلة إليهم. وردت فرنسا بخطوات مماثلة، مما رفع من حدة التوترات بشكل غير مسبوق منذ عقود.
فى خضم هذه الأزمة، اندلعت حادثة جديدة عرفت إعلاميا بـ "أزمة مزدجن"، فى إشارة إلى منتج جزائرى شهير فى فرنسا يُستخدم فى صناعة الحلويات. ففى سبتمبر 2024، قامت فرنسا بحظر توزيع المنتج بدعوى عدم مطابقته لمواصفات الاتحاد الأوروبى لاحتوائه على مسحوق الحليب غير المصرح به. حيث اعتبرت الجزائر هذا القرار مسيسا ويستهدف المنتجات الجزائرية بشكل ممنهج، لا سيما أن المنتج يحظى بشعبية كبيرة لدى الجالية الجزائرية. تصاعدت الحملة فى مايو 2025 حين صادرت الجمارك الفرنسية كميات كبيرة من المنتج، مما أثار موجة غضب فى الجزائر، التى رأت فى القرار امتدادا للعقلية الاستعمارية ورفضا ضمنيا للحضور الرمزى الجزائرى فى فرنسا.
كما رفضت الجزائر التعاون الكامل فى ملف ترحيل المهاجرين غير النظاميين، انطلاقا من مبدأ السيادة ورفض التعامل مع الجالية بوصفها عبئا أمنيا، مما أدى إلى اشتباكات دبلوماسية متكررة مع باريس.
فى مقابل هذا التصعيد، لا تزال قنوات الحوار بين الطرفين محدودة التأثير، إذ ترجم ذلك فى تأجيل لقاءات قمة ثنائية، وتجميد مشاريع ثقافية وتعليمية مشتركة، بالإضافة إلى تقارير إعلامية فرنسية سلطت الضوء على الوضع الداخلى فى الجزائر بشكل سلبى، ما فُهم فى الجزائر كمحاولة ضغط سياسى وإعلامى. ورغم أن بعض الأصوات فى باريس دعت إلى احتواء التصعيد وفتح حوار صريح حول ملفات الذاكرة والمصالح، فإن الواقع السياسى فى كلا البلدين لم يكن مهيأ لتحقيق هذا الانفراج.
لم يلبث التصعيد الدبلوماسى فى ربيع 2025 أن أخذ منحى أكثر حدة فى الأشهر التالية، حيث تلاحقت سلسلة من التطورات التى عمقت الشرخ بين الجزائر وباريس، ودفعت العلاقة نحو مزيد من الانغلاق. البداية كانت فى 30 يونيو 2025، حين أصدرت محكمة جزائرية حكما بالسجن سبع سنوات على الصحفى الرياضى الفرنسى كريستوف جليز بتهمة "تمجيد الإرهاب". ورغم أن السلطات الجزائرية اعتبرت الحكم تطبيقا للقانون على أنشطة إعلامية تمس الأمن الوطنى، فإن باريس رأت فيه مؤشرا على تراجع خطير فى الحريات، خاصة أنه جاء فى سياق مناخ سياسى متوتر, مما عزز القناعة الفرنسية بأن القضاء يستخدم أحيانا كورقة ضغط فى الخلافات الدبلوماسية.
بعدذلكبيومينفقط،وفى1يوليو2025،أكدتمحكمةالاستئنافالجزائريةالحكمالصادربحقالكاتبالفرنسى–الجزائرى بوعلامسنسالبالسجنخمسسنواتبتهمة"تقويضالوحدةالوطنية". هذهالقضية،التى أثارتمنذبدايتهافى2024انتقاداتدولية،كانتبمثابةاختبارآخرلقدرةالبلدينعلىالفصلبينالملفاتالسياسيةوالقضائية،إذاعتبرتباريسأنالحكمتعبيرعنتضييقمتزايدعلىحريةالتعبير،بينماشددتالجزائرعلىأنالأمريتعلقبمسائلداخليةلاتقبلالإملاءاتالخارجية. ترافقذلكمعموجةتعاطفواسعةفى الأوساطالثقافيةوالإعلاميةالفرنسية،عززتبدورهاالتوترالرمزى المتبادل.
ولمتمضأسابيعحتىدخلالخلافمرحلةجديدةمعإعلانباريس،فى6 أغسطس2025،تشديدشروطمنحالتأشيراتللدبلوماسيينالجزائريين،فى خطوةربطتهارسميابرفضالجزائرالتعاونفى ملفترحيلالمهاجرينغيرالنظاميين. هذهالخطوةفهمتفى الجزائرعلىأنهامحاولةللضغطعبرالمسارالإدارى والدبلوماسى،فردتالحكومةالجزائريةسريعا،فى7أغسطس2025،بإنهاءاتفاقيتينثنائيتينتضمنتاإلغاءالتسهيلاتالممنوحةلحاملى الجوازاتالدبلوماسيةوالخاصة،وهومامثلتطبيقاصارمالمبدأ "المعاملةبالمثل" وأغلقماتبقىمنقنواتالاتصالالمرنةبينالعاصمتين.
