تحليلات

محددات الهيدرو دبلوماسية الإقليمية فى رسم الاستراتيجية المائية.. إيران نموذجًا

طباعة

لا تقتصر تداعيات حرب الاثنى عشر يومًا على الجانب العسكرى والأمنى فقط، بل تمتد إلى قضايا جيوسياسية كبرى، وعلى رأسها دبلوماسية المياه والعلاقات العابرة للحدود المائية بين إيران وجيرانها فيما يتعلق بالموارد المشتركة. فصمود إيران خلال حربها مع إسرائيل، واحتفاظها باستقلالها فى مواجهة الهجمات الخارجية، قد يدفع بعض دول الجوار إلى تعزيز التفاعل مع إيران، خاصة فى ملف المياه. إلا أن بعض الدول الأخرى ذات العلاقات الواسعة مع أطراف منخرطة فى الحرب، قد تتبنى نظرة أمنية متزايدة تجاه إيران، باعتبارها طرفًا غير متوقع السلوك وصعب الوثوق به، على غرار الموقف الغربى.

أما داخليًا، فمن المحتمل أن يصبح موقف إيران من ملف المياه أكثر أمنيا بعد الحرب، وأن يُعاد تعريف الموارد المائية العابرة للحدود، مثل أنهار: هيلمند، أرس، وهریرود، باعتبارها بنى تحتية تتصل بالأمن القومى، وتتطلب اهتمامًا أكبر. وقد يؤدى ذلك إلى تقليص مرونة إيران فى المفاوضات المائية، وتشديد تمسّكها بحقوقها المائية. وبشكل عام، من المرجّح أن تتأثر دبلوماسية المياه الإيرانية مع كل من أفغانستان، وتركيا، والعراق، وأذربيجان بتداعيات الحرب على النحو التالى:

أولًا- آفاق دبلوماسية المياه مع أفغانستان:

تتشارك إيران وأفغانستان فى حوضى هيلمند وهریرود، وتحتل إيران فى كليهما الموقع الأدنى من مجرى النهر. ويُتوقع أن تتصرف أفغانستان بحذر واستقلالية أكبر من ذى قبل، منتهجةً سياسة تركّز على تعزيز مشاريعها المائية فى كلا الحوضين، مع اهتمام أقل بحقوق إيران المائية.

ومن المرجح أن تستغل الصين الفراغ الذى خلّفته سيطرة طالبان، عبر الاستثمار فى البنى التحتية المائية، كمنافس للهند، ولتوسيع نفوذها الأمنى فى آسيا الوسطى. فى المقابل، قد تنخرط باكستان فى "اللعبة المائية" فى أفغانستان، بهدف كبح النفوذ الهندى، والاستفادة من الوضع الجديد، بدعم من علاقتها الوثيقة بالصين.

ولمنع الوصول إلى طريق مسدود فى دبلوماسية المياه مع أفغانستان، خصوصًا فى ظل الظروف الراهنة، يمكن لإيران أن تتبنى عددًا من استراتيجيات تفعيل قنوات غير رسمية مع النخب والعرقيات المؤثرة فى أفغانستان، لا سيما الطاجيك والهزارة (دبلوماسية المسار الثاني)، وتقديم حوافز تشمل تجارة الكهرباء، والمواد الغذائية، والوقود مقابل تنظيم عادل لتقاسم مياه هيلمند وهریرود.إلى جانب إحياء دور المنظمات الإقليمية والدولية كوسطاء فنيين.خصوصًا تشجيع الصين وباكستان، اللتين تربطهما علاقات جيدة مع إيران، على أداء دور إيجابى وبنّاء فى دبلوماسية المياه، بدلًا من دعم المشاريع المائية الأحادية لأفغانستان.

ثانيًا- آفاق دبلوماسية المياه مع تركيا:

تتشارك إيران وتركيا فى حوض نهر أرس العابر للحدود، وتقع إيران فى موقع أدنى منه. بعد الحرب، قد تنظر تركيا إلى إيران كقوة إقليمية أكثر تأثيرًا، ولكن أيضًا كمنافس محتمل. ورغم استمرار العلاقات التجارية، إلا أن تركيا قد تتبنّى مقاربة أمنية وتنافسية وأكثر حذرًا تجاه الحدود، والمياه، والجغرافيا السياسية فى المنطقة.

ومن المحتمل أن تستخدم تركيا -فى المستقبل- أدوات مثل اللاجئين الأفغان، أو الطاقة، أو المياه، كوسائل ضغط إقليمية. وقد تسعى، مستغلةً تراجع الاهتمام الإقليمى بملف المياه، إلى تسريع مشاريع بناء السدود فى حوضى أرس ودجلة–الفرات، وربما تطمح إلى الهيمنة المائية وقيادة المنطقة مائيًا، من خلال تقويض دبلوماسية المياه الإيرانية عبر تعزيز نفوذها فى العراق لإقصاء إيران من مفاوضات المياه المشتركة، واستغلال ضعف ثقة الحكومة العراقية بمستقبل العلاقة مع إيران لتوسيع مشاريع المياه الثنائية أو الثلاثية مع العراق وسوريا.أو حتى فرض رقابة فنية ومائية مشددة على حوض أرس، وتوقيع اتفاقيات مائية جديدة مع أذربيجان تؤثر فى حصة إيران من مياه أرس.

