من المجلة - تقارير

الاستجابة لتغير المناخ فى أوروبا بين السياسات والتنفيذ

طباعة

 تمثل تحديات البيئة والتغير المناخي إحدى الأولويات الرئيسية فى سياسات الاتحاد الأوروبي داخلياً ودولياً، خاصة وأنه يعدُّ رابع أكبر ملوث للبيئة فى العالم بعد الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، والهند، بحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وتساهم جميعها بـ 55% من إجمالي الانبعاثات بينما يساهم الاتحاد الأوروبي بمفرده بـ11.4% من إجمالي الانبعاثات. وتستهم مجموعة العشرين إضافة إلى الاتحاد الأوروبي بـ78% من إجمالي الانبعاثات. لذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي على امتداد ثلاثة عقود إلى تبني استراتيجية بيئية ذات ثلاثة أضلاع، هي تخفيض 30% من انبعاثاته بحلول عام 2020 دون مستويات عام 1990، وقد رفع هذا السقف إلى 55٪ على الأقل بحلول عام 2030، والوصول إلى «الحياد المناخي» (صافى الصفر) بحلول عام 2050. أما الضلعان الثاني والثالث فهما التحول من استخدام النفط إلى الغاز الطبيعي وتنفيذ كفاءة استخدام الطاقة. ورغم التزامه القانوني والسياسي والأخلاقي بمعالجة البعد البيئي كجزء من المسئولية التاريخية عن أضرار المناخ إلاَّ أن التزام الدول الأعضاء فى الاتحاد كان متفاوتاً حيث إن ربع المدن الأوروبية فقط لديها خطة للتكيف والتخفيف وتحدد أهدافًا كمية لخفض الغازات الدفيئة، لكنها مازالت بعيدة عن الهدف والطموح.

وقد فشل الاتحاد الأوروبي طويلا فى إقناع العديد من الدول الصناعية الكبرى بالالتزام بخفض الانبعاثات، بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تلتحق باتفاق باريس إلا فى الآونة الأخيرة فى عهد الرئيس بايدن. التقرير التالي يحاول فحص حقيقة استجابة أوروبا للتغير المناخي ما بين صياغة السياسات الطموحة ومدى الالتزام الجدي بتنفيذها، وكذا المحطات المهمة فى تطور تلك السياسات البيئية وما واجهها من تحديات داخلياً ودولياً فى طريق التنفيذ حتى تحقق الأهداف العالمية المأمولة لخفض الانبعاثات والتكيف للحد من التغير المناخي.
تطورت سياسات المناخ فى الاتحاد الأوروبي منذ عام 1990، حيث تتبنى دولة تدابير مشتركة فى مجالات انبعاثات غازات الاحتباس الحراري والطاقات المتجددة وكفاءة الطاقة. وتم تطوير إطار سياسة مناخية على مستوى الاتحاد الأوروبي وجرت مراجعته عند التنفيذ بمرور الوقت. ومع أهداف التنمية المستدامة 2030 التي تم تحديدها فى 2014، اتضح أن هناك تغييرات مطلوبة لفترة ما بعد 2020، حيث أعلنت المفوضية الأوروبية عن حزمة من الإصلاحات الجديدة تستهدف خفض الانبعاثات لمستوى 55% فى 2030 ويرمز إليها بـ «المواءمة مع 55»، وتم اعتمادها فى يونيو 2021، فى محاولة لتدارك الثغرات والإخفاقات فى تنفيذ الاستراتيجية والخطط السابقة للتعامل مع الأهداف المناخية الطموح.

