تحليلات

دلالات مبادرة المجلس الرئاسي ومأزق التوافق الوطني في ليبيا

طباعة

بعد الثورة التي أطاحت بنظام القذافي عام 2011، دخلت ليبيا في فترة معقدة من الصراعات الداخلية والتشرذم السياسي الذي لم يتم حتى الآن تجاوز تداعياته. فقد شهدت البلاد انقسامات حادة بين مختلف الأطراف السياسية والعسكرية، ما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار المستمر، وتعدد مراكز النفوذ، وضعف مؤسسات الدولة الرسمية. ومع تصاعد التوترات عقب عام 2021، تفاقمت الأزمة السياسية وسط صراعات بين مجلس النواب في الشرق والمجلس الأعلى للدولة في الغرب، وتباين واضح في المصالح السياسية التي ترتبط بأطراف داخلية وخارجية. أدت هذه الخلافات إلى عرقلة المسار الدستوري وتأجيل الانتخابات الرئاسية، مما زاد من فقدان الثقة في العملية السياسية وجعل البلاد أكثر عرضة لتصعيد الصراعات المسلحة والانقسامات الاجتماعية.

في ظل هذا المشهد المضطرب، سعى المجلس الرئاسي الليبي في عام 2022 إلى إطلاق مبادرة سياسية تهدف إلى كسر حالة الجمود والانقسام بين الجهات المتصارعة، محاولًا فتح قنوات حوار تشاركية بمشاركة المبعوث الأممي، لإنهاء المرحلة الانتقالية ووضع دستور دائم وإجراء انتخابات شاملة. إلا أن المبادرة اصطدمت بعدة تحديات، منها محدودية سلطات المجلس الرئاسي، وعدم توافق الأطراف المعنية على المشاركة، واستمرار التمسك بمواقع النفوذ، مما أدى إلى إضعاف فرص نجاحها.

نحاول أن نتناول تحليلًا معمقًا للسياق السياسي والأمني الذي يعيق التوافق الوطني في ليبيا بعد عام 2021، ويقيّم جهود المجلس الرئاسي في إطلاق مبادرته السياسية خلال 2022، كما يستعرض المعوقات البنيوية والسياسية التي تحول دون تحقيق توافق وطني شامل. كما نبحث في الإمكانيات والفرص المتاحة لتجاوز الانسداد السياسي، من خلال تسليط الضوء على دور المؤسسات المحلية، وضغوط الشارع، والإرادات الإقليمية والدولية، التي قد تسهم في بناء مسار مستدام لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا.

أولا- السياق العام للمشهد الليبى بعد 2021:

بعدسقوط نظام القذافي في 2011، استمرت ليبيا في دوامة الصراعات والتشرذم السياسي، حتى وصلت الأزمة عام 2021 إلى مرحلة تراكمية من الجمود السياسي والتقاطع المعقد بين المصالح الداخلية والخارجية. فبعد 2021، لم تستطع جهود مجلس النواب لتنظيم انتخابات شاملة تجاوز العقبات البنيوية، مثل الخلافات حول القاعدة الدستورية والنزاعات على أهلية الترشح، خصوصًا بعد السماح بعودة رموز النظام السابق، مما عمّق الانقسامات وأضعف فرص التوافق الوطني. وزادت خطوة عبدالحميد الدبيبة في الترشح للرئاسة رغم وعوده بعدم المشاركة من تفاقم الأزمة، فبدلًا من بناء جسور بين السلطة التنفيذية والتشريعية، أعادت إنتاج التوترات، خاصة مع ضعف دور الأمم المتحدة بعد استقالة مبعوثها، وتراجع تأثير المجتمع الدولي على الأطراف المتنازعة.

عام 2022 كشف هشاشة التحالفات السياسية، بعدما حاول فتحي باشاغا أن يقدم نفسه كخيار بديل يوحد الصفوف، لكنه فشل في اقتحام طرابلس، ما أعاد تجدد العنف المسلح وتغيير تحالفات الفصائل المسلحة إلى حسابات ضيقة غير وطنية. كان الصراع بين الدبيبة وباشاغا أشبه بصراع على السيطرة والشرعية والموارد، أكثر مما كان صراعًا حكوميًا بحتًا، وسط غياب وحدة أمنية واضحة وانهيار تدريجي للمؤسسة العسكرية، رغم الاتفاق على وقف إطلاق النار عام 2020 وجهود لجنة 5+5 لتهدئة الأوضاع وسحب القوات الأجنبية.

