من المجلة - تقارير

إشكالات التسليم:| تداعيات مقتل القذافي على محاكمة نجله أمام "الجنائية الدولية"

طباعة
مقدمة:
 
شهد يوم الخميس الموافق 20 أكتوبر 2011 أحد أهم الأحداث التى توالت على الثورات العربية، وهى مصرع العقيد معمر القذافى قائد الثورة الليبية. فقد تسبب القذافى بتشبثه بالسلطة فى  قتل وجرح وحبس، المئات من المدنيين العزل الذين خرجوا فى المظاهرات ضد النظام السابق.وقد نتج عن ذلك قيام مجلس الأمن فى 26 فبراير 2011 بإصدار القرار 1970 بموجب الفصل  السابع من ميثاق الأمم المتحدة، محيلاً الحالة المتعلقة بليبيا منذ 15 فبراير 2011 إلى المحكمة الجنائية الدولية للنظر فى إمكانية الشروع فى التحقيق فى تلك الأحداث.[1]
 
وبالفعل، فى 3 مارس 2011 عقب قيامه بدراسة أولية للمعلومات المتاحة ، قرر المدعى العام بالمحكمة الشروع فى التحقيق، والذى تبين من نتائجه وجود أساس كاف لمقاضاة الرئيس الراحل معمر القذافى ونجله سيف الإسلام ورئيس جهاز الاستخبارات السابق عبد الله السنوسى عن مسؤليتهم الجنائية فى ارتكاب أفعال القتل العمد والاضطهاد  كجريمتين ضد الإنسانية، ضد المدنيين فى ليبيا  منذ 15 فبراير2011.[2]  و بناء عليه، تقدم المدعى العام بطلب للدائرة التمهيدية الأولى فى 16مايو2011 لإصدارثلاثة أوامر قبض على هؤلاء الأشخاص.[3]
 
وقد استجابت الدائرة التمهيدية لطلب المدعى العام فى 27 يونيو 2011 بعد أن اقتنعت بوجود أسباب معقولة تدعو للاعتقاد بأن القذافى ونجله ورئيس الاستخبارات السابق ارتكبوا الجرائم ضد الإنسانية المشار اليها سلفاً وفقاً للأدلة المقدمة، وأن القبض عليهم يبدو ضرورياً لضمان حضورهم أمام المحكمة، ولتجنب قيام أحدهم أو أكثر بعرقلة إجراءات التحقيق والاستمرار فى ارتكاب الجرائم التى تدخل فى اختصاص المحكمة (المادة 58 من النظام الأساسى).[4]
 
وعلى الأخص،  فقد استندت الدائرة التمهيدية الأولى فى حيثيات قرارها  بضرورة القبض على الأشخاص المشار إليهم لعدة اعتبارات، من ضمنها أن معمر القذافى طعن فى شرعية قرار مجلس الأمن 1970 الذى يمنح المحكمة الولاية القضائية  للتحقيق فى الجرائم المرتكبة فى ليبيا باعتبارها دولة ليست عضواً فى اتفاقية روما المنشئة للمحكمة ( النظام الأساسى).[5]
 
علاوة على ذلك، فإن القذافى وعد بالبقاء فى ليبيا. ووفقاَ لشهود عيان وصحفيين تم القبض عليهم، نظم القذافى عمليات واسعة النطاق بواسطة قوات الأمن الموالية للنظام لارتكاب الجرائم آنفة الذكر. ولذلك اقتنعت الدائرة التمهيدية بأنه فى ضوء تلك المعلومات والتصريحات الصادرة من الرئيس السابق معمر القذافى، يعد القبض عليه ضروريا، حيث استبعدت أن يمثل طواعيةً أمام المحكمة، ورأت أنه سوف يستمر بموجب  سلطاته فى  الإشراف على ارتكاب الجرائم وإخفاء آثارها.[6] وقد استندت الدائرة إلى أسباب مماثلة بالنسبة لسيف الإسلام و السنوسى. فبخصوص الأول،  أشارت الدائرة إلى أن سيف الإسلام أفصح عن نيته عدم تركه لليبيا.[7]
 