محطات مهمة فى السياسات البيئية:
بالعودة إلى تلك الخطوات الأولى فى سياسة المناخ، تم إطلاق تقرير الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ فى عام1990، تبعه مناقشة المجلس الأوروبي قضية تغير المناخ لأول مرة فى العام نفسه استعدادًا للمفاوضات التالية بشأن اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية فى هذا الشأن. وأثارت المناقشات موضوع السياسات والتدابير المشتركة، وتم تحديد ثلاثة مجالات رئيسية لسياسة المناخ ومعالجتها والتي لا تزال موجودة حتى اليوم بأبعادها الثلاثة: الحد من الغازات الدفيئة، وتعزيز مصادر الطاقة المتجددة، وتحسين كفاءة الطاقة. ولتحقيق هذه الأهداف، تبنى الاتحاد الأوروبي إستراتيجية «توصف بكونها عملية ومستقبلية» -وفقاً لدراسة الدكتورة (فتيحة ليتيم ونادية ليتيم)  وتتضمن عددا من البرامج والتدابير؛ أولها بـرنامج مـكافحة تغـير المناخ (2000). وقد أُطلِقَ هذا البرنامج بعد أن لاحظت المفوضية الأوروبية أن التدابير الفردية التي تتخذها الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي غير كافية للوفاء بالتزامها الدولي بموجب بروتوكول كيوتو، المتمثل فى تخفيض نسبة انبعاثات الاتحاد من الغازات الدفيئة بنسبة 8% بحلول عام 2010. لذلك كانت هناك ضرورة لتبني تدابير أكثر فعالية لمواجهة تغير المناخ مع توسيع تطبيقها فى جميع قطاعات الحياة المختلفة. وارتكز هذا البرنامج على عدد من التوجيهات الأوروبية، منها توجيه مرتبط بتطوير إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة، وتوجيه آخر بتطوير استخدام الوقود فى وسائل النقل المنتج من الطاقات المتجددة، وثالث بتحسين استخدام الطاقة فى المباني. كما تم تعزيز البرنامج بإصدار الكتاب الأبيض فى عام 2001 والذي نصَّ على ضرورة إنشاء مركز لتبادل المعلومات حول مخاطر ظاهرة التغير المناخي والنتائج المترتبة عليه، وأفضل الممارسات الواجب اتباعها لمواجهة هذه الظاهرة. رغم ذلك، لم يكن البرنامج كافيا لمواجهة التحديات البيئية ولم يحقق الفعالية المرجوة منه خاصة فى ضوء تقارير الخبراء التي أشارت إلى تزايد المشكلات البيئية الناجمة عن تغير المناخ وتفاوتها واختلافها من بلد لآخر من بلدان الاتحاد، مما استوجب إعادة تفعيل الاستراتيجية فى عام 2005 بإطلاق استراتيجية التغير المناخي لأفق 2020 وما بعده.

استراتيجية التغير المناخي:
ركزت بالخصوص على إنتاج واستهلاك الطاقة، وقطاعات النقل والصناعة والزراعة وإدارة النفايات، وكذلك مجال البحث وتمويل التنمية المحلية. كما تضمنت الاستراتيجية حزمة المناخ والطاقة (2008)، وهي مجموعة من القوانين والتشريعات -وصلت الآن إلى ما يزيد على ستين لائحة وقانونا حول تغير المناخ- تم وضعها بمناسبة قمة المناخ فى كوبنهاجن بالدنمارك 2009، وتهدف لاستهلاك كمية أقل من الكربون وطاقة أقل بنسبة 20%. فى المقابل، يتم إنتاج 20٪ من الطاقة المستهلكة بالاتحاد من الطاقات المتجددة، وكذا تطوير سياسة حماية البيئة فى مجال التخزين الجيولوجي للكربون، وذلك تمهيدا للوصول لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 20٪ وترتفع إلى 30٪ فى حالة وجود اتفاق دولي بما يقلل من مشكلات الصحة ويقلص نفقات مكافحة التلوث.
وخطط الاتحاد الأوروبي أنه بتطبيق هذه التدابير سيتاح له توفيرما قيمته 50 مليار يورو سنويا وإلى غاية 2020  من إجمالي حجم وارداته من البترول والغاز، كما بإمكانه توفير فرص عمل جديدة للقطاع الأوروبي للطاقات المتجددة تصل إلى مليون فرصة تضاف إلى 300 ألف فرصة.
بالإضافة لحزمة المناخ والطاقة، أنشأ الاتحاد الأوروبي فى 2010 برنامجاً لرصد كوكب الأرض ليدخل حيز النفاذ خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى 2012. ويهدف لتدفق جميع المعلومات والبيانات حول كوكب الأرض، من هواء وبيئة بحرية وعمليات طوارىء وأمن وغيرها، وضمان النفاذ لجميع المعلومات، وكذلك تعزيز سوق العمل بخلق فرص عمل فى مجال الرصد البيئي.
بالإضافة إلى ما تقدم من برامج، أقر الاتحاد الأوروبي برنامج رصد الانبعاثات الـغازية فى عام 2012 الذي يفرض ضريبة على انبعاثات الطائرات خلال رحلاتها من وإلى المطارات الأوروبية، سواء كانت شركات أوروبية أو غير أوروبية. وقد فُرض على تلك الشركات شراء رخص للمساهمة فى تقليل التلوث الناتج عن محركات الطائرات.