شهدت المدن الغربية، مثل مصراتة، والزنتان، والزاوية تفاقمًا في النزاعات بين الفصائل المسلحة التي تحولت إلى مراكز نفوذ متنافسة يحكمها منطق القوة والسلاح خارج إطار الدولة. لعبت هذه الميليشيات دورًا رئيسيًا في تعطيل الانتخابات، سواء من خلال حصار المؤسسات الرسمية أو التهديد بتأجيلها بالقوة، وسط ضعف الدولة عن فرض هيمنتها التنفيذية على الأرض. استخدام الدبيبة للطائرات المسيرة ضد قوات باشاغا عزز من عسكرة النزاع السياسي، وهو ما يعكس تحول الحلول السياسية إلى انتظار معادلات أمنية لم تُحسم بعد.

على الجانب الشرقي، بدا المشهد أكثر تشظيًا، حيث استمر مجلس النواب في دعم حكومة باشاغا سياسيًا، في حين اتخذت القيادة العامة موقفًا حذرًا، متمثلًا في رفضها المشاركة في هجمات على طرابلس، وعيا بمخاطر العودة إلى حرب شاملة قد تقوض ما تبقى من استقرار. إذ لم تعد الموارد السياسية والإقليمية تسمح بإعادة تجربة عامي 2019-2020.

وسط هذه الفوضى، حاول المجلس الرئاسي أن يكون منصة حوار ووساطة وطنية من خلال مبادرة أطلقت في 2022، لكنها اصطدمت بمحدودية سلطاته وتآكل الثقة بين الأطراف، التي تمسكت بمواقع نفوذها الخاصة، مع غياب إرادة سياسية حقيقية لتقديم تنازلات. ومع غياب أفق انتخابي واضح، واحتدام التنافس على الشرعية، يظل احتمال انزلاق البلاد إلى مواجهات جديدة مرتفعًا، ما لم تنجح القوى الوطنية والدولية في وضع خارطة طريق شاملة تجمع بين الواقعية والتوافق.

ثانيا- مبادرة المجلس الرئاسي في 2022 وتطوراتها:

في عام 2022، أطلق المجلس الرئاسي الليبي مبادرة سياسية تهدف إلى كسر حالة الجمود والانقسام بين شرق البلاد وغربها، وذلك في ظل الخلاف المستمر بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. ووفقًا لما جاء في بيان المجلس الرئاسي، فقد سعت المبادرة إلى فتح قنوات التشاور بين الطرفين، بمشاركة المبعوث الأممي، من أجل تحقيق توافق وطني يُفضي إلى إنهاء المرحلة الانتقالية، وإرساء دستور دائم وإجراء انتخابات.

لكن، وعلى الرغم من الطابع الإيجابي الظاهري للمبادرة، إلا أن تنفيذها واجه عدة تحديات. أبرز هذه التحديات محدودية الدور السياسي للمجلس الرئاسي نفسه، الذي يُعتبر، وفقًا للاتفاق السياسي، هيئة ذات دور شرفي لا يملك سلطة اتخاذ قرارات ملزمة. كما أن المجلس لا يمتلك نفوذًا ميدانيًا أو دعمًا عسكريًا يمكنه من فرض رؤيته أو الضغط على الأطراف المتصارعة.

في هذا السياق ظهرت مطالبات شعبية تدعو المجلس الرئاسي إلى اتخاذ خطوات أكثر حزمًا، تصل إلى حل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، إلا أن هذه المطالبات تتجاوز صلاحياته. من جهة أخرى، أبدى المبعوث الأممي تأييده للمبادرة، داعيًا إلى لقاء يجمع المجالس الثلاثة (الرئاسي، والنواب، والأعلى للدولة) من أجل الوصول إلى توافق سياسي. في المقابل لم يُصدر مجلس النواب موقفًا رسميًا واضحًا، بينما رفض المجلس الأعلى للدولة المشاركة في المبادرة، ما عكس استمرار الانقسام، ومثّل خطوة أخرى نحو التصعيد بدلا من الانفراج.

وبالتالي فإن المبادرة، رغم نواياها التصالحية، قد تتحول إلى عامل إضافي في تأزيم المشهد الليبي، خاصة إذا استمر الأطراف في رفض الانخراط فيها، أو استخدامها كورقة ضغط ضمن صراعات النفوذ المستمرة.

ثالثا- مأزق التوافق الوطني معوقات بنيوية وسياسية:

على الرغم من المحاولات المتعددة لإطلاق المسارات والمبادرات لتحقيق التوافق بين الأطراف والمؤسسات في ليبيا، فإن الانقسام وعدم التوافق ظل قائمًا بفعل معوقات بنيوية وسياسية متجذّرة في بنية الدولة الليبية ما بعد 2011. وهذه الانقسامات ليست فقط على مستوى المؤسسات المتمثلة في برلمان في الشرق وحكومة في الغرب، بل لها تأثير على الشرعية والمسار الدستوري، ويظهر ذلك من خلال تعثّر المسار الدستوري بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة. أهم نقاط الخلاف تتعلق بكيفية انتخاب رئيس الدولة والمؤهلين للترشح لهذا المنصب. المجلس الأعلى للدولة علّق تواصله مع البرلمان بعد إقرار البرلمان لقانون إنشاء محكمة دستورية في بنغازي، وطلب رئيس مجلس الدولة أن يتراجع البرلمان عن هذا القانون لكي يعود للحوار، وهو ما يعكس معوقات في البنية السياسية، وبالتالي يشكل عائقًا أمام شرعية القرار السياسي.

أما على مستوى المؤسسة العسكرية، فليبيا تشهد صعوبة في التركيبة، حيث توجد مجموعات من القوات الرسمية والميليشيات، مما يعقّد توحيد البنية العسكرية. ولعبت الفصائل المسلحة دورًا معوقًا لأي توافق سياسي، حيث تحولت إلى أدوات ضغط سياسي ومراكز قوى مستقلة تتحكم في القرار المحلي بعيدًا عن مؤسسات الدولة الرسمية. ورغم تأسيس اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) والاتفاق على وقف إطلاق النار في 2020، إلا أن غياب جهاز أمني موحد ظل أحد أبرز المعوقات أمام فرض سلطة الدولة وهيبتها على الأرض، مما جعل أي تسوية سياسية رهينة لمواقف المجموعات المسلحة ومصالحها الضيقة.

من جهة أخرى، لعب غياب الإرادة السياسية الحقيقية، المتمثلة في عدم تقديم تنازلات من الأطراف، دورًا في إطالة أمد الأزمة، حيث تمسكت النخب السياسية بمواقعها ومصالحها، دون إدراك لحجم التهديد الذي يمثله الجمود الحالي على مستقبل البلاد. كما أن الصراع على الموارد، خاصة النفط والمال العام، زاد من تمترس كل طرف خلف منطق الربح السياسي بدلًا من التنازل لصالح حل وطني.

كل هذه العوامل جعلت من التوافق الوطني مسارًا معقدًا، يتطلب معالجة جذرية لا تقتصر على التسويات السياسية السطحية، بل تتطلب إعادة بناء الثقة بين الأطراف، وتفعيل العدالة الانتقالية، وتهيئة بيئة دستورية وأمنية قابلة لإجراء انتخابات نزيهة وشاملة.

رابعًا- فرص تجاوز الانسداد السياسي:

 

 رغم تعقيد المشهد الليبي واستمرار الانقسام بين المؤسسات، لا تزال هناك فرص واقعية يمكن البناء عليها لتجاوز حالة الجمود السياسي. من أبرزها استمرار عمل اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) والتزامها بتحقيق وقف إطلاق النار، إضافة إلى إمكانية الدفع نحو توحيد القوات الرسمية وغير الرسمية (بما في ذلك المجموعات المسلحة) تحت مظلة مؤسسة عسكرية واحدة. وهو ما قد يسهم في توفير حد أدنى من الاستقرار الأمني يُمهّد لإعادة إحياء المسار السياسي متى توفرت الإرادة اللازمة.

 

علاوة على ذلك، تشهد الساحة الليبية مؤشرات على ضغوط شعبية متزايدة، ظهرت في مظاهرات شهدتها مدن، مثل طرابلس، وبنغازي، وسبها، عبّرت عن رفضها لاستمرار النخب السياسية في مواقعها دون أفق انتخابي واضح، لا سيما بعد تأجيل الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2021، وما ترتب على ذلك من فقدان الثقة بالسلطات القائمة. وقد يشكل هذا المزاج الشعبي أداة ضغط فعالة في يد البعثة الأممية والمجتمع الدولي لدفع الأطراف نحو تقديم تنازلات متبادلة.

وفي السياق ذاته، تُبرز بعض المبادرات الداخلية – مثل "ملتقى الزاوية" أو مساعي المجلس الأعلى للدولة ومجلس النواب لتشكيل لجنة موحدة لإعداد القاعدة الدستورية – إدراكًا متزايدًا بخطورة استمرار الانقسام. وإذا ما تبلورت هذه الجهود في مبادرة وطنية شاملة، برعاية إقليمية من جامعة الدول العربية أو الاتحاد الإفريقي، فقد تُسهم في خلق مسار ليبي-ليبي أكثر استقلالية عن التجاذبات الخارجية.

ختامًا، فإن تجاوز الانسداد السياسي في ليبيا لا يرتبط فقط بتوفر الفرص أو المبادرات المطروحة، بل يتوقف على مدى استعداد الأطراف المحلية للانخراط في عملية سياسية جادة وشفافة. هذه العملية ينبغي أن تقوم على أسس دستورية واضحة وتحظى بقبول شعبي ومؤسسي واسع. كما أن وجود جهة محايدة تشرف على تنفيذها يعد شرطًا أساسيًا لضمان شموليتها ومصداقيتها. ولا يمكن إغفال أهمية بناء الثقة بين الفرقاء الليبيين، وتقديم تنازلات متبادلة تفتح الطريق نحو تسوية مستدامة. بذلك فقط يمكن فتح أفق حقيقي لإعادة بناء الدولة وتحقيق الاستقرار المنشود.

المصادر:

1-  د. خالد خميس السحاتي، "تطورات المشهد الليبي: بين تجاذبات الداخل وصراعات القوى الخارجية," آفاق استراتيجية، العدد 3، يونيو 2021.

2-  "خلط الأوراق: هل يستعد المجلس الرئاسي الليبي لطرح مبادرة جديدة؟"، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 6 أكتوبر 2022.

https://futureuae.com/lists.tar.gz/Mainpage/Item/7683

3-  د. خالد خميس السحاتي، "مستقبل الأزمة الليبية في ظـل ازدواجـية السلطـة"، آفاق مستقبلية، العدد الثالث، يناير 2023، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.

4-  "تحالفات هشة: تراجع فرص نجاح مبادرة الرئاسي الليبي في تجاوز الانقسام السياسي"، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 14 ديسمبر 2022.

https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/7855

5-  عبدالله، بلال، "تعدُّد مسارات التسوية الليبية: المبادرات الراهنة والسيناريوهات المحتملة"، مركز الإمارات للسياسات، 5 فبراير 2024.

https://epc.ae/ar/details/scenario/taaddud-masarat-altaswia-alliybia-almubadarat-alrahina-walsiynaryuhat-almuhtamala

6-  حسين عبدالراضي، "حصاد العام العاشر: كيف شكل عام 2021 نقطة تحول في مسار الأزمة الليبية؟"، المركز المصري للدراسات الاستراتيجية، 2 يناير 2022.

https://ecss.com.eg/18200/

7-  "مآلات الصراع الليبي بعد انتخاب سلطة جديدة"، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 16 فبراير 2021.

https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/6084

8-  د. محمد القايــدي، "الأزمة الليبية: الفواعل المحركة للصراع والمسارات المستقبلية"، مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية، 11 سبتمبر 2023.

https://mediterraneancss.uk/2023/09/11/libyan-crisis/

طباعة

    تعريف الكاتب

    عبدالله فارس القزاز

    عبدالله فارس القزاز

    باحث فى الشئون الإفريقية