كما أضافت الدائرة أنه ونظراً لكون سيف الإسلام رئيس الوزراء الفعلى، فقد استخدم نفوذه و سلطاته  داخل أجهزة الدولة المعنية، ومن ضمنها قوات الأمن لتنفيذ خطته مع والده لقمع المتظاهرين المدنيين، وتوعد بقتال آخر رجل أو امرأة تتصدى للنظام.[8] أما بالنسبة للسنوسى، فقد أشارت الدائرة إلى أن السنوسى فى تلك الفترة كان لا يزال رئيس الاستخبارات الحربية، مما  مكنه من توجيه قواته  لارتكاب الجرائم والتخلص من الأدلة، وفقاً للخطة التي وضعها كل من القذافى وسيف الإسلام.[9]
 
واستناداً إلى  جملة هذه الأسباب، وعلى الأدلة المقدمة، قررت الدائرة التمهيدية الأولى إصدار أمرى القبض ضد القذافى[10] وسيف الإسلام[11] على اعتبارهما  فاعلين أصليين بطريق غير مباشر في  القتل العمد و الاضطهاد كجريمتين ضد الإنسانية، وذلك فى الفترة من 15 فبراير 2011 إلى 28 فبراير 2011على الأقل في أماكن متفرقة من ليبيا، بما في ذلك مدن بنغازى وطرابلس ومصراتة. أما بالنسبة للسنوسى،[12] فقد قررت الدائرة أن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن السنوسى مسئول جنائيا بصفته فاعلاً  أصليا بطريق غير مباشر عن هاتين الجريمتين، مما يعد سنداً كافيا لإصدار أمر القبض ضده.
 
ومع ذلك،  امتلأت صفحات الجرائد الإقليمية والدولية  بأخبار عن مقتل العقيد القذافى فى 20 أكتوبر 2011 وعن دفنه في 25 أكتوبر2011 فى مكان سري. وفى ضوء تلك الأخبار، يبدو  للكافة أن مشوار الاثنين وأربعين عامأ قد انتهى، وأن ملف القذافى قد أغلق، وعلى الأخص أمام المحكمة الجنائية الدولية.
 
أثر خبر الوفاة والدفن على سير الدعوى الجنائية:
 
على الرغم من أن جميع الأنظمة القضائية، سواءً الوطنية أو الدولية، تمتنع من السير قدماً في أي دعوى لوفاة المتهم أو الشخص محل التحقيق، فإن الشروط المتطلبة للتقرير بانقضاء الدعوى للوفاة قد تختلف من دولة لأخرى أو من نظام لآخر. ولذلك، فإن إثبات حدوث الوفاة هو المعيار الفيصل، ولكن التيقن أو الاقتناع بشأن حدوث الوفاة قد يختلف، ويكون ذا طبيعة خاصة أمام المحاكم الجنائية الدولية، نظراً لخطورة الجرائم التى تنظرها وللآثار المترتبة على اتخاذ قرار انقضاء الدعاوى بالوفاة على بعض القرارات السابقة المتعلقة بالتعاون الدولى، مثل تجميد الأرصدة وغيرها التى قد تكون قد صدرت عن  الدائرة المنوطة بقضية ما. وهذا يعنى من الناحية العملية أن تناقل خبر مقتل القذافى ودفنه فى كافة الصحف والإذاعات السمعية والمرئية، سواء إقليمية أو دولية،  ليس من المفروض أن يؤدى من الناحية القانونية إلى سقوط أمر القبض الصادر ضده، أو انقضاء الدعوى الجنائية بالوفاة.
 
