تحليلات - مصر

تفوق إسلامي:|الدلالات السياسية لنتائج الجولة الثانية للانتخابات البرلمانية بمصر

طباعة

جاءت الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المصرية لتكشف عن معالم خريطة التمثيل السياسي في برلمان الثورة بعد فترة من السيولة السياسية والغموض تلت انهيار أركان النظام السابق، نتيجة الطفرة الحزبية، بعد فتح قنوات العمل الحزبي بأقصى اتساع وبأقل مستوى من الضوابط القانونية على التوظيف السياسي للدين، أو اشتراط للتمايز بين البرامج وترسخ الهيكل التنظيمي.لقد أكدت النتائج الانتخابية نجاح تيار الإسلام السياسي في الحصول على نسبة من المقاعد لن تقل بأي حال عن 65% من مجلس الشعب القادم، إذا استمرت نسب التصويت لصالح مرشحيه وقوائمه بهذا المعدل المرتفع في المرحلة الثالثة.

وعلى الرغم من نجاح المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية، فإن أزمات النظام السياسي المصري، لاسيما أزمة الشرعية، لن تنتهي بحسم الصراع الحزبي وحصول تيار سياسي على أغلبية برلمانية متماسكة، بالنظر إلى تعقيدات المرحلة الانتقالية، وتعدد الفاعلين، وتعارض مصالحهم بما يجعل الاستقرار السياسي الذي تتوق إليه جماهير الناخبين، واصطفت في سبيله أمام اللجان الانتخابية بالملايين عسير المنال، على الأقل حتى انتهاء المرحلة الانتقالية تماماً .

أولاً - أجواء العملية الانتخابية في المرحلة الثانية :

تبدو المفارقة واضحة في التلازم بين احتدام المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن والجيش في التحرير واستمرار عملية الانتخاب بسلاسة وبأقل قدر من أحداث عنف، أو التجاوزات في اللجان الانتخابية . حيث سبقت المرحلة الأولي من العملية الانتخابية مواجهات محمد محمود الدامية، و تخللت المرحلة الثانية مواجهات مجلس الوزراء والشيخ ريحان، التي أسفرت عن مصرع نحو 20 متظاهرا، وإصابة مئات آخرين في مواجهات مع قوات الشرطة العسكرية، غابت عنها تيارات الإسلام السياسي الرافضة لعرقلة أول استحقاقات انتقال السلطة للحفاظ على مكاسبها الانتخابية التي ستؤمن لها شرعية التمثيل السياسي.

وعلى الرغم من تلك المواجهات الدامية في محيط التحرير، فقد استمرت المرحلة الثانية في تسع محافظات، هي: المنوفية، وأسوان،والشرقية، والجيزة، والبحيرة، والإسماعيلية، وبني سويف، وسوهاج، والسويس، و بلغ عدد الناخبين المسجلين نحو 17مليونا و 383 ألفاً، وتنافس خلالها ما يزيد على نحو 3387 مرشحا بنظامي الفردي والقوائم، يتنافسون على 180 مقعدا بالبرلمان. أما عن السمات المميزة لأجواء المرحلة الثانية من الانتخابات، فتمثلت في الآتي :

1- استمرار ارتفاع معدلات المشاركة السياسية :

استمراراً لما شهدته المرحلة الأولي من معدلات غير مسبوقة للمشاركة، وصلت معدلات المشاركة في المرحلة الثانية إلى نحو  65.98 %، وبلغت نسبة الأصوات الصحيحة منها 11 مليونا و173 ألف صوت. وفي جولة الإعادة، تجاوزت نسبة التصويت نحو 42% وهو ما يؤكد أن جمهور الناخبين تأثر بالأجواء الثورية، وأن قوى سياسية نجحت في حشد جمهور الناخبين للتصويت لصالحها، سواء عن اقتناع برنامجها، أو لمناوأة تيارات منافسة، أو لاعتبارات الانتماء العائلي للمرشحين.

وبغض النظر عن أسباب تصاعد معدلات المشاركة، فإن خروج الناخبين بهذه الأعداد يعني أن لدى قطاع كبير منهم تفضيلات سياسية واضحة، ورغبة جامحة للمشاركة في تشكيل مستقبل النظام السياسي.

2- استقرار الأوضاع الأمنية :

على غرار المرحلة الأولى، استمرت الأوضاع الأمنية مستقرة وهادئة نسبياً على عكس ما توقعه المراقبون، خاصة فريق " مراقبون بلا حدود "  من احتمالات تصاعد أحداث العنف الانتخابي، نتيجة للتركيبة الريفية، والانقسامات العائلية والقبلية التي تتسم بها دوائر المرحلة الثانية. ولم تسجل مؤسسات المراقبة سوى حوادث عنف محدودة في بعض لجان الصف بالجيزة وبعض لجان بني سويف وأسوان، بما دفع بعض القضاة لإغلاق اللجان مؤقتاً، ثم إعادة فتحها بعد سيطرة القوات المسلحة على الأوضاع الأمنية  .

3- استمرار المخالفات الانتخابية :

تواصلت المخالفات الانتخابية على الرغم من تأكيد بعض جهات المراقبة، خاصة المجلس القومي لحقوق الإنسان، ومركز كارتر للسلام بأن التجاوزات الانتخابية انخفضت بصورة نسبية عن المرحلة الأولى، نتيجة تشديد الرقابة على اللجان، وتصدي القوات المسلحة لأنصار الناخبين ممن يقومون بالدعاية أمام اللجان في فترة الصمت الانتخابي ، فإن مؤسسات أخرى أكدت استمرار المخالفات الانتخابية التي شملت انتهاك فترة الصمت الانتخابي، والتصويت الجماعي، وشراء الأصوات، و تأثير بعض القضاة على الناخبين للتصويت لصالح قوى سياسية معينة .

ويمكن اعتبار توظيف الدين في الدعاية السياسية الظاهرة الأبرز في المرحلتين الأولي والثانية ، حيث استمرت التيارات الدينية في استخدام المساجد في الدعاية السياسية، والاعتماد على شعارات و شخصيات دينية في الدعاية، فضلاً عن إشاعة بعض المنتمين لهذه التيارات أن بعض المرشحين مدعومون من الكنيسة القبطية لحشد أصوات البسطاء والمتدينين لصالحهم . 

4- مشكلات إدارة العملية الانتخابية :

لم تنجح جهات إدارة العملية الانتخابية في تحقيق مستوى تنسيق ملائم فيما بينها، وأدي التصادم بين قوات تأمين عملية  الفرز وبعض القضاة إلى أزمة حادة كادت تؤدي لإحجام عدد كبير من القضاة عن المشاركة في الإشراف على الانتخابات، لولا تدخل اللجنة القضائية العليا للانتخابات. كما استمرت مشكلات عملية الفرز، خاصة التزاحم والفوضى، وعدم توفير أماكن ملائمة لفرز الأصوات، بما أدى لتلف بعض صناديق الانتخاب.

وإجمالاً، لم تتمكن اللجنة العليا للانتخابات من تسوية مشكلات المرحلة الأولي بصورة كاملة . بيد أن اللجنة القضائية العليا نالت إشادة مختلف جهات المراقبة على الانتخابات، نتيجة تنفيذها لأحكام القضاء الإداري بوقف الانتخابات في بعض الدوائر مثل الدائرة الثانية في البحيرة، والدائرة الثانية بالمنوفية، والدائرة الثانية في سوهاج.

ثانياً- قراءة في نتائج المرحلة الثانية :

        كشفت نتائج المرحلة الثانية من الانتخابات عن انحسار التنافس في الانتخابات البرلمانية بين كتلة الحرية والعدالة، التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وكتلة النور الممثلة للتيار السلفي، مع تقاسم كل من حزب الوفد والكتلة المصرية لأصوات مؤيدي الدولة المدنية والعلمانية، ونجاح بعض أحزاب فلول الحزب الوطني المنحل في تحقيق نسب تصويتية قد تؤهلها للحصول على عدد ضئيل من مقاعد البرلمان، وإخفاق مختلف الكتل الحزبية الممثلة لشباب الثورة، والتيارات الليبرالية واليسارية في تحسين أدائها المتردي في المرحلة الأولي من الانتخابات .

1- استمرار صعود تيارات الإسلام السياسي :

        نجحت التيارات الدينية في تدعيم أدائها الانتخابي القوي في المرحلة الثانية للانتخابات، واستمر حزب الحرية و العدالة في الحفاظ على تفوقه، وحصلت قوائمه على 4 ملايين و58 ألف صوت، بما يعادل 36.3 % من إجمالي الأصوات الصحيحة بالمرحلة الثانية، وتصدرت قوائم الحزب نتائج غالبية المحافظات.