كما أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقاً ملزماً لأعضائه الـ 27 لجعل الطاقة النووية إحدى الوسائل المعترف بها أوروبيا لمحاربة أزمة الاحتباس الحراري وخفض الانبعاث الكربونية، مع ضرورة مراعاة «الأمن والسلامة» عند اتخاذ قرار الاستعانة بالطاقة النووية. ويحقق الاتفاق خفض نصيب القارة الأوروبية من الانبعاثات الكربونية بنسبة 5٪، وزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بما يحقق 20% من الاحتياجات للطاقة الأوروبية.
التحالف العالمي لمواجهة تغير المناخ:
هو تحالف أطلقه الاتحاد الأوروبي لمواجهة تغير المناخ بالتعاون مع الدول النامية الفقيرة والمتضررة من التغير المناخي. ومن أهم أهداف المبادرة إدماج مشكلة التغير المناخي لأول مرة فى جميع استراتيجيات التنمية بهذه الدول وإعداد وصياغة خطط عمل وطنية، كما يوفر لها دعما تقنيا وماليا لاتخاذ التدابير اللازمة للمواجهة وتمويل المشاريع فى مجالات الطاقات المتجددة ودعم البحوث الخاصة برصد الأضرار حول استنزاف المجال الغابي ووضع حد لمشكلة التصحر وتحسين أنظمة التنبؤ والاستعلام بشأن المناخ لتقليل الكوارث وابتكار الحلول المناسبة. وقد اشترط الاتحاد الأوروبي تنفيذا لهدف إدماج مشكلة التغير المناخي فى برامج القضاء على الفقر ألا يموّل سوى المشروعات التي تأخذ بعين الاعتبار الأثر البيئي. وقد عمل أيضا على تشجيع الاستثمارات فى التكنولوجيات الجديدة وإنشاء وتطوير مراكز تخزين ثاني أكسيد الكربون بطريقة سليمة وآمنة بيئيا تحت الأرض. وتعمل هذه المراكز على تخزين ما يعادل 40% من إجمالي انبعاثات دول الاتحاد.
ولم تقف محاولات الاتحاد الأوروبي عند هذا الحد، بل رفع سقف الالتزام قبل اتفاقية باريس عام 2015 بخفض الانبعاثات إلى 40٪ دون مستويات عام 1990 بحلول عام 2030، وإلى 80٪ أقل من عام 1990 بحلول عام 2050. وفى ديسمبر 2020، أقر قادة الدول الأعضاء فى الاتحاد هدفًا جديدًا لخفض الانبعاثات إلى 55٪ على الأقل دون مستويات عام 1990 بحلول عام 2030، والوصول إلى «الحياد المناخي» (صافى الصفر) بحلول عام 2050. وأصبحت هذه الأهداف ملزمة قانونًا بموجب قانون المناخ الأوروبي، وتمت الموافقة على القانون فى أبريل، وتم اعتماده رسميًا فى يونيو 2021.
إزاء ذلك، زادت طموحات العديد من الدول من خلال إعلانها لأهدافها المناخية ووصولها للحياد الكربوني بحلول عام 2050، إلا أن القليل منها فقط أوضح كيفية تحقيق هذه الأهداف بالتفصيل، وعلى رأسها المفوضية الأوروبية التي أعلنت عن خطة جديدة تسمي «خطة المواءمة مع 55» والتي تشمل مجموعة واسعة من الإصلاحات، فضلاً عن مختلف القوانين ذات الصلة المتعلقة بالنقل والطاقة والضرائب،وتتضمن الخطة 13 مقترحًا، منها تداول الانبعاثات فى الاتحاد الأوروبي، وتسعير الانبعاثات من الحرارة والنقل، وإضافة آلية تعديل حدود الكربون لفرض ضرائب على الواردات عالية الكربون،مثل الحديد والصلب، والألومونيوم، والأسمنت، والأسمدة، والكهرباء. وتمثل الواردات الحالية فى القطاعات الخمسة نحو 200 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وستدخل آلية تعديل حدود الكربون حيز النفاذ فى 2023، مع فترة سماح ثلاث سنوات، وسيتم دفع مدفوعات الانبعاثات على مراحل على مدى 10 سنوات أخرى من 2026 إلى 2035، وسيتم خلالها زيادة الالتزام تدريجيًا. وسيخسر منتجو الاتحاد الأوروبي تدريجياً 10٪ من مخصصاتهم المجانية سنوياً. ومن المتوقع جمع نحو 9 مليارات يورو فى عام 2030 نتيجة تنفيذ هذه الآلية، بافتراض أن تسعير الكربون سيصل إلى 85 يورو للطن.
تشمل المقترحات الأخرى الإلغاء التدريجي لمبيعات السيارات التي تعمل بالبنزين والديزل فى دول الاتحاد بحلول عام 2035. وبالنسبة لأهداف مصادر الطاقة المتجددة ستتضاعف أهداف 2030 من 32٪ من مزيج الطاقة فى الاتحاد الأوروبي إلى 40٪، أي ضعف النسبة التي تم التوصل إليها عام 2019 والبالغة 19.7٪.
