من المجلة - تقارير

قضايا المناخ والتجاذبات السياسية فى أمريكا اللاتينية

طباعة

 يؤكد تنصيب جوستافو بيترو فى 7 أغسطس 2022، كأول رئيس يساري لكولومبيا على اتجاه واضح فى سياسات أمريكا اللاتينية، فى ظل تولي الرؤساء اليساريين السلطة فى جميع البلدان الرئيسية فى المنطقة باستثناء البرازيل؛ حيث يتمتع الرئيس اليساري الأسبق «لولا دا سيلفا» بفارق مريح فى مواجهة منافسه الرئيس اليميني الحالي «جايير بولسونارو» قبل الانتخابات الرئاسية التي تجرى فى 2 أكتوبر الحالي.
تُثير هذه الموجة الجديدة من صعود اليسار، التساؤل حول ما إذا كانت قضايا البيئة والتغير المناخي عاملًا محفزًا للانقسام والاستقطاب السياسي فى أمريكا اللاتينية، فى ظل تصدر النقاش حول هذه القضايا الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة البرازيلية، فضلًا عن تبني الرؤساء اليساريين المنتخبين حديثًا أجندة تقدمية لحماية البيئة وتعزيز النمو الأخضر، على النقيض من توجهات الرؤساء الشعبويين من اليمين واليسار على حد سواء.

أولًا- تداعيات تغير المناخ على منطقة أمريكا اللاتينية:
وفقًا لتقرير صادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية فى يوليو 2022، اختفت 22٪ من مساحة الغابات فى الأمازون فى عام 2021 مقارنة بعام 2020، وفقدت الأنهار الجليدية فى جبال الإنديز 30٪ من مساحتها. ومن المتوقع أن تتسبب موجة الجفاف التي تضرب بعض البلدان فى حدوث أزمة مياه فى المنطقة. تؤثر ظروف الطقس المتطرفة وتغير المناخ، بشكل كبير على دول أمريكا اللاتينية(1)، وذلك يتضح فيما يلي:

1- الإضرار بالنمو الاقتصادي:
لزيادة وتيرة الأحداث المناخية المتطرفة، مثل الفيضانات والجفاف آثار مدمرة على البنية التحتية للإنتاج والسياحة والتجارة. وفقًا للبنك الدولي، فى المتوسط ، يُفقد نحو 1.7٪ من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا فى أمريكا اللاتينية بسبب الكوارث المرتبطة بالمناخ(2).
بحلول عام 2050، قد تكلف الأضرار الناجمة عن تغير المناخ المنطقة 100 مليار دولار أمريكي سنويًا. فى الوقت نفسه، تهدد التقلبات المتوقعة فى هطول الأمطار أيضًا الإنتاجية طويلة الأجل للعديد من المنتجات الزراعية، كالبن والكاكاو،  والتي تعتمد عليها العديد من بلدان المنطقة (على وجه التحديد، الأرجنتين، والبرازيل، وشيلي، والإكوادور وأوروجواي) كمصدر للعملة الأجنبية. سيؤدي التحول إلى الاقتصاد الخالي من الكربون إلى فقدان أكثر من 360 ألف وظيفة فى مجال استخراج النفط والغاز وتوليد الكهرباء باستخدام الوقود الأحفوري فى دول المنطقة(3).

2- تهديد الأمن الغذائي:
ما يقرب من 7 من كل 10 بالغين يعيشون فى فقر مدقع فى أمريكا اللاتينية والكاريبي، يعملون فى الزراعة. يُنفق الفقراء أجزاء كبيرة من إجمالي استهلاكهم على الغذاء، مما يجعلهم عُرضة بشكل خاص لصدمات أسعار الغذاء. فى عام 2019، لم يتمكن 113 مليون شخص (19.3٪ من السكان) من تحمل تكاليف نظام غذائي صحي فى أمريكا اللاتينية، بزيادة قدرها 8.4٪ على عام 2017(4).
سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى تدهور الإنتاجية الزراعية وانخفاض إيرادات العمالة. فى أمريكا الجنوبية، أدت ظروف الجفاف إلى انخفاض بنسبة 2.6٪ فى محصول الحبوب 2020-2021 مقارنة بالموسم السابق(5).