وفي انتخابات الفردي، تمكن الحزب من حصد نحو 34 مقعدا، وبذلك يحصل الحزب إجمالاً من المرحلتين الأولي والثانية على نحو 157 مقعداً بنسبة تقترب من 51% من إجمالي 331 مقعداً، تمت الانتخابات عليها في المرحلتينالأولى والثانية بنظامي القائمة والفردي.

أما كتلة النور السلفية، فقد نجحت في الحفاظ على المركز الثاني، وحصلت قوائمها على 3 ملايين و216 ألف صوت بنسبة تصل إلى نحو 28.8% من إجمالي الأصوات الصحيحة. وفي الانتخابات بالنظام الفردي، نجحت الكتلة السلفية في الحصول على نحو 13 مقعدا. ويعزي هذا التراجع في أداء الكتلة السلفية في الانتخابات الفردية إلى تفتيت الأصوات في الجولة الأولى، ومنافسة حزب الحرية والعدالة في المرحلة الثانية.

ونتيجة لمواقف حزب النور الأكثر تشدداً فيما يتعلق برفض مدنية الدولة والعلمانية، يميل قطاع كبير من الناخبين المؤيدين لمدنية الدولة والأقباط لإعطاء أصواتهم لحزب الحرية والعدالة في جولة الإعادة  للحيلولة دون حصول كتلة النور على عدد أكبر من المقاعد، إلا أن تلك المحاولات لم تنجح في عرقلة حصول حزب النور على 79  مقعدا، بنسبة تقترب من 23 % إجمالاً في المرحلتين الأولي والثانية بنظامي القائمة والفردي.

        ويرتبط ذلك التراجع بتصريحات بعض مرشحيها حول تحريم الديمقراطية والسياحة، لاسيما الشيخ عبد المنعم الشحات، بما دفع كتلة النور للمنافسة بشراسة في المرحلة الثانية، والتنافس بقوة مع حزب الحرية والعدالة، بما أدى للتصادم بين أنصار الحزبين في بعض الدوائر. وبادر بعض المنتسبين للكتلة السلفية بتكفير منافسيهم، واعتبار التصويت لأي منهم خطيئة وإثما، حتى لحزب الحرية و العدالة

        أما حزب الوسط، فقد تراجع بقوة في المرحلة الثانية، ولم يحصل سوى على 386.375 ألف صوت، بما يعادل نحو3.5% من إجمالي الأصوات الصحيحة، على الرغم من اعتباره أكثر الأحزاب ذات المرجعية الدينية اعتدالا وقبولاً لمبادئ مدنية الدولة والمواطنة. ولم ينجح الحزب في المرحلتين إجمالاً سوي في حسم 7 مقاعد فقط لصالحه، بما يعادل نحو 2.1% من إجمالي مقاعد المرحلتين الأولي و الثانية .

2- تراجع ممثلي التيارات المدنية :

        تراجعت نتائج ممثلي التيارات المدني بقوة في المرحلة الثانية، نتيجة للطبيعة الريفية المحافظة و المتدينة لغالبية دوائر المرحلة الثانية، وعدم قدرتها على الصمود أمام دعاية وتأثير التيارات الدينية، حيث تراجعت نتائج الكتلة المصرية في المرحلة الثانية، ولم تحصل سوى على 785.84 ألف صوت، بما يعادل نحو 7.3 % من إجمالي الأصوات الصحيحة، وتراجعت للمركز الرابع علي المستوي القومي بعد حزب الوفد، ولم ينجح أي من مرشحيها على المستوى الفردي. وإجمالاً، حصدت الكتلة نحو 26 مقعداً في الفردي والقائمة في المرحلتين الأولي والثانية، بما يعادل نحو 7.3 % من إجمالي مقاعد المرحلتين .

        أما حزب الوفد، فقد تصاعد أداؤه الانتخابي بصورة ملحوظة في المرحلة الثانية، وحصلت قوائمه على نحو مليون و77 ألف صوت، بما يعادل نحو 9.6% من إجمالي الأصوات الصحيحة، و اقتنص الوفد من الكتلة المصرية المركز الثالث على مستوي القوائم، ورفع تمثيله في البرلمان في المرحلتين إجمالاً إلى 27 مقعداً، بنسبة تصل إلى % 8.5 من إجمالي مقاعد المرحلتين.