فهذا ليس كافياً فى حد ذاته لإسقاط أمر القبض، أو التقرير بالانقضاء للوفاة. وهذا له مبرراته التى أشير إليها سلفاً، ومنطقه الذي ثبتت صحته من الواقع العملى. فعندما أذيع خبر القبض على سيف الإسلام فى شهر  أغسطس 2011، كان للخبر صدى، إذ إنه توغل داخل أقسام المحكمة المختلفة ، وكاد المدعى العام يصدقه، ويقوم باتخاذ خطوات إجرائية متعلقة بمرحلة ما بعد القبض، إلا أنه تم تكذيب الخبر لاحقاً. بالطبع، يبدو خبر وفاة القذافى أكثر جدية، ومع ذلك ليس من المفروض أن تغلق المحكمة ملف القذافى لمجرد التصريح بدفنه منذ شهر وبضعة أيام. فإبطال سريان أمر القبض  من جانب المحكمة من المفترض أن يتطلب أكثر من نشر خبر الوفاة فى الصحف والإذاعات الصوتية أو المرئية، أو حتى تقديم شهادة الوفاة.
 
إلا  أن المحكمة قد قامت فى 22 نوفمبر 2011 بإرساء سابقة مؤسفة عندما قضت، من جملة أشياء أخرى، بانقضاء الدعوى الجنائية لوفاة القذافى، وبالتالى إسقاط أمر القبض الصادر ضده، استنادا لشهادة وفاة خطية وبعض الصورالملتقطة من وسائل الإعلام . وباتباعها لهذا النهج، يبدو أن المحكمة قد فضلت أن تسلك الطريق الأبسط للتخلص من الدعوى الجنائية المقامة أمامها، مخالفة بذلك الإجراءات الأكثر دقة التى قد اتبعت فى السابقة الوحيدة التى أرستها منذ عدة سنوات فى إحدى القضايا الأخرى المنظورة أمامها، والتى سوف أشير إليها لاحقاً.
 
شروط انقضاء الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية:
 
لا يعالج النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية بشكل مباشر الإجراءات المقرر اتباعها في حالات الوفاة بخلاف التقرير فى نص المادة 58(4) من أن "يظل أمر القبض سارياً إلى أن تأمر المحكمة بغير ذلك".[13] وهذا يعنى أن إيقاف سريان أمر القبض والتقرير بانقضاء الدعوى الجنائية للوفاة هو قرار تنفرد به الدائرة المختصة فى نظر الدعوى، وليس للمدعى العام السلطة فى اتخاذ هذا القرار. وهذا يعنى  أيضاً أن إجراءات إيقاف سريان أمر القبض وانقضاء الدعوى الجنائية هو أمر متروك للسلطة التقديرية لقاضى الموضوع، أو بمعنى آخر للدائرة المنوطة بنظر الدعوى.
 
ففى قضية جوزيف كونى، وفينسينت أوتى، وراسكا لوكويا أمكوت أوديامبو ودومينيك أونجوين- متمردى جيش الرب للمقاومة- التابعة لحالة جمهورية أوغندا- وهى تعد السابقة الأولى التى كان من المتوقع أن تسترشد بها المحكمة فى  التعامل مع ملف القذافى- تقدم المدعى العام بطلب للدائرة التمهيدية الثانية  فى 22 مارس 2007 لإسقاط أمر القبض الصادرفى 8 يوليو 2005 ضد راسكا لوكويا، أحد زعماء جيش الرب للمقاومة والمتورط فى ارتكاب ثلاث جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية .[14]استند المدعى العام فى طلبه إلى وجود معلومات مؤكدة من الحكومة الأوغندية تفيد بمقتل لوكويا فى إحدى المعارك التى دارت بين قوات الدفاع الشعبي الأوغندية ومتمردى  قوات الرب للمقاومة فى شمال البلاد.[15]
 