3- تفاقم مشكلة الفقر:
ستؤدي الظواهر المناخية المتطرفة إلى إعاقة تراكم رأس المال المادي والبشري بين الفقراء. تكون أصول الفقراء ملموسة فى كثير من الأحيان، وبالتالي فهي أكثر عرضة للتدمير بسبب الكوارث البيئية من الأسر الثرية(6). وفقًا للبنك الدولي، سيؤدي تغير المناخ إلى وقوع نحو 5.8 مليون شخص فى أمريكا اللاتينية فى براثن الفقر المدقع بحلول عام 2030(7).
بالإضافة إلى ذلك، سيتسبب ارتفاع درجات الحرارة، والإجهاد المائي، والفيضانات الأكثر تكرارًا فى زيادة انتشار الأمراض التي تنقلها المياه ، وزيادة نفقات الرعاية الصحية. ففى البرازيل، ترتبط صدمات هطول الأمطار السيئة ارتباطًا وثيقًا بارتفاع معدل وفيات الرضع وانخفاض وزن المواليد وفترات حمل أقصر(8).

4- زيادة معدل الهجرة والنزوح الداخلي:
وفقًا للبنك الدولي، فإنه بحلول عام 2050، وفى حال عدم اتخاذ إجراءات مناخية وتنموية عالمية ووطنية ملموسة وعاجلة، ستؤدي الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية المتلاحقة إلى نزوح نحو 17 مليون شخص داخل حدود بلدان أمريكا اللاتينية(9).
يُمثل عدد «المهاجرين الداخليين بسبب المناخ» نحو 2.6 بالمائة من إجمالي سكان المنطقة. وسينتقل المهاجرون من المناطق التي تُعاني من قلة المياه وانخفاض إنتاجية المحاصيل وارتفاع مستوى سطح البحر والعواصف. وستكون المناطق الأشد فقرًا والأكثر تأثرًا بالمناخ هي الأكثر تضررًا(10).

ثانيًا- التوجهات السياسية والأيديولوجية لقادة أمريكا اللاتينية بشأن قضية تغير المناخ:
يكشف تحليل التوجهات السياسية والأيديولوجية لقادة بلدان أمريكا اللاتينية عن وجود تباينات وتمايزات واضحة فى مواقفهم من قضية البيئة وظاهرة تغير المناخ، ما يتضح فيما يلي:

1- توجهات داعمة لحماية البيئة من قبل قادة اليسار الجدد ويمين الوسط:
عانى العديد من الأحزاب اليسارية فى أمريكا اللاتينية مشكلة تجدد القيادة، التي ارتبطت بتمسك قادتها بالمفاهيم المحافظة حول التنمية، والتي تميل إلى تفضيل التنمية الاقتصادية على حماية البيئة. فى حين اعتمد رؤساء اليسار التقليدي على عائدات الموارد الطبيعية لتمويل البرامج الاجتماعية الطموحة، فإن قادة اليسار الجديد أقل ارتياحًا للتكاليف البيئية والاجتماعية للتنمية، لا سيما فى سياق تغير المناخ، وهم أكثر نشاطًا فى استكشاف نماذج اقتصادية بديلة.
يسعى قادة اليسار الجدد، مثل جابريل بوريك فى شيلي وجوستافو بيترو فى كولومبيا إلى تعزيز جهود حماية البيئة، وهو ما يمكن توقع أن يفعله دا سيلفا فى البرازيل أيضًا(11). تعهد رئيس شيلي الجديد بجعل تغير المناخ أحد أولوياته القصوى، وشمل ذلك التزامات بالاستثمار فى إجراءات البحث والتكيف، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وإصلاح نظام إدارة المياه فى البلاد. مؤخرًا، قام بوريك بالتوقيع على اتفاقية إسكازو، وهي معاهدة إقليمية رفضت الحكومة الشيلية السابقة دعمها، والتي تضمن وصول الجمهور إلى المعلومات والمشاركة والعدالة فى المسائل البيئية فى أمريكا اللاتينية والكاريبي(12).
فى كولومبيا، بنى جوستافو بيترو حملته الانتخابية على الوعد بفرض حظر على التراخيص الجديدة للتنقيب عن النفط ووقف جميع مشاريع تطوير الوقود الأحفوري البحري ودفع الطاقة النظيفة. أما فى البرازيل، قد تسهم عودة دا سيلفا إلى السلطة فى دفع حوار إقليمي طال انتظاره حول حماية الأمازون، كما تتضمن وعوده الانتخابية قيادة معركة ضد إزالة الغابات بشكل غير قانوني(13).
ورغم أن سياسة دا سيلفا المقترحة بشأن البيئة ومكافحة تغير المناخ تختلف عن الرئيس البرازيلي الحالي «بولسونارو»، لكنه مثل الأخير يدعم زيادة إنتاج النفط، وهو يرى أن البلاد لا تزال بحاجة إلى النفط لفترة من الوقت، لذلك فهو يفضل عملية التخفيض «طويلة المدى». وتتناقض وجهة النظر هذه مع الرؤساء اليساريين الآخرين فى المنطقة، مثل بيترو فى كولومبيا، الذي دعا إلى تشكيل «كتلة مناهضة للنفط» من أجل دفع الاقتصاد بعيدا عن الوقود الأحفوري(14).
مع ذلك، كان دا سيلفا حريصًا على تمييز نفسه عن الرئيس الحالي، لذلك اقترح تحويل شركة النفط الحكومية البرازيلية Petrobras من شركة نفط إلى شركة طاقة تستثمر فى الأسمدة والوقود الحيوي ومصادر الطاقة المتجددة(15). فى حين إنه من غير المُرجح أن يُعطي دا سيلفا الأولوية لنموذج تنموي جديد قائم على محورية مكافحة تغير المناخ، لكنه سيتراجع بشكل أكبر عن سياسات بولسونارو التي أضرت بغابات الأمازون البرازيلية(16).
فى الوقت نفسه، لا تقتصر التوجهات المؤيدة لحماية البيئة على قادة اليسار التقدميين فحسب، بل أخذ بعض قادة يمين الوسط أيضًا زمام المبادرة فى هذا الشأن. على سبيل المثال، كان الرئيس الكولومبي السابق «إيفان دوكي»، من أوائل المدافعين عن تبني بلدان المنطقة «ميثاق ليتيسيا» لتنسيق مكافحة إزالة الغابات فى منطقة الأمازون بشكل أفضل(17).

2- توجهات متحفظة بشأن حماية البيئة من قبل قادة اليسار التقليدي:
يتناقض التوجه المدافع عن البيئة لقادة اليسار الجدد مع قادة اليسار التقليدي الذين وصلوا للسلطة فى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مثل رافائيل كوريا فى الإكوادور وإيفو موراليس فى بوليفيا، الذين دافعوا عن حماية البيئة، لكنهم أيضًا أعطوا الأولوية للمشروعات الاستخراجية الكبرى وكان لديهم علاقة معقدة مع الحركات البيئية(18).
ويدافع قادة اليسار التقليدي عن مبدأ «قومية الموارد»، باعتبار أن سيطرة الدولة الصارمة على الطاقة والمعادن هي أفضل طريق للتقدم الاقتصادي وتقرير المصير. ويعتبر هؤلاء أن السيطرة على الموارد واستخدامها مرتبط بإرث من الاستغلال يعود إلى الحقبة الاستعمارية، وتتركز سياساتهم على إبقاء الشركات الأجنبية والخاصة التي تسعى إلى زيادة الأرباح بعيدًا عن ثروات بلادهم الطبيعية. وفى بوليفيا، حرص الرئيس الاشتراكي الحالي «لويس آرس» على تحقيق أقصى استفادة من الموارد الطبيعية لبلاده، بما فى ذلك الغاز والليثيوم، لكنه أعرب عن انفتاحه على الاستثمار الأجنبي فى قطاع الطاقة(19).
وبصفة عامة، لا يُشير تطور سياسة المناخ فى بلدان المنطقة، خلال العقد الماضي، إلى أن الائتلافات الحكومية لما يُسمى بـ «اليسار اللاتيني التقليدي» كانت أكثر تفضيلًا أو دعمًا للنهوض بأجندة المناخ من الحكومات التي تديرها أحزاب أو تحالفات يمين الوسط.