        ويعزى نجاح الحزب إلى تكثيف دعايته الانتخابية واستعانته في بعض الدوائر بشخصيات تحظى بقبول كبار العائلات ممن كان يستقطبهم الحزب الوطني المنحل للترشح تحت رايته سابقاً، فضلاً عن منافسته لحزب الحرية والعدالة، والكتلة المصرية في الدعاية في فترات الصمت الانتخابي، وأمام اللجان الانتخابية.

3- إخفاق أحزاب شباب الثورة :

        تواصل إخفاق أحزاب شباب الثورة في المرحلة الثانية، نتيجة انشغالهم بالصراع مع المجلس العسكري، وتفضيلهم نزع الشرعية عن النظام بأكمله، بدلاً من الانخراط في الآليات المتاحة لتداول السلطة. حيث كشفت المرحلة الثانية عن ضعف تأثير شباب الثورة بمختلف أحزابهم فى جمهور الناخبين، ولم تحصد قائمة الثورة مستمرة سوى 161.549 ألف صوت، بما يعادل 1.5% من إجمالي الأصوات الصحيحة. ولم يحصل حزب العدل سوى على 46.681 ألف صوت.

        وإجمالاً، لم تحقق كتلة الثورة مستمرة، أو حزب العدل، أو أي من أحزاب شباب الثورة الأخرى سوى نحو 6 مقاعد في المرحلتين بنظامي الفردي والقائمة  بما لا يتجاوز 1.5 % من إجمالي مقاعد المرحلتين .

        لا تعكس نتائج أحزاب شباب الثورة افتقادهم للخبرة والتمويل اللازم للمنافسة فحسب، أو عجزهم عن المنافسة، في ظل اتساع الدوائر، وإنما تحمل دلالة، مفادها أن هذه التيارات عجزت عن النزول بأفكارها الثورية للناخب المصري، وإقناعه بها، وظلت حبيسة المجال الافتراضي، أو ميادين التحرير بالمحافظات المختلفة، لدرجة أن بعض الناخبين لا يعرفون أسماء تلك الأحزاب، بالإضافة إلى تفتيت أصوات مؤيدي شباب الثورة بين قوائم متعددة، بما أدى لتقليص نسبي لحجم تمثيلها. يضاف إلى تلك العوامل الدعاية الإعلامية الشرسة ضد شباب الثورة، وتحميلهم مسئولية عدم الاستقرار الأمني، وتردي الأوضاع الاقتصادية لتنظيمهم للاعتصامات والتظاهرات، بما دفع الناخبين للتصويت ضدهم.

4- تقدم بعض أحزاب الوطني المنحل :

        على نقيض المرحلة الأولى، نجحت بعض الأحزاب التي تضم قيادات الحزب الوطني المنحل في الإفلات من التصويت العقابي للناخبين، نتيجة الإفادة من التركيبة العائلية لدوائر المرحلة الثانية، و ترشيح بعض كبار العائلات ورجال الأعمال وشخصيات عامة مؤثرة على رءوس قوائمها. وبالفعل، نجح حزب الإصلاح والتنمية، بزعامة محمد عصمت السادات ورامي لكح، في الحصول على 231.713 ألف صوت، بما يعادل 2.1%من إجمالي الأصوات الصحيحة بالمرحلة الأولى.

        وإجمالاً، نجح الحزب في حسم 7 مقاعد لصالحه بنظامي الفردي والقوائم في المرحلتين الأولى و الثانية، بما يعادل 2.1% من إجمالي مقاعد المرحلة الأولى . وتمكن حزب "المواطن المصري" من الحصول على  151.314 ألف صوت، بما يعادل 1.4 % من إجمالي الأصوات الصحيحة، و نجح في حسم 5 مقاعد لصالحه في المرحلتين. أما حزب مصر القومي، فحصل على 169.662ألف صوت، بما يعادل نحو 1.5% من أصوات الناخبين، واقترب من حسم ما لا يقل عن 3 مقاعد لصالحه .