أما كفاءة الطاقة، فسيتم استخدام الطاقة بنسبة 39٪ أقل من المستويات المتوقعة عام 2030، أي بزيادة الكفاءة بنسبة 6.5% على الهدف الحالي. وبالنسبة للمباني، تعمل الخطة على الحصول على نحو 50% من احتياجات الطاقة من مصادر متجددة بحلول عام 2030، بما فى ذلك الكهرباء المتجددة، والمضخات الحرارية، والحرارة الشمسية، وتدفئة المناطق. وأعلن الاتحاد الأوروبي بدء تشغيل النظام الموازي لتجارة الانبعاثات بحلول 2025، مع إلزام موردي الطاقة الأولية بشراء بدلات انبعاثات كافية لتغطية استخدام منتجاتهم بدءًا من 2026. وفى النهاية سيعمل النظام الجديد على الحد من الانبعاثات من المباني والنقل بنسبة 43٪ دون مستويات عام 2005 بحلول عام 2030. وتدفع المفوضية إلى تضمين الانبعاثات البحرية فى المخطط وتشديد سقف الانبعاثات بسرعة أكبر للتوافق مع هدف 2030 الجديد، بالإضافة إلي انبعاثات قطاع الطيران والشحن مع إنهاء الإعفاء لشركات طيران الركاب والشحن و زيادة الحد الأدنى للرسوم تدريجياً على مدى 10 سنوات. يضاف لكل تلك الأهداف تعزيز غرس الأشجار باستراتيجية الاتحاد الأوروبي للغابات وتحسين إنتاجيتها وإنتاج الأخشاب، والتنوع البيولوجي، وخصائص التربة الصحية، والقدرة على التكيف مع المناخ. وعلى الرغم من أن نسبة 43٪ من الاتحاد الأوروبي مغطاة بالغابات، إلا أن هناك مخاوف متعاظمة بشأن الحصاد المفرط الذي يهدد دورها كمخزن للكربون.

تحديات تعيق تنفيذ الاستراتيجية:
رغم تطور سياسات الاتحاد الأوروبي البيئية واحتلال استراتيجية تغير المناخ أولوية على أجندته الداخلية والدولية، إلا أن الكثير من التحديات واجهت تنفيذها على الوجه الأكمل وحدت من نجاحها. ومن أهم التحديات الداخلية أن التشريعات العديدة التي وضعها الاتحاد الأوروبي فى إطار استراتيجيته لمكافحة تغير المناخ هي مجرد توجيهات إرشادية غير ملزمة ولا تملك قوة قانونية فى مواجهة الدول الأعضاء، إضافة إلى التفاوت الكبير بين دول الاتحاد بشأن الالتزام بتشريعات استراتيجية مكافحة تغير المناخ وتفضيل البعض إعلاء المصلحة الاقتصادية على حساب حماية البيئة وتراخيها فى تنفيذ خطط التكيف، خاصة فى ظل الأزمة المالية طيلة السنوات الأخيرة، فضلا عن أن بعض الدول الأعضاء بالاتحاد تكافح لحماية الصناعات الوطنية ضد ما يرون أنه تعهدات باهظة التكلفة.
أما التحديات الدولية، فتتمثل فى فشل الاتحاد الأوروبي فى إقناع العديد من الدول الصناعية الكبرى للمصادقة على بروتوكول كيوتو، الذي يعد الأداة التنفيذية لهذه الاتفاقية، وعلى رأسها الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ولم تلتحق الأخيرة باتفاق باريس إلا فى 2021 بعد انتخاب الرئيس جو بايدن وأهدرت ثلاثة عقود من عدم التعاون للحد من الاحتباس الحراري. كما أن بعض الدول النامية لم تصادق أيضا عليه. وقد حاول الاتحاد الأوروبي تدارك ذلك الفشل- خاصة بعد انتهاء العمل باتفاق كيوتو عام 2012 دون إحراز الالتزام الدولي المأمول- وكافح عبر مؤتمرات عدة بدءًا من كوبنهاجن بالدنمارك، مروراً بكانكون بالمكسيك، وصولاً لدربن بجنوب إفريقيا دون إحراز نتائج مأمولة. وقد طرح الاتحاد الأوروبي «خريطة الطريق»التي تلزم قانونا أكبر الدول المسئولة عن الانبعاثات بخفض تلك الانبعاثات، وذلك عبر إبرام صك دولي ملزم بحلول 2015، ويتم تطبيقه عام 2020.