علىالصعيدالإقليمى،جاءتهذهالتطوراتفى وقتكانتفيهالجزائرتواجهبيئةخارجيةأقلودية،إذحظى المغربخلالصيف2025بدعممتزايدمنقوىأوروبيةوغربية،وعلىرأسهافرنسا،لمخططالحكمالذاتى فى الصحراءالغربية،وهوماعززشعورالجزائربالعزلةالجيوسياسيةوأضعفقدرتهاعلىكسبدعملموقفهاالتقليدى الداعى إلىتنظيماستفتاءتقريرالمصير. هذاالتحولالإقليمى أضفىبعداجديداعلىالأزمةالثنائية،حيثلمتعدمقتصرةعلىملفاتالذاكرةوالهجرةوالتأشيرات،بلامتدتلتشملتوازنالقوىفى شمالإفريقيا،وأعطتللخلافاتبعدًااستراتيجيًايعقدأى مسارللتهدئةفى المدىالقريب.
خلاصة القول، إن التوترات الأخيرة بين الجزائر وفرنسا لا تعكس فقط أزمات آنية، بل تكشف عن خلل هيكلى فى العلاقة الثنائية، يستند إلى تاريخ ثقيل لم يحسم، وتضارب فى المصالح والرؤى. لقد أصبحت هذه العلاقة أكثر عرضة للاشتعال، وكل أزمة جديدة تبدو كأنها تفتح الجرح نفسه من جديد. وفى ظل غياب إطار واضح لإعادة بناء الثقة على أسس الندية والاحترام، تظل العلاقة محكومة بمنطق التصعيد والرد، بدلا من التفاهم والتكامل، وتنتقل من شراكة تاريخية إلى حالة من التعايش المتوتر والهش، فهذه العوامل تظهر مدى تعقيد العلاقة وتشابك أبعادها، لكن تبقى التساؤلات قائمة حول مآلات هذا المسار المتوتر:
فهل تملك باريس والجزائر الإرادة السياسية الكافية لتفكيك عقد الماضى وبناء علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، أم إن التاريخ سيظل يحكم هذه العلاقة بمنطق الذاكرة الجريحة والمصالح المتناقضة؟
ختامًا، فإن العلاقة بين الجزائر وفرنسا لم تكن يوما علاقة ثنائية طبيعية، بل هى تجسيد لعقد تاريخية متوارثة، تتشابك فيها الذاكرة مع المصالح، والرمزية مع الحسابات الواقعية. وعلى امتداد العقود، لم تنجح محاولات التهدئة أو المصالحة فى تحويل هذا الإرث المشحون إلى أساس لبناء شراكة مستقرة أو احترام متبادل، بل ظل الماضى حاضرا فى كل محطة خلاف، يعيد تشكيل الحاضر، ويقيد آفاق المستقبل.
لقد بينت المسارات الأخيرة أن الأزمة ليست ظرفية، ولا مجرد رد فعل سياسى، بل انعكاس لانعدام الثقة، وتباين عميق فى الرؤى إلى الذات والآخر. وبينما تحاول الجزائر إعادة تعريف موقعها الإقليمى والدولى، على أساس السيادة الكاملة وتعدد الشراكات، لا تزال فرنسا تُعيد تموضعها فى فضاء فقد فيه نفوذها التقليدى كثيرا من بريقه. ومع بروز فاعلين جدد فى المنطقة، وتبدل أولويات الداخل الفرنسى، تبدو اللحظة الراهنة اختبارا حقيقى: إما لطى صفحة الإملاء التاريخى، أو لترسيخ قطيعة مقنعة تتكرر بأشكال مختلفة.
وفى غياب مراجعة صريحة، واعتراف متبادل بنقاط القوة والجرح، ستظل العلاقة بين البلدين رهينة توتر مزمن، قد يتبدل شكله، لكنه لن يغيب عن المشهد. فالمصالحة لا تفرض، والشراكة لا تصطنع، ما لم تبن على إرادة متكافئة، تعترف أولا أن ما يربط البلدين ليس الماضى فقط، بل الحاجة إلى صياغة مستقبل لا يدار بظله.
المصادر الإنجليزية:
The Guardian. (2025, March 27). French-Algerian author Boualem Sansal sentenced to five years in prison. تم الاسترجاع من
https://www.theguardian.com/books/2025/mar/27/french-algerian-author-boualem-sansal-sentenced-to-five-years-in-prison
PEN International. (2025, March 27). Algeria: Novelist Boualem Sansal sentenced to five years in prison. PEN International. https://www.pen-international.org/news/algeria-novelist-boualem-sansal-sentenced-to-five-years-in-prison
Dw,Knipp, K. (2025, April 16). French-Algerian ties: Tensions escalate into diplomatic crisis. DW. Retrieved from https://www.dw.com/en/french-algerian-ties-tensions-escalate-into-diplomatic-crisis/a-72261411
AP News
Associated Press. (2021, October 3). Algeria blasts French leader, bans flights, recalls diplomat. Retrieved from https://apnews.com/article/europe-africa-france-paris-emmanuel-macron-6d41cb76e039149618f3c5019512f0f3
Reuters. (2025, July 1). Algerian court upholds five-year jail term for French-Algerian writer. Retrieved from https://www.reuters.com/business/media-telecom/algerian-court-upholds-five-year-jail-term-french-algerian-writer-2025-07-01/
France 24. (2025, April 6). France and Algeria continue talks in effort to repair fractured ties. Retrieved from https://www.france24.com/en/france/20250406-france-algeria-continue- talks-in-effort-to-repair-fractured-ties
Associated Press. (2025, July 2). French sportswriter sentenced to 7 years for 'glorifying terrorism' in Algeria. Retrieved from https://apnews.com/article/eeff6d2dfe9cfc9b116125179c2b8938
France 24. (2025, May 14). France to expel Algerian diplomats in tit-for-tat move as relations hit new low. Retrieved from https://www.france24.com/en/france/20250514-france-expel-algerian-HYPERLINK "https://www.france24.com/en/france/20250514-france-expel-algerian-diplomats-tit-for-tat-move-relations-totally-blocked"diplomats-tit-for-tat-move-relations-totally-blocked
Reuters. France to tighten visa rules for Algerian diplomats as deportation dispute escalates. 6 August 2025. https://www.reuters.com/world/africa/france-tighten-visa-rules-algerian-HYPERLINK "https://www.reuters.com/world/africa/france-tighten-visa-rules-algerian-%20diplomats-deportation-dispute-escalates-2025-08-06" HYPERLINK "https://www.reuters.com/world/africa/france-tighten-visa-rules-algerian-%20diplomats-deportation-dispute-escalates-2025-08-06"diplomats-deportation-dispute-escalates-2025-08-06
Financial Times. Algeria buffeted by winds of change in North Africa. 8 July 2025. https://www.ft.com/content/f866bb2b-cda2-4073-b65b-8ba905f104a5
AP News. French sportswriter sentenced to 7 years for 'glorifying terrorism'. 30 June 2025. https://apnews.com/article/eeff6d2dfe9cfc9b116125179c2b8938
Reuters. Algerian court upholds five-year jail term for French-Algerian writer Boualem Sansal. 1 July 2025. https://www.reuters.com/business/media-telecom/algerian-court-upholds-five-year-jail-term-french-algerian-writer-2025-07-01
مصادر عربية:
- الشرق الأوسط، 17 مايو 2024، الجزائرتتحدىفرنسابشأنتسريباتعنتجميدأصولمسئولين. تمالاسترجاعفى6يوليو 2025. https://2h.ae/YXjE
- الشرق الأوسط، 20 يونيو 2025، كيف أثّرت التوترات السياسية على العلاقات التجارية بين الجزائر وفرنسا؟ تم الاسترجاع من https://aawsat.com/العالم-العربي/شمال-إفريقيا/5144128-كيف-أثّرت-التوترات-السياسية-على-العلاقات-التجارية-بين-الجزائر
- الجزيرة نت، 4 مايو 2025، فرنسا تعلق الاعتراف بمجازر سطيف بسبب الأزمة الدبلوماسية مع الجزائر. تم الاسترجاع من https://www.aljazeera.net/politics/2025/5/4/ فرنسا-تعلق-الاعتراف-بمجازر-سطيف-عام-1945
- الشرق، 14 أبريل 2025، توتر جديد بين الجزائر وفرنسا بعد اعتقال موظف قنصلى فى باريس. تم الاسترجاع من https://asharq.com/politics/122561/ علاقات-الجزائر-فرنسا-تعود-لأجواء-التوتر/
- وزير الخارجية الفرنسى يعتبر أن العلاقات مع الجزائر لا تزال "مجمدة تماما". تم الاسترجاع من فرانس 24، 11 مايو 2025، https://www.france24.com/ar/ فرنسا/20250511-باريس-الجزائر-فرنسا-توتر-العلاقات-دبلوماسية-مجمدة-توتر-ماكرون-تبون