علاوة على ذلك، فقد قام المدعى العام بالتعاون مع الحكومة الأوغندية بإجراء اختبار DNAلبعض العينات المأخوذة من جثة القتيل، وإرسالها إلى المعهد الهولندى للطب الشرعى، والذى قدم تقريرا يؤكد أن الشخص الذي قتل فى الاشتباكات المشار إليها هو نفس الشخص المعني.[16] و قد تم إرسال نتيجة تقرير الطب الشرعي إلى الحكومة الأوغندية لاعتماد واستخراج شهادة الوفاة.[17]
 
وعلى الرغم من أن المدعى العام رأى عدم ورود تلك الشهادة لا أثر له على طلب إسقاط أمر القبض، إذ إن الدلائل الأخرى، و التى من أهمها إجراء اختبار DNAوشهادة أحد متمردى جيش الرب للمقاومة السابقين تؤكد حدوث الوفاة، فإن الدائرة التمهيدية الثانية لم تصدر قرارها بإسقاط أمر القبض ضد لوكويا وانقضاء الدعوى الجنائية المقامة ضده للوفاة، إلى أن وردت كافة المعلومات المتاحة التى تفيد حدوث الوفاة.
 
وقد استندت الدائرة فى حيثيات قرارها إلى عدم إمكانية ممارسة المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها على شخص قد فارق الحياة، إذ إن نص المادة 25(1) من النظام الأساسى تقرر أن "يكون للمحكمة اختصاص على الأشخاص الطبيعيين..."، وأن المغزى من السير فى الدعاوى الجنائية هو تحديد المسئولية الجنائية للشخص المعني، وذلك لن يتحقق  فى حالة الوفاة.[18]  وبتمحيص حيثيات القرار، يمكن استخلاص نتيجة حتمية، هى أناقتناع أجهزة المحكمة ( مكتب المدعى العام وقلم المحكمة) المنوط بها استبيان وتأكيد حدوث حالات الوفاة، مستندة إلى كافة الأسباب الجوهرية، التى من ضمنها تقرير الطب الشرعى، هو أمر حتمي قبل صدور قرار بالانقضاء.
 
ومعظم هذه الخطوات قد تم اتباعها فى قضاء المحاكم الدولية المؤقتة، مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة،وكذا قضاء المحاكم المختلطة ذات الطابع الدولي، مثل المحكمة الخاصة بسيراليون. ففى قضية ميلوسوفيتش، قررت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة فى 14 مارس 2006 عدم السير فى الدعوى للانقضاء بالوفاة، مستندة لتقرير المعهد الهولندى للطب الشرعى، الذى أكد حدوث وفاة طبيعية وليست عن طريق دس السم، كما ورد  فى وسائل الإعلام.[19] وأيضاً فى قضية جاجوفيتش، قضت الدائرة المعنية بالقضية فى 30 يوليو 1999بالانقضاء بناء على التقرير المقدم من قلم المحكمة، الذى يفيد بوقوع الوفاة.[20] وفى قضية بوكاري التى تم نظرها فى المحكمة الخاصة بسيراليون، توصلت الدائرة الخاصة بنظر الدعوى فى 8 ديسمبر 2003 إلى النتيجة ذاتها، بناء على شهادة وفاة معتمدة، وتقرير مسبب من المدعى العام، مؤكداً ذلك.[21]
 
وعلى النقيض، فى قضية جوزيف كونى وآخرين المشار إليها بأعلاه، وردت معلومات للمحكمة الجنائية الدولية فى بداية أكتوبر 2005 تفيد بأن دومينيك أونجوين، أحد متمردى جيش الرب للمقاومة قد قتل فى أحد الاشتباكات. وكما حدث  بشأن راسكا لوكويا، تمت الاستعانة بالمعهد الهولندى للطب الشرعى   لإجراء اختبار " DNA " والذى وردت نتيجته سلبية.[22]
 
وبناء على تلك النتيجة، لم تتخذ الدائرة التمهيدية الثانية ثمة إجراء لاحق بصدد إسقاط أمر القبض الصادر ضد أونجوين، بل عدته لا يزال حياً.
 