إلا أن الصين، والولايات المتحدة، والهند، والبرازيل تصدت لهذه الخطة، رغم مسئوليتها الكبرى فى مشكلة ارتفاع درجة حرارة الأرض وكونها متضررة أيضا من تغير المناخ. على سبيل المثال، يبلغ حجم الخسائر المتوقعة فى قطاع الزراعة الأمريكية من 10٪ إلى 25% خلال الفترة بين 2020 و 2049، ومن 27% إلى 69٪خلال الفترة بين 2070 و 2099.وإذا كان الاتحاد الأوروبي قد نجح فى خفض انبعاثاته من الكربون بنسبة 17% ومتزايدة مقارنة بمستويات عام 1990 عند بدء تبني التدابير، إلا أن جهوده ليست كافية بمفردها. وبالتالي فإن الحلول لابد أن تشارك فيها جميع الدول، وبالأخص الدول الصناعية الكبرى التي تتحمل المسئولية الرئيسية عن انبعاث الغازات الدفيئة، مع ضرورة ترجمتها إلى التزام ثابت بتدابير جدية لخفض الانبعاثات وكذلك بحزمة تمويلات للدول النامية العاجزة بمفردها على تحمل التكاليف الباهظة لمواجهة تحديات تغير المناخ فى بلدانها.

فجوة بين السياسات والتنفيذ:
يتضح من استعراض السياسات البيئية فى الاتحاد الأوروبي أنها متقدمة مقارنة بغيرها وربما الأفضل بين الأمم. لكنَّ المفاجأة، التي توصَّلَت إليها دراسة علمية أكاديمية صدرت عام 2014، تكشف أن الواقع فى العديد من مدن ومناطق الدول الأوروبية قد يكون مغايرا للجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي فى صياغة السياسات والتشريعات؛ هذا حتى قبل الخوض فى المسئولية التاريخية الملقاة على أوروبا -مهد الثورة الصناعية- فى الإضرار بالبيئة والمناخ.وتشير أهم النتائج فى هذه الدراسة، التي تُعدُّ الأكبر من حيث اتساع رقعتها وعيناتها (11 دولة شملتها الدراسة) وشارك فى إعدادها 12 باحثاً ، إلى أنَّ أكثر من ثلث المدن الأوروبية لم تدرس أي خطة مخصصة للتخفيف من مخاطر التغيّرِ المناخيِّ (35%)، وأنَّ ثلثي المدن فى الاتحاد الأوروبي ليس لديها خطة تكيف مناخيّ (72%)، بينما هناك ربع المدن فقط لديها خطة للتكيف والتخفيف وتحدد أهدافًا كمية لخفض الغازات الدفيئة، لكنها مازالت بعيدة عن الهدف والطموح. جدير بالذكر أن الدراسة قامت بتحليل خطط 200 منطقة حضرية -ما بين مدن كبيرة ومتوسطة الحجم- للتكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره، وهي بذلك لم تعتمد على التقييم الذاتي (الاستبيانات أو المسوحات الاجتماعية)، وإنما اعتمدت على تحليلٍ مفصلٍ لـ 200 مدينة كبيرة ومتوسطة الحجم عبر 11 دولة أوروبية . 
وتوقعت الدراسة أن ثلثي المدن التي تم تحليلها ستحقق انخفاضًا بنسبة 37٪ فقط فى انبعاثات الغازات الدفيئة بحلول عام2050، وهو مستوى بعيد عن الهدف المحدد بـ 55% وفقاً لخطة الاتحاد الأوروبي المعدلة عام 2021. وتلك النسبة تترجم إلى انخفاض بنسبة 27٪ فى إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري فى الاتحاد الأوروبي ككل. ومع ذلك، توضح الدراسة، أن تلك الإجراءات ستغطي نسبة 20% للوصول إلى الأهداف الوطنية بينما هناك تقصير بنسبة 80٪ فى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة الموصى بها لتجنب ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية بمقدار درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة.
وتتوصل الدراسة إلى أن استجابة أوروبا للتغير المناخي من خلال تطور سياساتها التي بدأت صياغتها منذ عام 1990 وحتى الآن غير متساوية ومتفاوتة بين دولها، بل هناك فجوة بين مدنها داخل الدولة الواحدة؛ كما أن الكثير من التدابير والخطط الطموحة مازال ينتظر التفعيل لتحقيق الأهداف المأمولة لخفض الانبعاثات والتكيف للحد من التغير المناخي.