        وفي انتخابات الفردي، لم تتمكن قيادات الحزب الوطني من تحقيق نتائج إيجابية نتيجة الدعاية الكثيفة ضدهم، حيث خسر د.علي مصيلحي، وزير التضامن الاجتماعي السابق، انتخابات الإعادة أمام مرشح الإخوان الدكتور محمد فياض، على الرغم من الخدمات التي قدمها لأبناء دائرته طوال توليه للوزارة.

        كما خسر جميع قيادات العائلات من أعضاء الحزب الوطني في سوهاج من الجولة الأولى، رغم تمثيلهم لهذه الدوائر لسنوات. وجاء على رأس الخاسرين من الفلول حازم حمادى، عضو مجلس الشعب السابق، وعضو لجنة السياسات، وأحمد أبو حجى، وأحمد عبد السلام قورة .

5- انهيار الأحزاب الليبرالية والاشتراكية :

        جاءت نتائج الأحزاب الليبرالية والاشتراكية التي رفضت الانضمام للتكتلات الانتخابية لتكشف عن ضآلة وزنها السياسي ومحدودية احتكاكها بالمواطنين، فضلاً عن افتقادها لمقومات العمل الحزبي. فعلى سبيل المثال، لم يحصل حزب الغد ( ليبرالي) سوى على 55.942 ألف صوت، وحصل حزب الجبهة الديمقراطية (ليبرالي) على 28.203 ألف صوت، ولم يحصل الحزب العربي الناصري(قومي) سوى على 75.134 ألف صوت. أما حزب الأحرار الاشتراكيين، فلم يحصل على أي صوت .

ثالثا - دلالات المرحلة الثانية ومحاور الصراع السياسي:  

        كشفت نتائج المرحلة الثانية بصورة لا تدع مجالا للتشكيك عن تفضيلات الناخب المصري، وثقل وزن تيارات الإسلام السياسي وقدرتها على التنظيم، وحشد الأصوات لصالحها، وإقناع الناخبين ببرامجها، مقابل تراجع واضح للتكتلات المناوئة المؤيدة للعلمانية، وإخفاق شباب الثورة في توسيع مساحة تمثيلهم بالبرلمان، وانهيار تام كشفت عنه نتائج الأحزاب الليبرالية والقومية واليسارية القديمة والناشئة. 

        ترتبط التقييمات الأولية لهذا "الصعود الإسلامي" بتعريف المواطن المصري لهويته، وربطها بخياراته السياسية، بعد تحول النخبة الحاكمة التحديثية الليبرالية والقومية على السواء إلى ديكتاتورية، و توظيفها لشعارات ليبرالية وقومية للسيطرة على السلطة، بما جعل التصويت لصالح الأحزاب ذات التوجه الإسلامي البديل الأفضل، مقابل أحزاب عديمة الخبرة السياسية، أو كرتونية ورقية، تأثيرها السياسي معدوم.

        وأسهم افتقار الأحزاب المدنية والثورية إلى التوافق السياسي في برامجها، أو قبول الانضمام لتكتلات موحدة، في تكريس إخفاقها السياسي، بالإضافة إلى عجز تلك الأحزاب عن إقناع جمهور الناخبين بخطابها السياسي، وتطوير لغة مفهومة للناخب العادي تجتذب إليها أصوات الناخبين .

        ويبدو مسار الانتخابات في المرحلة الثانية وكأنه متقاطع ومتعارض مع المسار الثوري، نتيجة الخلافات المحتدمة بين ممثلي شباب الثورة والتيارات الإسلامية الصاعدة في الانتخابات البرلمانية حول أولويات مرحلة ما بعد الانتخابات، وإصرار شباب الثورة على استخدام أدوات الاحتجاج السياسي بالتوازي مع إخفاقهم في الإفادة من آليات تداول السلطة والتمثيل السياسي، مقابل إحجام التيارات الإسلامية عن مساندتهم في مواجهة المجلس العسكري، وتركيزها على الحفاظ على مكاسبها في الانتخابات البرلمانية، بما أعاد مفردات التخوين والاتهامات المتبادلة إلى خطاب الطرفين، و أسهم في اتساع الهوة فيما بينهما ليعيد الزخم إلى أحد أهم محاور الصراع في المشهد المصري .

  ومن المؤكد أن إتمام الانتخابات ينزع عن شباب الثورة والمجلس العسكري قدرا كبيرا من أسانيد الشرعية، على الرغم من تمتعهما بأدوات متعددة للتأثير في الواقع السياسي. فالمجلس العسكري، بموجب الإعلان الدستوري، يتمتع بصلاحيات واسعة، ولديه سيطرة فعلية على مختلف مؤسسات الدولة. وشباب الثورة يتمتعون بالقدرة على الحشد السياسي، وتوظيف التظاهرات وأدوات الاحتجاج السياسي للضغط على شاغلي السلطة السياسية.

  ومن هذا المنطلق، يمكن استنتاج أن الصراع السياسي وعدم الاستقرار لن ينتهي باستيفاء الاستحقاق الانتخابي، وقد يكون تشكيل البرلمان بداية لتعقد مسارات الصراع، نتيجة الخلافات المحتدمة بين الإخوان والمجلس العسكري حول صلاحيات البرلمان القادم.فوفق تفسير المجلس العسكري، فإن مجلس الشعب القادم ليس له صلاحية تشكيل الحكومة، أو الرقابة عليها، أو وضع الدستور، وإنما يختص فقط بتشكيل لجنة إعداد الدستور من خلال الاسترشاد بمعايير يضعها المجلس الاستشاري، وسيتم حل البرلمان بمجرد انتخاب الرئيس الجديد في منتصف عام 2012، بما يعني أن دوره مؤقت ومحدود.

وبالطبع، لن تقبل جماعة الإخوان المسلمين بهذه الصلاحيات المحدودة، وستضغط بأقصى قوة على المجلس العسكري لتعديل الإعلان الدستوري . وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن حزب الحرية والعدالة الحائز على الأغلبية وكتلة النور غير ممثلين في حكومة الإنقاذ الوطني برئاسة د. كمال الجنزوري، بما سيدفعهما للضغط لتمثيلهما في السلطة التنفيذية بما يتواءم مع الأغلبية البرلمانية التي حازا عليها .

   ترتبط هذه التناقضات بعملية الاستقطاب الطائفي والديني والتوظيف السياسي للدين بما قد يترتب عليه انقسامات مجتمعية في مرحلة ما بعد الانتخابات، لاسيما إذا أخفقت القوى السياسية العلمانية المدنية في السيطرة على ثلث مقاعد البرلمان، أي الثلث المعطل، بما سيؤدي لهيمنة كاملة للتيارات الدينية على البرلمان، وعملية كتابة الدستور، بما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج السلطوية التي تحملت مصر وطأتها لعقود طويلة.

        يرتبط احتدام الاستقطاب الديني بخلافات جذرية ومحور آخر للصدام السياسي، وإن كان غير معلن ومؤجل بين التيارات الإسلام السياسي، وشباب الثورة، والتيارات المدنية، والمجلس العسكري حول مبادئ وملامح الدستور الجديد، عقب الانتهاء من الانتخابات التشريعية، خاصة وضع الشريعة الإسلامية في الدولة، ودور المؤسسة العسكرية في النظام السياسي، وهيكل النظام السياسي . 

        أما المحور الأخير لعدم الاستقرار السياسي، فيتمثل في الازدواجية بين الشرعية البرلمانية التي ستسيطر عليها التيارات الدينية والشرعية الثورية التي يتمسك بها شباب الثورة. ومن المرجح أن تستمر، وقد تتطور لتشكل ثورة جديدة، نتيجة عدم تحقق مطالب الثورة السياسية والاجتماعية، و الانفلات الأمني، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وارتباط ذلك بإحباط ثورة الآمال والتوقعات لدى المواطنين الأكثر وعياً والأكثر فقراً.

ويتوقف تحقق هذا السيناريو على عدة عوامل، أهمها: قدرة حكومة الجنزوري على الإنجاز العاجل على المحورين الأمني والاقتصادي، والتزام المجلس العسكري بتسليم السلطة، وفق الجدول الزمني المتوافق عليه، وقدرة الأغلبية البرلمانية على توجيه جماهير الناخبين لدعم استمرار المرحلة الانتقالية، وعدم الانقلاب عليها ثورياً، وأخيراً نجاح إدارة الخلافات بين المجلس والتيارات الإسلامية الحائزة على الأغلبية البرلمانية للتوصل لتسوية متوازنة، تكفل للمجلس دورا تنفيذيا قويا، وللمجلس التشريعي صلاحيات حقيقية .

طباعة

    تعريف الكاتب

    محمد عبد الله يونس

    محمد عبد الله يونس

    مدرس مساعد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة