مع التقدم المتسارع فى تقنيات الذكاء الاصطناعى، لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات لتحسين الأداء أو تسهيل الحياة، بل أصبحت فى بعض الحالات قراراتها تساوى الحياة أو الموت. فى ميدان الحرب الحديثة، ظهرت فئة جديدة من الأسلحة تُعرف بـ"الخوارزميات القاتلة"؛ أنظمة مؤتمتة قادرة على رصد الأهداف، وتقييم التهديد، واتخاذ القرار بالقتل دون تدخل بشرى مباشر. هذا التحول التكنولوجى أثار مخاوف أخلاقية واستراتيجية، وفتح الباب أمام نمط جديد من الصراع تديره الآلة بدم بارد ودقّة تفوق قدرة الإنسان.
فقد كشفت سلسلة من الاغتيالات الدقيقة التى استهدفت شخصيات محورية داخل إيران فى الثالث عشر من يونيو 2025، عن نقلة نوعية فى أدوات الصراع. لم تكن هذه العمليات مجرّد عمل ميدانى تقليدى أو حتى ضربة استخباراتية اعتيادية، بل كانت إعلانًا عن ولادة مرحلة جديدة من الحرب، حيث تتحول الخوارزميات إلى أدوات قتل، وتُدار المعركة من قبل أنظمة ذكاء اصطناعى تحلل وتقرّر وتنفّذ.
فى هذه الحرب غير المعلنة أو ما بات يطلق عليها "المظلمة"، لا تُرصد الجبهات بالعين المجردة، ولا تُسمع أصوات الانفجارات. كل ما يحدث هو اختفاء هدف، واضطراب استخباراتى داخلى، ورسالة ضمنية: القاتل لم يكن فردًا، بل منظومة رقمية تعرف كل شيء عنك. من جهتها إسرائيل، التى لطالما اتبعت منهج الردع التقليدى، باتت الآن تخوض حربًا خفية داخل البنية الرقمية والمعرفية للخصم. النخب، والعقول، والمهندسون، باتوا فى مرمى هذه الخوارزميات التى تتقن التعرّف على الأنماط السلوكية، ورصد التحركات، والتنبؤ بالقرارات قبل وقوعها، ولعلّ ما جرى فى أيلول الماضى، حين استهدفت تفجيرات أجهزة المناداة (البيجر) عناصر من حزب الله اللبنانى، يُعدّ مثالًا صارخًا على هذا النمط من الهجمات المؤتمتة التى تديرها الخوارزميات عن بُعد وبلا هوادة.
خلال الأسابيع الأخيرة، تعرّض عدد من القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين لعمليات اغتيال شديدة الدقة. ما ميّز هذه العمليات لم يكن فقط توقيتها المحسوب أو قدرتها على تجاوز أنظمة الحماية، بل حقيقة أن تنفيذها لا يمكن نسبته بسهولة إلى فرقة ميدانية أو عميل بشرى. بل كانت نتيجة لتكامل شبكات الذكاء الاصطناعى التى تقرأ تفاصيل الحياة اليومية للهدف -من خطواته الأولى، إلى حركات عينيه، إلى أنماط استخدام هاتفه- وتحولها إلى إشارات إنذار متقدمة. هذه الخوارزميات لا تقتل شخصًا فقط، بل تزعزع بيئة بأكملها، وتفكك شبكات السلطة، وتزرع الخوف فى كل ما هو مألوف.
تعتمد إسرائيل فى هذه الحرب على تحالف غير مرئى بين وحداتها الاستخباراتية، وعلى رأسها الوحدة 8200، وبين عدد من شركات التكنولوجيا الخاصة التى تطور أدوات تحليل سلوكى متقدمة، وتقنيات تعلم آلى قادرة على التكيف اللحظى مع البيئة العملياتية. الأقمار الصناعية، والتعرف على الوجه، وتحليل الصوت، وربط البيانات المفتوحة مع البيانات الاستخباراتية المغلقة، كلها أدوات تنصهر فى شبكة قتل لا تعتمد على السلاح التقليدى، بل على معرفة العدو أكثر مما يعرف نفسه.
فى السنوات الماضية، استخدمت إسرائيل أدوات مشابهة فى عمليات محدودة داخل لبنان ضد قادة من حزب الله، لكن الانتقال إلى قلب المؤسسة الإيرانية -سواء عبر استهداف قادة الحرس الثورى أو العلماء المتخصصين فى الطيران السيبراني- يشير إلى تحوّل نوعى فى العقيدة الأمنية الإسرائيلية. لم تعد تل أبيب تنتظر التهديد كى ترد، بل تسعى اليوم إلى ما يمكن تسميته بـ "الوقاية الخوارزمية": استراتيجية تعتمد على استباق التهديدات وتدميرها وهى لا تزال فكرة، أو مشروعًا فى طور التكوين.
هذا التصعيد لا يُفهم خارج السياق الإقليمى المتغير. تراجع دور الوساطة الأمريكية التقليدية منح إسرائيل حرية أكبر فى المبادرة، كما أن تسارع إيران فى بناء قدرات هجومية فى الفضاء السيبرانى شكّل دافعًا لإسرائيل لتبنى نهج هجومى استباقى أكثر جرأة. إلى جانب ذلك، يبدو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تسعى لتحويل هذه الأدوات إلى نموذج تصديرى، تبيعه للعالم كسلاح جاهز للاستعمال فى الحروب الحديثة، دون الحاجة إلى جيوش أو قواعد متقدمة.
لكن هذه الطفرة التكنولوجية، رغم دقتها وفعاليتها، تطرح أسئلة ثقيلة فى ميزان الأخلاق والقانون. ماذا لو أخطأت الخوارزمية التقدير؟ من يُحاسب على قتلٍ تم اتخاذ قراره ضمنيا داخل نظام لا يعرف الرحمة ولا يفهم السياق؟ ما هى حدود المسئولية عندما تتحول الحرب إلى عملية حسابية باردة لا يمر عبرها الضمير؟ وهل يصبح للخصم الحق فى تطوير خوارزمياته الخاصة، أم إن السباق سيكون نحو التمويه البشرى والكمائن المعرفية فى وجه العقل الصناعى؟
إيران، التى لطالما برعت فى استخدام "الكمائن البشرية" ومهارات الميدان، قد تجد نفسها الآن أمام خيار صعب: إما اللحاق بركب الخوارزميات القاتلة، أو تطوير آليات مقاومة جديدة تعيد العنصر البشرى إلى قلب المعركة. ربما ستكون المعركة المقبلة معركة برمجيات ضد برمجيات، وبيانات ضد بيانات، فى سباق نحو من يملك قدرة القتل الذكى الأسرع والأدق.
فى النهاية، نحن لا نعيش مجرد تطور فى أدوات القتال، بل ثورة فى مفاهيم الحرب ذاتها. لم يعد قرار القتل محصورًا فى يد الجنرال، بل صار جزءًا من منظومة تستنتج وتقرّر وتضغط الزناد الرقمى. وفى هذا السياق، فإن من يتحكم بالخوارزمية، يتحكم بالمصير. الحروب المقبلة لن تُخاض فقط بالسلاح، بل بالمعرفة -والمعرفة باتت خوارزمية.