3- توجهات معارضة لجهود حماية البيئة من قبل قادة اليمين واليسار الشعبوي:
يُشكك قادة اليمين الشعبوي فى أمريكا اللاتينية، وفى مقدمتهم بولسونارو فى أن ظاهرة الاحتباس الحراري من صنع الإنسان وينظرون لعلم تغير المناخ باعتباره «مؤامرة يسارية». وفى عام 2019، خلال سنته الأولى فى المنصب، أشار الرئيس البرازيلي الحالي إلى أن القوى الإمبريالية تُحاول الاستيلاء على الأمازون وشدد على ضرورة تأكيد الحقوق السيادية لدول منطقة الأمازون على أراضيها ومواردها الطبيعية، كما قوض بولسونارو أكبر جهد دولي للتعاون من أجل الحفاظ على غابات الأمازون، وهو صندوق أمازون(20).
وخلال حملته الانتخابية للرئاسة لعام 2022، اقترح رئيس البرازيل استخدام السندات الخضراء وائتمانات الكربون لتمويل تخفيضات الانبعاثات، بالإضافة إلى توظيف 6000 رجل إطفاء للسيطرة على حرائق الغابات الشديدة. كما تعهد أيضًا بتسريع «الإجراءات لخفض» الانبعاثات. مع ذلك، فإن سجل بولسونارو فى إزالة الغابات ودعمه للأعمال التجارية الزراعية الكبيرة يظهران أنه لا يمكن أخذ هذه المقترحات على محمل الجد(21).
وفى الوقت نفسه، تُظهر بعض الدراسات أن الحكومات اليسارية الشعبوية فى أمريكا اللاتينية نادرًا ما تنفصل عن السياسة القائمة على استخراج المعادن والنفط واستغلال الموارد الطبيعية حتى إذا انتقدت هذه السياسات فى بداية توليها السلطة. وفى فنزويلا، هناك مزاعم بإخفاء حكومة «نيكولاس مادورو» البيانات الرسمية عن البيئة، ويُعتقد أن إزالة الغابات قد ساءت بشكل كبير على مدى السنوات الماضية، مع ارتفاع التعدين غير القانوني(22).
وفى المكسيك، سعى الرئيس «لوبيز أوبرادور» إلى تعزيز هيمنة شركة النفط الحكومية Pemex وشركة الكهرباء الوطنية CFE على قطاعاتهما، وعمل بنشاط من أجل تقييد نشر واستخدام مصادر الطاقة المتجددة، كما أنه عمد إلى تشويه سمعة المنظمات البيئية غير الحكومية والعلماء والمدافعين الآخرين عن البيئة ومهاجمتهم(23).

ثالثًا- العوامل المفسرة لتباين توجهات الحكومات اللاتينية ومواقفها من القضايا البيئية:
هناك عدة عوامل تفسر تباين اتجاهات ومواقف التيارات السياسية اللاتينية من قضية تغير المناخ، وكذلك تفاوت مستوى اهتمام حكوماتها، صعودًا وهبوطًا، بحماية البيئة، ما يتضح فيما يلي:

1- توجهات الرأي العام اللاتيني:
وفقًا لمسح عالمي نشره مركز بيو للأبحاث (2015)، يعتبر 74٪ من الأمريكيين اللاتينيين أن تغير المناخ مشكلة خطيرة للغاية، وهي نسبة أعلى من المناطق الأخرى فى العالم. بلغت هذه النسبة فى أوروبا 54٪ وفى الولايات المتحدة الأمريكية 45٪.  وصلت هذه الاستجابة إلى 86٪ فى البرازيل، و59٪ فى الأرجنتين. وتُشير هذه النتائج إلى مستوى عالٍ من الاهتمام المجتمعي بمشكلة تغير المناخ، ما لقى صدى كبيرا بين قادة اليسار الجديد فى أمريكا اللاتينية(24).
ويُمكن تفسير فوز القادة اليساريين الجدد فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، جزئيًا، بنجاحهم فى جذب الناخبين خاصة من الشباب، من خلال تركيزهم على القضايا المرتبطة بالتغيير الاجتماعي، كحماية البيئة، والدفاع عن حقوق السكان الأصليين، وقضايا المرأة، وهي قضايا لم تحظ باهتمام كافٍ من قبل الأحزاب التقليدية فى المنطقة. جاء اختيار الرئيس الجديد لكولومبيا «جوستافو بيترو»، الناشطة البيئية «فرانسيا ماركيز» لمنصب نائب الرئيس، ليعكس رغبة قوية فى ترجمة خطابه السياسي الداعم للبيئة إلى سياسات واقعية. كرست ماركيز حياتها المهنية للنشاط البيئي، وحصلت فى عام 2018، على جائزة جولدمان البيئية، تقديرًا لجهودها فى هذا المجال.  
بالمثل، اختار الرئيس الشيلي الجديد، «ماسا روجاس» وزيرة للبيئة، وهي عالمة دولية رائدة فى مجال تغير المناخ. كانت المؤلفة الرئيسية لتقرير التقييم الخامس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ فى عام 2014، وهي أيضًا مؤلفة رئيسية منسقة لتقرير الفريق الحكومي الدولي لعام 2021(25).

2- نفوذ جماعات الضغط والمصالح:
خلال السنوات الأخيرة، أصبح تغير المناخ قضية سياسية بارزة بسبب الإخفاق فى إيجاد حلول للتخفيف من وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة وشددتها، والحد من تداعياتها السلبية على بلدان المنطقة. أدت هذه الاخفاقات إلى تقوية المجموعات السياسية التي تدعو إلى المزيد من العمل المناخي، كالمنظمات البيئية.
مع ذلك، برزت فى أمريكا اللاتينية جماعات ضغط تدفع باتجاه عرقلة الأنشطة المدافعة عن البيئة، وفى مقدمتها النخب الزراعية وكبار ملاك الأراضي. حيث تُجادل هذه النخب بأن مواجهة تغير المناخ هي فى الأساس مسئولية العالم المتقدم ولا ينبغي أن تكون عقبة أمام التنمية الاقتصادية. وتعتبر معارضة البرازيل لإدراج الغابات فى مفاوضات بروتوكول كيوتو (1996-2001) مثالاً جيدًا على هذه الديناميكية. يُمكن تفسير هذه المعارضة جزئيًا بقوة نفوذ النخب الزراعية البرازيلية التي تُدافع عن الاستخدام الاقتصادي لمنطقة الأمازون؛ حيث كانت معدلات إزالة الغابات المرتفعة أحد المصادر الرئيسية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري فى البرازيل(26).
فى الوقت نفسه، لعبت النخب الزراعية دورًا واضحًا فى فوز الرئيس بولسونارو فى الانتخابات الرئاسية لعام 2018، فى ظل تبنيه أجندة مدافعة عن مصالحها. وقد أيد اللوبي الممثل لقطاع الأعمال الزراعية، والذي شكل أعضاؤه أكثر من ثلث مجلس النواب وربع مقاعد مجلس الشيوخ، ترشيح بولسونارو لرئاسة البلاد(27).
ونظرًا لدعم اللوبي الزراعي لبولسونارو، فقد حظي بنفوذ كبير لدى حكومته، ما ساهم فى اتخاذ تدابير داعمة لمصالح هذا اللوبي كتخفيف قواعد استخدام مبيدات الآفات وتسهيل اختبار المواد الكيميائية الجديدة فى الزراعة، كما قدم بولسونارو الدعم المالي لقطاع الزراعة التجارية وساعد الشركات الزراعية البرازيلية على فتح أسواق جديدة لمنتجاتها(28). ليس هذا فحسب بل هناك مزاعم بتسهيل بولسونارو عمليات التطهير واسعة النطاق للغابات. فى تجاهل لقوانين البرازيل، كما تمّ غزو مناطق السكان الأصليين من قبل الحطابين وعمال المناجم وملاك الأراضي الزراعية(29).

3- القيود الاقتصادية والاجتماعية:
ثمة اعتقاد سائد، عبر الطيف الأيديولوجي، فى أمريكا اللاتينية بأن حماية البيئة تضع عبئًا على التنمية الاقتصادية، وهو مفهوم يبزر بشكل واضح فى البلدان ذات الاقتصادات المعتمدة على السلع الأساسية، خاصة الزراعية والحيوانية والمعدنية. يدعم هذا الاعتقاد أنه فى بلدان مثل البرازيل والمكسيك، يُعتقد أن شركات النفط التي تقودها الدولة مثل Petrobras أو Pemex تعزز قدرة الدولة وتثير الفخر الوطني. ويرتبط تاريخ الشركتين ارتباطًا وثيقًا بتحولات بلديهما من الاقتصادات الريفية إلى القوى الصناعية اللتين هما عليهما اليوم. من ناحية أخرى، لا تستحضر مصادر الطاقة المتجددة صور التنمية والقوة الجيوسياسية نفسها(30).
ويتجاهل هذا الاعتقاد الذي يقلل من الجدوى الاقتصادية لحماية البيئة، الإمكانيات التي يمكن أن تحققها من النمو الأخضر والتحول إلى الطاقة المتجددة فى أمريكا اللاتينية. حيث ستوفر المنطقة ما يصل إلى 621 مليار دولار أمريكي سنويًا إذا حقق قطاعا الطاقة والنقل حيادًا للانبعاثات بحلول عام 2050، مع توفير 7.7 مليون وظيفة جديدة، وفقًا لتقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2019(31).
فى غضون ذلك، تستعد بعض دول أمريكا اللاتينية للاستفادة من ثرواتها الكبيرة من المعادن الضرورية لإنتاج تقنيات منخفضة الكربون. على سبيل المثال، تمتلك المنطقة احتياطيات هائلة من الليثيوم والنحاس والفضة والبوكسيت والزنك والمنجنيز والنيكل، التي تُعرف بـ «معادن المستقبل»، اللازمة لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية(32).
من ناحية أخرى، سيرتبط وفاء بعض قادة اليسار الجدد مثل بوريك وبيترو، بتعهداتهم والتزاماتهم البيئية، بإجراء مقايضات اقتصادية صعبة لم يقم بها قادة اليسار التقليدي؛ إذ تمتع هؤلاء بارتفاع كبير فى أسعار السلع الأساسية عالميًا، والذي مكنهم من زيادة الإنفاق العام على برامج الحماية الاجتماعية، وأكسبهم الدعم الشعبي.
على النقيض من ذلك، يواجه «قادة المد الوردي الثاني» فى الوقت الراهن، أوضاعًا اقتصادية غاية فى الصعوبة فى ظل ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وعدم الاستقرار الجيوسياسي ومحدودية الفوائض المالية بعد جائحة صحية مدمرة أضرت أمريكا اللاتينية بشكل خاص. لذلك فمن المُرجح أن تضعف قدرة هؤلاء على المضي قدمًا فى تنفيذ أجنداتهم البيئية الطموحة.
بينما يتطلع دا سيلفا للفوز بولاية رئاسية ثالثة فى البرازيل، التي تعاني الركود الاقتصادي وارتفاع معدل التضخم، فمن الواضح أن الاقتصاد هو مصدر قلق الناخبين الرئيسى. وفى كولومبيا، يُمثل النفط والغاز نحو ثلث إجمالي صادراتها، لذلك فإن تنفيذ بيترو تعهداته بإلغاء عقود التنقيب المستقبلية على النفط يمكن أن يواجه طعنًا قضائيًا، وسيكون لارتفاع أسعار الوقود تأثير سلبي كبير على الفقراء، وهم ركيزة مهمة لدعم الرئيس الكولومبي.
وفى شيلي، يُخطط الرئيس بوريك لتشديد الأهداف المناخية ومساعدة الصناعة فى التخلص من الوقود الأحفوري، لكن التعدين يُمثل نحو 12.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن وجود كونجرس مجزأ قد لا يوفر الدعم الكافى لبوريك للمضي قدمًا فى تنفيذ سياساته البيئية المقترحة(33).

4- ارتدادات الضغوط الدولية:
أصبحت قضية تغير المناخ أكثر إلحاحًا، فى الوقت الراهن، من أي وقت آخر مضى، وتتزايد الضغوط الخارجية على الدول لوضع أهداف مناخية طموحة لخفض درجة حرارة الأرض الآخذة فى الارتفاع. ويُجادل البعض بأنه بدون التصدي لعمليات القطع غير القانوني لغابات الأمازون، ستكون هناك صعوبة بالغة فى مواجهة ارتفاع درجات الحرارة عالميًا، بسبب دور الغابات فى الحد من غازات الاحتباس الحراري. فى المقابل، هناك تصور، ذو وزن كبير بين القوات المسلحة فى عدد من بلدان المنطقة، مثل البرازيل، أن حماية البيئة تمثل وسيلة تستهدف تقويض سيادة الدول الوطنية. وقد تمّ تعزيز هذا الاتجاه من التفكير من خلال الجدل المستمر حول ما إذا كان ينبغي اعتبار «الإبادة البيئية» جريمة دولية، فضلاً عن تنامي بعض الأصوات المطالبة بالتدخل الخارجي فى منطقة غابات الأمازون للحيلولة دون اندلاع الحرائق فيها.
وتكتسب هذه الفكرة مشروعية أكبر بسبب حقيقة أنه فى حين أن النقد الخارجي الموجه إلى إزالة الغابات مشروع، فإن الانتقادات الأوروبية والأمريكية للسياسات البيئية لأمريكا اللاتينية غالبًا ما تتغاضي بشكل ملحوظ عن الجهود التي تبذلها بلدان المنطقة فى هذا الشأن(34). وتُظهر كوستاريكا، وشيلي، وأوروجواي، طموحات مناخية متزايدة وتحقق نجاحات قوية فى نشر الطاقة النظيفة وتبني مبادرات رائدة للحفاظ على التنوع البيولوجي(35). فى أوروجواي، وباراجواي، وكوستاريكا، تولد أكثر من 95٪ من إجمالي الكهرباء من مصادر متجددة(36).

ختامـــًا:
يمكن القول إن هناك اختلافات جوهرية فى الخطابات والرؤى والسياسات الخاصة بتغير المناخ عبر التيارات والقادة السياسيين اللاتينيين وفيما بينهم. وفى ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها بلدان أمريكا اللاتينية، من المُرجح أن تظل قضايا حماية البيئة وتغير المناخ محورًا للتجاذبات السياسية بين الفاعلين الرئيسيين، وستزداد حدة الجدل المحتدم حول قدرة بلدان المنطقة على إقامة نموذج تنموي جديد يحركه الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة.

المصادر:
 


-

طباعة

    تعريف الكاتب

    د.صدفة محمد محمود

    د.صدفة محمد محمود

    باحثة متخصصة في شؤون أمريكا اللاتينية