ويدعم نتائج هذا البحث ما جاء فى تقرير للوكالة الدولية للبيئة واستشهدت به دراسة لباحثين فى جامعتين جزائريتين، والذي أشار إلى فجوة السياسات داخل الاتحاد الأوروبي حيث إن 5 دول أوروبية زادت انبعاثاتها وهي البرتغال بنسبة 27%، واليونان 25%، وإسبانيا 15%، وأيرلندا 13%، والسويد 4%، بينما لم تخفض دول، مثل فرنسا وفنلندا انبعاثاتهما لمدة تجاوزت العقدين، ومازالت دول أخرى دون أهداف، مثل مالطا وقبرص. وهو ما ينطبق أيضاً على مدن عديدة ليس لديها خطة تخفيف حتى فى داخل الدول التي حققت خفضاً عاماً فى إجمالي انبعاثاتها. فى حين حققت 18 دولة أوروبية خفضا فى انبعاثات الغازات فى 2014 مقارنة بنسبها فى 1990 تتقدمها لوكسمبورج بنسبة 28%، وألمانيا، والدنمارك بنسبة 21%، تليهما المملكة المتحدة بـ 12.5%، بينما خفضت 13 دولة بنسبة تتراوح بين 6% و 8%، منها إيطاليا، وهولندا، وبلغاريا، وبلجيكا، واستونيا.
وعلى الرغم من أن تلك السياسات والتدابير قد شهدت حزمة مشددة من الإصلاحات خلال السنوات الماضية وتحديدا بعد 2015 -لم تشملها الدراستان المشار إليهما- إلا أن التفاوت سيظل قائماً لفترة؛ فمن غير المتوقع أن تكون الإصلاحات الأخيرة كفيلة بتداركه خلال السنوات القليلة المقبلة، مما يستدعي المزيد من الوقت والالتزام الجدي بالتنفيذ للخطط الوطنية لكل دولة.

المسئولية والمساءلة:
 أمام التحديات البيئية الجسيمة الآخذة فى التصاعد، تجدد طرح قضية المسئولية التاريخية عن أضرار المناخ حيث يعيد نشطاء البيئة ورجال القانون إثارة هذا الجدل القديم، نظرا لكونها قضية مهمَّة يرتكزون عليها فى الضغط لتحديد الدول المسئولة عن الآثار الاقتصادية لتلك الأضرار والمساءلة حول سياسة المناخ، وأيضاً السعي للإنصاف القانوني من خلال مطالبات بالتعويض عن تلك الأضرار. وتؤكد دراسة «الإسناد الوطني لأضرار المناخ التاريخية» أن قضية المساءلة تكتسب أهمية مضاعفة حاليّا فى ضوء تنصل كبرى الدول الصناعية عن مسئوليتها وتماطل فى المساهمة فى تمويل الأضرار الجسيمة لدى البلدان النامية، خاصة إفريقيا التي تعد بين الأكثر تضرراً. وقد تم بذل جهود علمية جديّة لتقييم المسئولية الوطنية عن تغير المناخ منذ اقتراح البرازيل عام 1997 الذي ينص على متطلبات التخفيف وضرورة أن تكون متناسبة مع المسئولية التاريخية لكل دولة عن الاحترار. ويشدِّدُ الباحثان أوكيريكي وكوفانتري (2016) على أهمية التقييم الكمي لمسئولية الدول الفردية عن تأثيرات تغير المناخ وكيف أنه ضروريٌّ لتطوير وتقييم اتفاقيات التخفيف القائمة على الإنصاف. علاوة على ذلك، يعد التحديد الكمّي الدقيق للانبعاثات التي تسببت فى إلحاق الضرر بالدول والشعوب، ومقداره، أمرًا بالغ الأهمية لدفع المناقشات القانونية الناشئة حول كيفية تقييم المحاكم للمسئولية بين الدول التي تعد مصادراً للانبعاثات فى العالم، كما أكدت على ذلك دراسة أخرى حديثة للباحثين برجر وال (2020).
ولعلَّ الأكثر أهمية فى حسابات الأضرار المنسوبة إلى الدول بشكل فردي -وليس جماعياً يتمثّلُ فى توفير معلومات لصانعي القرار المناخي والمسئولين عن صياغة السياسات حول الأماكن التي يجب أن تتركّزَ بها الجهود العلمية لدعم مناقشات المسئولية المناخية والسياسات المطلوبة للحدِّ من تلك المخاطر. وتصف الدراسة نفسها نتائجها بأنها «مساهمة مهمة فى الجهود المبذولة لتطوير الأدلة التي يمكن استخدامها لتقديم مطالبات قانونية بالتعويض». يأتي ذلك بعد تعطل طويل للمفاوضات بين الأطراف الدولية فى التوصل إلى كيفية تقييم وتعويض الأضرار، تلاها عدم اتفاق الدول الكبرى لحدّ الآن بالالتزام بتخصيص حزمة تمويلات كافية من الدول الكبرى للتكيف المناخي فى الدول النامية. ويؤكد مراقبون أن الاتحاد الأوروبي -بالتعاون مع مصر وعدد من الدول الشريكة- يسعون لتحقيق هذا الهدف والدفع بجميع الدول المشاركة فى مؤتمر  المناخ Cop 27  المقبل فى شرم الشيخ إلى إعلان الاتفاق على حزمة تمويلات مجزية ومقاربة لطموحات الدول النامية التي يتطلب نقل التكنولوجيا المتطورة إلى بيئتها أموالاً طائلة لا سبيل إليها إلا بالإسهامات الكافية من الدول المتقدمة.
وتتعلق الآمال بالاتحاد الأوروبي حتى يكون شريكاً منصفاً فى هذه المفاوضات فى ضوء قربه من الدول الإفريقية وارتباطه تاريخياً بالمصالح معها، خاصة أن ضخ الاستثمارات فى التكيف والتحول إلى الطاقة النظيفة يساهم فى إيجاد فرص عمل للشباب وفى الحد من موجات الهجرة من الشواطئ الإفريقية نحو أوروبا، وهي أهداف وإن تحققت على الأرض الإفريقية إلا أن الدول الأوروبية ستكون المستفيد الأول من نتائجها.

تقييم الأضرار:
فى السياق نفسه، ابتكرت دراسة أكاديمية حديثة (2022) نموذجاً إحصائياً لكيفية تقييم الأضرار الاقتصادية للاحترار المنسوب إلى انبعاثات كل بلد، حيث استخدمت نموذجًا بسيطًا لمناخ الكربون لتقدير مساهمة انبعاثات البلدان فى تغير متوسط درجة حرارة سطح الأرض. ونتج عن هذه المنهجية توزيع مليوني قيمة محتملة للأضرار التي لحقت بدولة ما والتي تُعزى إلى بلد آخر فى كل عام، وهو التوزيع الذي استفادت منه الدراسة لاختبار الأهمية الإحصائية لهذا الضرر. وكشفت الدراسة أن الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، والبرازيل، والهند هي أكبر الدول المصدرة للانبعاثات وفقاً لهذا النموذج الإحصائي، وتضيف الدراسة التي حملت عنواناً لها «مساهمة انبعاثات الدول فى أضرار المناخ»، أن هذه الدول الخمس قد تسببت مجتمعة فى خسائر فى الدخل بلغت 6 تريليونات دولار (أمريكي) من جراء الاحتباس الحراري منذ عام 1990، مقارنة بالحصول على 14٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي السنوي. وتوفر هذه المنهجية طريقة إحصائية لحساب حجم الأضرار التي تسببت فيها أي دولة ومن الممكن تطبيقها على دول أوروبا لمعرفة مساهماتها فى الانبعاثات. وتؤكد النتائج من جديد على أن المسئولية عن الاحترار تقع فى المقام الأول على عاتق مجموعة من الدول المسئولة عن الانبعاثات الرئيسية، وأن هذا الاحترار أدى إلى إثراء تلك الدول على حساب أفقر الناس فى العالم؛ بالتالي تحديد هذه التكاليف على كل دولة على حدة، ومن هي على وجه التحديد صاحبة المسئولية عنها بداية مهمة « للعدالة المناخية» وسداد الفاتورة لرفع الظلم التاريخي عن الدول المتضررة والذي يؤكد كيف أن الاحترار «البشري» المنشأ الذي ساهمت فيه الدول الصناعية بالحصة الأكبر من تراكم الانبعاثات يشكل انتقالًا كبيرًا للثروة من الفقراء إلى الأغنياء!
وتتوافق نتائج هذه الدراسة مع دراسة سابقة للباحثين ديفينبورج وبيرك (2019)، تظهر زيادة فى عدم المساواة العالمية من الاحترار التاريخي. وأوضحت خسائر الدخل فى أفقر شريحتين للناتج المحلي الإجمالي للفرد بالبلدان الأدنى دخلاً عالمياً، ولاسيما فى إفريقيا ووسط وجنوب آسيا، وهي المناطق التي عانت أكبر أضرار الانبعاثات.