 وهذا الاتجاه على الأقل يشير إلى الأهمية الخاصة التى وضعتها المحكمة الجنائية الدولية  بالنسبة لإجراء اختبار DNAوعلى الأخص فى دولة المقر قبل  اتخاذ أى قرار بصدد التقرير بالانقضاء للوفاة، عندما تعرضت لأولقضية طرحت فيها هذه المسألة. وعلى الرغم من أن بعض المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة قضت بانقضاء الدعوى الجنائية للوفاة فى أكثر من حالة،مكتفية بشهادة وفاة وتقرير من مسجل المحكمة أو مكتب الادعاء يفيد ذلك، فإن هناك قضايا أخرى ذات حساسية وطبيعة خاصة،مثل قضية ميلوسوفيتش المشار إليها سابقاً، والتى تم فيها الاعتماد على تقرير فنى من الطب الشرعى. فقضية القذافى لا تقل أهمية، بل كافة القضايا التى تتعلق بارتكاب جرائم دولية يجب أن يتم التعامل معها من حيث الإجراءات المتبعة بأكثر دقة وصرامة لخطورة تلك الجرائم، ولضمان عدم إفلات مرتكبيها من العقاب.
 
ومع ذلك،  تثيرالطريقة التى تصدت بها المحكمة الجنائية الدولية لغلق ملف القذافى القلق على مدى ضمان فاعلية القضاء الجنائى الدولى فى الحاضر والمستقبل، وعلى الأخص الأثر المباشر على تطبيق نظرية عدم الإفلات من العقاب. فكان يجب على الدائرة التمهيدية، بدلا من التقرير بالانقضاء للوفاة على أساس شهادة وفاة خطية وبعض اللقطات من وسائل الإعلام،[23] أن تسعى لأخذ العينات المقررة  لاختبار الـDNA والتأكد من صحة نتيجتها . فهذه العملية  قد تتطلب إشرافا دوليا بواسطة، من ضمن إجراءات أخرى، إرسال فريق تحقيق من قبل المحكمة، إما لمراجعة ما تم إنجازه من قبل السلطات الليبية، أو إعادة أخذ العينات المقررة للتأكد من حدوث الوفاة.
 
ويستند طلب الإشراف  الذى قد يوجه  إلى ليبيا على أساس قانونى، مصدره الفقرة الخامسة من قرار مجلس الأمن 1970 التى تلزم ليبيا بالتعاون الكامل مع المحكمة، وتوفير ما يلزم من مساعدات. حتماً،  فإن ذلك يكون وفقاً لنصوص مواد الباب التاسع من النظام الأساسى والقواعد الإجرائية والإثبات المكملة له. ومع ذلك، فقد قبلت المحكمة ما  تقدم به المجلس الانتقالى دون إشراف دولى وقامت بغلق ملف القذافى فى أقل من شهرين، على غرار ما قامت به فى قضية لوكويا التى استغرقت أكثر من عام من تاريخ ورود المحكمة خبر و فاته. فهذا الاتجاه سوف يرسي سابقة خطيرة  فى قضايا لاحقة، مؤداها فتح باب الممارسات السياسية التى قد تؤدى إلى إفلات العديد من العدالة، خاصةً فى غياب الإرادة السياسية فى تقديم شخص ما إلى التحقيق والمحاكمة.
 
أثر إيقاف دعوى القذافى على الإجراءات ضد نجله:
 
إن القرار الذى صدر بإيقاف السير فى الدعوى، نتيجة الانقضاء لوفاة القذافى، لا أثر له على سير الدعوى الجنائية المقامة  ضد أى من سيف الإسلام أو السنوسي، خاصة أمري القبض الصادرين قبلهما. فسوف تظل الدول الأعضاء للنظام الأساسى المنشئ للمحكمة، وكذلك ليبيا استثناءً، ملتزمة بتفعيل قرار مجلس الأمن والتعاون مع المحكمة فى القبض عليهما.
 
وفى هذا السياق، نشرت بعض الصحف الأجنبية والعربية فى نهاية شهر أكتوبر الماضى وقبل إلقاء القبض على سيف الإسلام  خبرا عن رغبة الأخير فى  المثول طوعا أمام المحكمة الجنائية الدولية.[24] و هذا الخبر أثاره المدعى العام بالمحكمة أثناء استعراض بيانه على مجلس الأمن فى 2 نوفمبر 2011 بصدد الحالة فى ليبيا، حيث أفصح عن تلقيه لبعض الأسئلة من أشخاص مقربين من سيف الإسلام تتعلق بمدى إمكانية تسليمه لدولته، فى حال مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية.[25]
 
ومع ذلك، فى 19و 20  نوفمبر 2011 ورد خبران متلاحقان، مفادهما أنه تم القبض على سيف الإسلام والسنوسى، رئيس الاستخبارات السابق فى ليبيا، وهذا الخبر مؤكد على الأقل بالنسبة لسيف الإسلام. ولعدم الخوض فى التفاصيل للحفاظ على سريتها، يمكننى الإفصاح عن أن المجلس الانتقالى قد بدأ بالفعل التشاور مع المحكمة فى شأن مدى إمكانية تسليم سيف الإسلام من عدمه. ومن هنا، تظهر بعض التساؤلات بشأن المراحل الإجرائية التى قد تتبع عملية التسليم أو فى حالة عدم التسليم.
 
ففى حالة  قيام المجلس الانتقالى بتقديم سيف الإسلام للمحكمة ، فسوف تقوم الدائرة التمهيدية المختصة بإتخاذ الإجراءات الأولية، وهى التأكد من أن الشخص المعنى قد بلغ بالجرائم المدعى ارتكابه لها، وبحقوقه المنصوص عليها فى النظام الأساسى، والتى من ضمنها الحق فى محاكمة عادلة ونزيهة تتوافر بها كافة الضمانات المنصوص عليها فى المادة 67 (1) من النظام الأساسى، وكذا الحق فى التماس إفراج مؤقت انتظارا للمحاكمة.[26]
 
وهنا، قد يتقدم الشخص المعنى بطلب للدائرة، محدداً الدولة التى يرغب الإقامة بها، وعلى المحكمة التأكد من أن  تلك الدولة على استعداد لتلقيه على إقليمها، والالتزام بالشروط التى قد تضعها المحكمة. ومن الناحية العملية ، لن تفرض المحكمة على سيف الإسلام  الذهاب إلى ليبيا  أو إلى أى دولة أخرى، فى حال قبولها الطلب المقدم ، لأنها عادةً ما تخاطب الدول التى وردت أسماؤها فى الطلب المقدم.
 
وهذا يعنى أنه إذا خشى سيف الإسلام أن يعود إلى ليبيا، فلن تفرض المحكمة عليه ذلك، إذا قبلت طلب الإفراج المؤقت أو المشروط. وعلى أية حال، لا يوجد حتى الآن أية سابقة إفراج مؤقت بخلاف محاولة وحيدة قد تمت من قبل الدائرة التمهيدية الثانية فى قضية جون بيير بمبا، قائد حركة تحرير الكونغو فى14 أغسطس  2009.[27] إلا أن الدائرة الاستئنافية نقضت القرار فى حكمها الصادر فى 2 ديسمبر 2009 بناء على الطعن المقدم من النيابة.[28]  وهذا يعنى أن احتمالية الإفراج المؤقت عن سيف الإسلام- إن تم تقديمه للمحكمة- تُعد ضئيلة .[29]
 
فالخطوة التالية لتلك المرحلة تكون الإعداد لجلسة اعتماد التهم الواردة فى المستند المتضمن التهم، أو ما يسمى بأمر الإحالة أو قرار الاتهام.[30] إذا اعتمدت التهم، تشكل هيئة الرئاسة دائرة ابتدائية لنظرالإجراءت اللاحقة.[31] و مع ذلك، قبل بدء جلسة نظر إقرار التهم أو اثناء نظرها ، يمكن للمجلس الانتقالي، إذا أراد محاكمة سيف الإسلام فى ليبيا، كما صرح فى بعض الصحف، أن يدفع بعدم قبول الدعوى، استنادأً إلى أن ليبيا بدأت إجراء تحقيق فى الدعوى المنظورة أمام المحكمة. وفى هذه الحالة، إذا ثبتت جدية تلك التحقيقات، وجب على المحكمة التنازل عن ممارسة اختصاصها للقضاء الوطنى.
 
ومن هنا، قد تبدو الصعوبة فى عدم تسليم سيف الإسلام للقضاء الليبى، حتى لو أبدى رغبته فى المحاكمة بواسطة القضاء الدولى، تفادياً لمواجهة عقوبة الإعدام. فعلى الرغم من أن النظام الأساسى للمحكمة استبعد تطبيق تلك العقوبة فى الأحكام الصادرة عن المحكمة ،[32] فإنه ترك حرية فرض العقوبات اللازمة التى قد تصل إلى الإعدام على الصعيد الوطنى، وفقاً لما تراه كل دولة .[33]
 
ومع ذلك، فمن المتوقع أن ترفض ليبيا، عقب مشاورتها مع المحكمة، تقديم سيف الإسلام لرغبتها فى محاكمته أمام القضاء الوطنى. ففى هذه الحالة، يوجب النظام الأساسى للمحكمة على ليبيا أيضاً الدفع بعدم قبول الدعوى، كما ذكرت سابقاً وفقاً لنص المادة 19(2).[34] ولتأجيل عملية التقديم، يمكن أن تقوم السلطات الليبية بدمج ذلك الدفع بطلب، مستند على نص المادة ،95 مفاده إرجاء تنفيذ عملية تقديم سيف الإسلام إلى المحكمة لحين الفصل فى الدفع المتعلق بعدم قبول الدعوى المنظورة أمام المحكمة.[35]  ومع ذلك ، فيمكن أيضاً للسلطات الليبية تأجيل عملية التقديم، إذا كانت قد بدأت التحقيق مع سيف الإسلام بصدد دعوى تختلف عن الدعوى المنظورة أمام المحكمة.
 
ففى هذه الحالة تمنح المادتان 89(4) و 94(1) من النظام الأساسى و القاعدة 183 من القواعد الإجرائية و قواعد الإثبات ليبيا الحق فى تأجيل هذه العملية لمدة يتم الإتفاق عليها فيما بين الدولة و المحكمة حتى يتسنى لليبيا الانتهاء من التحقيق أو المقاضاة فى الدعوى الأخرى. فبدون أى من هذه الدفوع، تكون ليبيا ملتزمة بتفعيل أمر القبض وتنفيذ قرار التقديم الصادر من الدائرة التمهيدية ضد سيف الإسلام .[36]
 
وفى حال عدم امتثال ليبيا، تستطيع المحكمة اتخاذ قرار بهذا المعنى، وإحالة المسألة لمجلس الأمن لاتخاذ اللازم. وهذا ما فعلته بالفعل المحكمة بصدد عدم تعاون السودان فى القبض على أحمد هارون وعلى خشيب، عندما أصدرت قرارا فى 25 مايو 2010 بإخطار مجلس الأمن لاتحاذ أى إجراء قد يعد مناسبًا، إلا  أن مجلس الأمن قد أبدى موقفاً سلبياً، كما هو الحال عندما تتصادم نصوص القانون  مع السياسة.[37]
 
[1]S.C. Res. 1970 (2011).
 
[2](Situation in Libya)  ICC-01/11-2-US-Exp, para. 1; ICC-01/11-4-Conf-Exp and its annexes.
 
[3](Situation in Libya)  ICC-01/11-4-Conf-Exp and its annexes.
 
[4](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-1.
 
[5](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-1, para. 93.
 
[6](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-1, paras. 93-94.
 
[7](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-1, para. 96.
 
[8](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-1, paras 96-97.
 
[9](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-1, paras 100-101.
 
[10](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-2-tARB.
 
[11](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-3-tARB.
 
[12](Situation in Libya)   ICC-01/11-01/11-4-tARB.
 
[13]Rome Statute, Art. 58(4).
 
[14](Situation in Uganda) ICC-02/04-01/05-271.
 
[15](Situation in Uganda) ICC-02/04-01/05-271, para. 4.
 
[16](Situation in Uganda) ICC-02/04-01/05-271, paras 5, 7.
 
[17](Situation in Uganda) ICC-02/04-01/05-248, p. 2.
 
[18](Situation in Uganda) ICC/02/04-01/05-248, pp. 3-4.
 
[19]Prosecutor v. Slobodan Milosevic, “Order Terminating The Proceedings”, Case No.: IT-02-54-T, 14 March 2006.
 
[20]Prosecutor v. Dragan Gogovic, et al., “Order Granting Leave to Withdraw the Indictment”, Case No.: IT-96-23-T, 30 July 1999.
 
[21]Prosecutor v. Sam Bockarie., “Withdrawal of Indictment”, Case No.: SCSL-2003-04-PT, 8 December 2003.
 
[22]ICC-02/04-01/05-272.
 
[23](Situation in Libya)  ICC-01/11-01/11-28 and its annexes.
 
[24]Ingrid Formanek, Transitional government prefers to try Gadhafi son in Libya, CNN, 30 October 2011; Barry Malone, Gaddafi son should be tried in Libya first: minister, Reuters, 31 October 2011.
 
[25]بيان إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حول الوضع فى ليبيا، عملاً بقرار مجلس الأمن رقم 1970(2011)، 2 نوفمبر 2011، ص. 3.
 
[26]Rome Statute, Art. 60.
 
[27](Situation in Central African Republic) ICC-01/05-01/08-475.
 
[28](Situation in Central African Republic) ICC-01/05-01/08-631-Red.
 
[29]See also in this regard the most recent attempt of Jean-Pierre Bemba to obtain interim release and the difficulty posed by the Trial Chamber which finally led to the rejection of his request on 27 September 2011, (Situation in Central African Republic) ICC-01/05-01/08-1789-Red.
 
[30]Rome Statute, Art. 61.
 
[31]Rome Statute, Art. 61(11).
 
[32]Rome Statute, Art. 77.
 
[33]RomeStatute, Art. 80. See for e.g. Report of the Preparatory Committee on the Establishment of an International Criminal Court, UN GAOR, 51st Sess., Vol. 1, Supp. No. 22, UN Doc. A/51/22 (1996), para. 306; UN Doc. A/CONF.183/SR.9, para. 53. See also, W. A. Schabas, The International Criminal Court: A Commentary on the Rome Statute, (OUP, 2010), p. 923.
 
[34]Rome Statute, Arts 17, 19(2)(b).
 
[35]Rome Statute, Arts. 19(2), 95.
 
[36]Certainly, Libya also remains under the obligation to surrender Al Senussi in case of confirming his arrest.
 
[37](Situation in Darfur) ICC-02/05-01/07-57.
طباعة

    تعريف الكاتب

    د. محمد محمود الزيدى

    د. محمد محمود الزيدى

    المستشار القانوني للدائرة التمهيدية الثانية بالمحكمة الجنائية الدولية ،والرئيس بمحكمة جنوب القاهرة سابقا.