كما أن إحياء دبلوماسية مياه نشطة ومتعددة المستويات مع تركيا يمكن أن يتضمن تفعيل القنوات الدبلوماسية الرسمية وغير الرسمية، واقتراح عقد اجتماعات ثلاثية (إيران–تركيا–العراق) لحوض دجلة–الفرات، ورباعية (إيران–تركيا–أذربيجان–أرمينيا) لحوض أرس.وتعزيز أدوات المراقبة الفنية والهيدرولوجية للسيول، وانخفاض تدفق الأنهار الحدودية، لاستخدامها كأداة تفاوضية.بالإضافة إلى توسيع التعاون المائى مع دول المصب فى حوضى دجلة–الفرات وأرس، لمواجهة الهيمنة التركية.وقد تعزز العلاقات الدبلوماسية مع الصين وروسيا والمنظمات الدولية لزيادة الثقل الفنى والقانونى لإيران.

ثالثًا- آفاق دبلوماسية المياه مع العراق:

يتشارك العراق وإيران فى حوض دجلة–الفرات، وتقع إيران فى الموقع الأعلى من مجرى النهر. وبعد الحرب الإيرانية-الإسرائيلية، قد يجد العراق نفسه بين قوتين متنافستين –إيران وتركيا– وسيسعى للتوازن بين علاقته التاريخية والدينية مع إيران، وحاجته الحيوية إلى تأمين تدفق المياه عبر التعاون مع تركيا.ولتحقيق هذا التوازن، قد يتبنى العراق سياسة مزدوجة وحذرة تجاه إيران، سواء بتوسيع التعاون الفنى والسياسى للحفاظ على تدفق المياه المشتركة.

ويرجح مواصلته التشاور حول الأنهار العابرة للحدود، وتحديد حصة العراق من نهر الزاب الصغير، مع الضغط لتثبيت حقوقه المائية فى نهرَى الكرخة والكارون، اللذين يدعى انخفاض تدفقهما، من أجل المطالبة بحصص مائية أكبر فى الأحواض المشتركة، استنادًا إلى دوره خلال الحرب وكون إيران شريكًا استراتيجيًا، قد تدفع باتجاه إحياء ملف شط العرب (أروند رود) ضمن اتفاقيات أمنية–حدودية، وليس فقط فى الإطار البيئى.

ونظرًا لأزمة المياه الحادة فى العراق، فإن أى انخفاض إضافى فى تدفق المياه من إيران، خاصة من الكرخة أو الزاب الصغير، قد يؤدى إلى أزمات اجتماعية واحتجاجات واسعة. وبينما قد تتعامل إيران مع ملف المياه بمنظور أمنى، فإن العراق سيتبنى مقاربة مطالبات مدفوعة بحاجات شعبه.

وللحفاظ على دورها فى دبلوماسية المياه مع العراق، يمكن لإيران استخدام أدوات سياسية، مثل الجماعات المقربة منها، لتلطيف الأجواء التفاوضية، والامتناع عن إنكار انخفاض تدفق المياه، وبدلًا من ذلك، تقديم تفسيرات قائمة على نماذج إدارة المياه الجديدة والتكيف المناخى. إلى جانب تشجيع العراق على توجيه مطالبه المائية نحو تركيا، وتقديم نفسها كشريك فنى وبنّاء،وإعطاء الأولوية لمشاريع البنية التحتية المشتركة، مثل محطات المراقبة، وشبكات الإنذار المبكر من الفيضانات، ومشاريع النقل المائى بين الأحواض.

 

رابعًا- آفاق دبلوماسية المياه مع جمهورية أذربيجان:

تتقاسم إيران وجمهورية أذربيجان حوض نهر أرس، ويقع كلا البلدين فى موقعَى وسط وأسفل مقارنة بتركيا. فى أعقاب الحرب، من المرجّح أن تتعاون أذربيجان مع تركيا و"إسرائيل" –التى تربطها بها علاقات وثيقة– لتنفيذ مشاريع مائية مشتركة فى حوض أرس، مثل بناء السدود، ومراقبة المياه، وتحويلها، وتخصيص الموارد.

وقد تساعد "إسرائيل" أذربيجان باستخدام تقنيات حديثة فى إدارة المياه، كالرى الذكى، وتحلية المياه، والإدارة المتقدمة، وهذا قد يقلص من الدور الفنى الإيرانى فى هذه المشاريع، ويستبدل به تأثيرًا إسرائيليا. ومع توسع مشاريع أذربيجان المائية، خاصة فى المناطق المحررة مؤخرًا فى قره باغ، قد تُوجّه اتهامات رسمية أو إعلامية لإيران باستخدام غير قانونى أو احتكارى للمياه المشتركة، خصوصًا فيما يتعلق بمشاريع نقل المياه إلى سهول أرس، وسكان تبريز، وبحيرة أرومية، وهى انتقادات طُرحت سابقًا بصورة غير رسمية. وقد تلجأ أذربيجان إلى المحافل الدولية، كاتفاقيات هلسنكى وآليات الأمم المتحدة الخاصة بالمجارى المائية الدولية، لتقديم شكاوى ضد إيران.

وفى حال تراجعت دبلوماسية المياه فى حوض أرس، ستقوى إيران تعاونها مع أرمينيا، وزيادة حضورها فى مشاريع المياه فى المنبع داخل الأراضى الأرمينية.أو ستسعى لتحويل فائض المياه الأرمينية إلى إيران، لتعويض أى فراغ مائى محتمل فى الموقعَين الأوسط والأدنى من الحوض.بالإضافة إلى استخدام المنظمات الإقليمية أو التعاون الثلاثى مع أرمينيا وجورجيا ضمن حوض كورا–أرس الأوسع، لموازنة الضغوط المائية المحتملة.

ومن الواضح أن هذه الإجراءات تُعد خطوات مؤقتة تهدف إلى تعزيز دبلوماسية مياه متعددة الأطراف فى جنوب القوقاز، إلى حين عودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات، وضمان حصة عادلة لإيران والدول الأخرى.

طباعة

    تعريف الكاتب

    د. شيماء المرسي

    د. شيماء المرسي

    مديرة وحدة الرصد والترجمة بالمنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية/ أفايب