ألمانيا الأكثر إضراراً بالمناخ:
يأتي ترتيب الاتحاد الأوروبي رابعاً عالمياً فى قائمة أكبر مصادر الانبعاثات بعد الصين، والولايات المتحدة، والهند وفقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، حيث أنتج 3.5 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون فى 2019. وتعد ألمانيا الأكثر مساهمة فى التغير المناخي على مستوى القارة الأوروبية (5.4%)، تليها المملكة المتحدة (4.6%)، وفرنسا (2%)، و بولندا (1.5%)، ثم إيطاليا (1.2%). وهذا الترتيب يتماشى مع التطور التاريخي للثورة الصناعية فى أوروبا وما صدرته من انبعاثات استمرت أضرارها التراكمية للعصر الحديث. وإذا كانت الدول الفقيرة أكثر تضررا من التغير المناخي، فإن آثاره طالت أيضاً بعض الدول الغنية والمتقدمة، ومن بينها ألمانيا، التي جاءت فى الترتيب الثالث بين الدول الأكثر تضرراً أيضاً، حيث ضربتها موجات حرارة هي الأشد فى تاريخها، مما تسبب فى أضرار فادحة فى القطاع الزراعي تكلفت ملايين اليوروهات، وفقاً لمؤشر «مخاطر المناخ» لعام 2020، الذي عرض خلال مؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ فى مدريد «Cop 25» واستند على معلومات تم جمعها عام 2018.
وهكذا كنتيجة لما تقدم يتضح أنه من حيث الانبعاثات التاريخية والتراكمية الحالية، تحتل الدول الأوروبية الأغنى مرتبة عالية فى المساهمة فى التغير المناخي، جنبا إلى جنب مع مجموعة العشرين وهي الدول الصناعية الكبرى. ويعد من أكبر مصادر الانبعاثات الملوثة للبيئة. وعلى العكس من ذلك، فإن البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل لديها انبعاثات تاريخية وتراكمية أقل أيضاً. حتى داخل البلدان، فإن الأغنياء نسبيًا هم المسئولون بصورة أكبر عن غالبية انبعاثات الكربون. أمام هذا التطور عبر ثلاثة عقود فى صياغة وتبني سياسات رشيدة تجاه البيئة مع تشديد الدول الأوروبية على سرعة تنفيذ الخطط المشتركة والالتزام بوعودها بتحول أسرع نحو الطاقة النظيفة، كان من المفترض الحد من استهلاك الوقود الأحفوري بنسبة 55% من أجل تحقيق الهدف العالمي للحد من الاحترار إلى درجة ونصف مئوية فقط قبل نهاية القرن الحالي. لكن، لم يتحقق هذا الهدف ومازالت السياسات تسير ببطء على صعيد التنفيذ الذي يتضح أنه متفاوت هو الآخر بين الدول وبين المناطق.
كما أنه منذ بداية الحرب فى أوكرانيا تغيرت المؤشرات، وأصبح من المتوقع زيادة استخدام الوقود الأحفوري بنسبة 14% لتعويض أي نقص فى إمدادات الطاقة. واتجهت الدول الأوروبية للعودة للاعتماد على الفحم كمصدر أساسي للطاقة، وهو أكثر مصادر الطاقة تلويثًا، حيث يعد مسئولا وحده عن ثلث الاحترار العالمي. وكانت ألمانيا من أولى الدول الأوروبية فى العودة للاعتماد على الفحم لسدِّ جزءٍ من احتياجاتها للوقود. وهي كارثة حقيقية لكنها لا تحظى بالاهتمام المطلوب على الرغم من خطورتها وفداحة أضرارها. ومازالت تداعيات الحرب الروسية لا تحظى بأولوية على أجندة المناخ العالمي بين الدول المتفاوضة حول طرق المساءلة وكيفية التعويض وحجم التمويلات للتكيف والاستثمار فى التكنولوجيات الحديثة للحد من الاحترار. وكما ذكر مارك كارني، المبعوث الخاص للأمم المتحدة المعني بتمويل إجراءات مواجهة التغيرات المناخية، فإن «تطوير التمويل المستدام الجديد لا يتقدم بالسرعة الكافية لتمكين العالم من خفض الانبعاثات إلى مستوى الصفر».
ولعل هذه القضية تجد أولوية الطرح مع كل القضايا السابقة المرتبطة بالتغير المناخي على أجندة المؤتمر السابع والعشرين لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ «Cop 27» الذي تستضيفه مصر نوفمبر 2022 ويُعوَّلُ عليه فى دفع عجلة العمل المناخي والتوصل إلى التزامات دولية أكثر إنصافًا ومسئولية من شأنها معاضدة مسار التنمية الاقتصادية الشاملة وتوفير فرص، خاصة للفئات الأكثر ضعفاً وتهميشاً فى المجتمعات الأكثر تضررا.

المصادر:
 

-

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية