تحليلات - شئون دولية

تداعيات حظر إمدادات الطاقة: فخ للاتحاد الأوروبي أم استنزاف لموسكو؟

طباعة

يشكّلُ وقف إمدادات الطاقة الحلقة الأخيرة في تصاعد التوترات بين روسيا والدول الأوروبية وسط الحرب المشتعلة في أوكرانيا. وفي الوقت الذي أوقفت فيه موسكو إمدادات الغاز إلى عدد من عملائها الأوروبيين، بعد رفضهم سداد الثمن بعملتها الروبل، يقترح الاتحاد الأوروبي بدوره فرض حظر كامل على النفط الروسي بحلول نهاية العام، وهي خطوة يصفها المراقبون بأنها دراماتيكية بالنسبة للقارة العجوز التي تعتمد بشكل كامل على الطاقة المستوردة من موسكو. وجاء الردُّ الأوروبي عقب المرسوم الذي وقّعه الرئيس بوتين في أواخر مارس الماضي بشأن آلية سداد ثمن الغاز الطبيعي المورَّد إلى "الدول غير الصديقة"، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، على أن يتمَّ السداد بالروبل الروسي. وكانت المفوضيّة الأوروبيّة تهدف من خلال فرض حزمة العقوبات الجديدة إلى زيادة الضغط على روسيا، مع تقليل الضرر الذي يلحق بأوروبا، على أن يتم وقف الاعتماد على النفط الخام الروسي في غضون ستة أشهر. فهل تزيد حزمة العقوبات على روسيا إحكام الضغط على موسكو لإخضاعها للجلوس إلى طاولة المفاوضات بدون شروط مسبقة، أم أنها "فخٌّ" وقع فيه الاتحاد الأوروبي، ومن شأنه تعميق الخلافات بين أعضائه في وقتٍ يتطلّبُ، على العكس من ذلك، مزيداً من التوافق والوحدة؟

أوروبا تقع في فخِّ العقوبات:

شكلت إمدادات الغاز الروسية أكثر من 40% من احتياجات الاتحاد الأوروبي في العام الماضي، في حين زوّدت روسيا الاتحاد الأوروبي بربع وارداته النفطيّة، وكانت هولندا وألمانيا أكبر المشترين. مع ذلك، لم تكن استجابة أعضاء الاتحاد الأوروبي لهذا القرار متماثلة. رحّبت الحكومة الهولندية بالقرار وأعلنت أنها تريد وقف جميع واردات النفط الروسي بحلول نهاية هذا العام. وخفّضت ألمانيا اعتمادها الكبير على واردات النفط الروسية، من 35٪ إلى 12٪. وقال وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، إن فترة الانتقال التي مدتها ستة أشهر تمنح برلين فترة كافية لإجراء التغيير.

ويركز الاتحاد الأوروبي منذ أسابيع على رسم خطّة لكيفية التخلص من النفط والغاز الروسيين. وقد تعهّد بالفعل بخفض واردات الغاز بمقدار الثلثين بحلول نهاية عام 2022، ويخطِّطُ الآن للتخلص التدريجي من النفط الخام على مدى ستة أشهر، والمنتجات المكررة بحلول نهاية العام الجاري.

لكن الخطة الأوروبية التي كانت من المفترض أن تدمر الاقتصاد الروسي فقط، خلقت، على العكس من ذلك، مشكلات خطيرة لأولئك الذين فرضوها وتسبّبت في تكاليف باهظة على اقتصاداتهم، حيث ارتفعت أسعار السلع والطاقة العالمية، وأدّت في الحقيقة إلى إيرادات أعلى لموسكو، على الرغم من الانخفاض الكبير في صادراتها. وقد تضاعفت إيراداتها إلى نحو 62 مليار يورو من بيع الوقود الأحفوري خلال العقوبات السابقة ضد روسيا، وفقاً لمركز البحث عن الطاقة والهواء النظيف الفنلندي. وبلغ إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز والنفط والفحم من روسيا بنحو 44 مليار يورو خلال الشهرين الأولين من بداية الحرب على أوكرانيا، مقارنة بنحو 140 مليار يورو لعام 2021 بأكمله، وهذا يعني أن الزياد أكثر من الضعف.

من ناحية أخرى، فإن ارتفاع الأسعار الدولية، من خلال التضخم، يعني مشكلات سياسية في الداخل لأولئك الذين يقفون وراء العقوبات. ومن المتوقّع تفاقم هذا الوضع، حيث أعلن ممثل شركة "جازبروم" الروسية بأن طلبات المستهلكين الأوروبيين لتوريد الغاز الطبيعي من روسيا عبر أوكرانيا إلى أوروبا صعدت هذا الأسبوع بنسبة 43%، وهذا يعني أن أوروبا قد تكون وقعت هي نفسها في فخّ العقوبات التي استهدفت في الأصل إضعاف الاقتصاد الروسي.

انقسام المواقف الأوروبية تجاه قرار حظر إمدادات الطاقة الروسية:

خطة حرمان الكرملين من مصدر رئيسي للدخل الروسي تستوجب أن توافق عليها الدول الأعضاء في الاتحاد، البالغ عددها 27 دولة. لكنّ المجر ترفضُ الاقتراح وتصفه بأنه غير مقبول، كما طلبت الحكومتان  التشيكية والسلوفاكية فترة انتقالية أطول، ولا تقل عن ثلاث سنوات.

لذلك، يرى المراقبون أن المشهد يتّجه حاليّا إلى عدم تصويت المجر لمصلحة الإجراءات الأوروبية التي تعرّض للخطر واردات بودابست من النفط والغاز الروسيَّين. ويؤكدون أنّ سلوفاكيا هي أيضا في نفس الدفّة مع المجر، حيث لا منفذ بحريٌّ لهما، وليس من السهل عليهما تنفيذ القرار، وهما غير متصلين في الوقت الراهن بأيّ أنابيب نفط أوروبية غير الروسيّة، وبالتالي يجب إقامة بنى تحتية أو إيجاد بدائل قبل التحمّس لتنفيذ قرار الحظر.

 وينبّهٌ المراقبون لحقيقة لا يمكن إغفالها، وهي أن العقوبات النفطية سيف ذو حدين بالنسبة للأوروبيين وغيرهم من المستوردين من روسيا، حيث إن التكلفة على المواطنين الأوروبيين ستزداد كل يوم. وقد ارتفعت بالفعل أسعار النفط بنسبة 5٪، أى إلى 110 دولارات للبرميل من خام برنت متأثرة بأنباء خطة الاتحاد الأوروبي لإلغاء وارداته من النفط الروسي.

غير أن المفوضية الأوروبية تستمرٌّ في تصعيد الضغوط على روسيا وأعلنت أنه سيتم أيضًا فرض حظر على تقديم خدمات أوروبية للشركات الروسية من خلال منع محاسبين ومحامين وأطباء، وكذلك خدمات لوجستية أخرى.

وقد أثرت العقوبات السابقة بالفعل على البنوك الروسية، وشُطب بنك سبيربنك، أكبر بنك روسي، من القائمة لأنه اعتُبر محوريّاً لعمليّات سداد ثمن الغاز الروسي. ويشكل سبيربنك أكثر من ثلث القطاع المصرفي في روسيا، ومن المقرر الآن إزالته من نظام سويفت للتحويلات المالية العالمية. وتم تضمين بنكين روسيين آخرين في المقترحات. واستهدفت حزم العقوبات السابقة أيضًا عددًا من الأفراد المرتبطين بالكرملين والحرب الأوكرانية. كما تمّ الترويج لكون رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، البطريرك كيريل، مدرجاً في القائمة الأخيرة، باعتباره قدّمَ دعمه لبوتين، مما دفع البابا فرانسيس إلى تحذيره من أن يصبح "فتى مذبح بوتين".

المجر ترفض تغليظ العقوبات وتعتبرها خطّاً أحمرَ:

يتميّزٌ الموقف المجري بأنه أكثر حدة تجاه تغليظ العقوبات الأوروبية ضد روسيا لدرجة أن رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، صنّفه البعض بأنه حليف بوتين، مشيرين إلى تصريحاته مؤخرا التي تشدّدَ على أن المجر ستمنع أي محاولة من جانب الاتحاد الأوروبي لتغليظ العقوبات على النفط والغاز الروسيّين. أوربان حذِّر أيضا من أن تمديد العقوبات لتشمل قطاعي النفط والغاز "خط أحمر"، لأنّ من شأنها "أن تقتل المجر" حسب تعبيره، مضيفًا أن العقوبات ستلحقُ أيضًا أضرارًا كبيرة بالاقتصاد الأوروبي. كما أوضح أن بودابست التي دعّمت حتى الآن مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه الحرب الأوكرانية من منطلق أن "الوحدة (في الاتحاد الأوروبي) مهمة"، لكنها لن توافق على وقف إمدادات النفط الروسي إليها بأيِّ حال. كما أعلن أنَّ المجر لن تقف عند هذا الحدِّ، بل مستعدّة لدفع ثمن منتجات الطاقة الروسية بالروبل إذا طُلب منها ذلك.

فى السياق، دافع أوربان أيضًا عن مواقفه تجاه بوتين، وقال إنه دعاه إلى جانب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والألماني، أولاف شولتز، للاجتماع في بودابست لمناقشة احتمال فرض هدنة أو وقف إطلاق نار مضيفاً أنّ "الرد كان إيجابيًا تجاه الجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ لكنَّ الرئيس الروسي يقول إنَّ لديه شروطاً معينة دون الخوض في تفاصيلها".

كما أكد أن المجر لن تُقدّم أي أسلحة لأوكرانيا. وذهب إلى حدّ توبيخ رئيس وزراء أوكرانيا زيلينسكي، الذي انتقد مؤخرا القادة الغربيين، مشيرا إلى أوربان بالاسم، لعدم تزويد أوكرانيا بأسلحة معينة بما في ذلك الطائرات المقاتلة والدبابات والأنظمة المضادّة للصواريخ.  واتسع التلاسن بين الرجلين لحدّ أن أوربان ردّ على زيلينسكي واتهمه بأنّ "لديه عادة سيئة تتمثل في إخبار الجميع بما يجب عليهم فعله". ورفض تلك الإملاءات، قائلا: "سيكون من الأفضل أن تتخلّى عن هذه العادة!"، موضِّحاً أنه من غير المعتاد "أن يطلب شخص ما في ورطة المساعدة ويخبرك بنوع المساعدة ويحدّدها، وإذا لم تساعده، فيخبر الجميع بذلك".

تكمن مشكلة المجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك في أنها جميعًا مغلقة غير ساحلية، وتعتمد على جيرانها للحصول على إمدادات الوقود، وتمثل إمدادات سلوفاكيا والمجر بمفردهما 96٪ و58% على التوالي من إجمالي وارداتهما النفطية من روسيا العام الماضي، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.

في المقابل، صعّدت أوكرانيا من لهجتها تجاه الدول التي ترفض تلك الخطة الأوروبية معتبرة أي دولة تعارض الحظر النفطي "هي متواطئة في جرائم روسيا بأوكرانيا مهما تكن حججها"، على حد وصف وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا.

دعوات إلى السماح بالدفع بالروبل:

مع اتجاه أزمة الطاقة نحو التعقيد في أوروبا على خلفيّة الحرب في أوكرانيا، ظهر المزيد من الأصوات داخل دول الاتحاد، تحاول البحث عن تدابير جماعية أكثر مرونة لتخفيف الأزمة الاقتصادية الخانقة بسبب الزيادة الهائلة في أسعار الطاقة، خاصة على المواطنين الأوروبيين.

اليونان، من جانبها، طالبت على لسان وزير الطاقة، كوستاس سكريكاس، بحلِّ مسألة كيفية دفع ثمن الغاز الروسي لشركة غاز بروم في مجلس وزراء الطاقة الأوروبي. كما طالبت بضرورة ضمان الاكتفاء من إمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا، والحاجة إلى اتخاذ تدابير لدعم الأسر، لاسيما أكثرها ضعفاً، وكذلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم بسبب الزيادة الكبيرة في أسعار الطاقة. أمّا إيطاليا فذهبت لأبعد من ذلك، حيث طالب وزير البيئة، روبرتو سينغولاني، بالسماح لشركات الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي بدفع ثمن الغاز الروسيّ بالروبل لبضعة أشهر على الأقل، في أثناء القيام بفرض العقوبات وضبط الأطر القانونية على روسيا. وفي حين أعلنت المجر فعليًّا فتحها حساب في البنك الروسي لدفع ثمن الغاز الطبيعي بالروبل، فإنَّ 9 دول أوروبية أخرى فتحت "خلسةً" من أجل الأمر نفسه، حسابات في هذا البنك، مثلما أعلنت عن ذلك وكالة بلومبورج الأمريكية.

وحذّر نشطاء البيئة الأوروبيون من خطورة العودة إلى الوقود الأحفوري الأكثر تلويثاً على غرار الفحم أو الغاز الصخري في كفاح بعض الدول، على غرار بولندا، للحصول على الطاقة وإبقاء أنوارها مضاءة، ممّا يسبِّبُ زيادة ملحوظة في انبعاثات الكربون.

ورغم وضع الاتحاد الأوروبي استراتيجية مسبقة لجعله مستقلاً عن الوقود الأحفوري الروسي، من خلال استخدام مصادر طاقة أكثر مراعاة للبيئة بحلول عام 2030، إلا أنه في المدى القريب ستظل أزمة نقص الطاقة مرشحة للتفاقم، ما يؤكد المخاوف بشأن عقوبات حظر الطاقة الروسية، وكيف أنها لم تكن إلاّ فخّاً لدول الاتحاد الأوروبيّ تضرّرت منه القارة العجوز بقدر ربّما يفوق الضرر الواقع على روسيا نفسها.

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية