مقالات رأى

هنا القاهرة .. العابرة لتحديات الزمان والمكان

طباعة

‫يقولون فى كتب التاريخ "من لم ير القاهرة لم ير الدنيا.. فأرضها تبر ونيلها سحر.. ونساؤها حوارىُّ الجنة فى بريق عيونهن.. ودورها قصور.. ونسيمها عليل، كعطر الندى ينعش القلب، وكيف لا تكون القاهرة كذلك، وهى أم الدنيا؟".

القاهرة مدينة متعددة المدن! فيها العواصم الأربع القديمة: الفسطاط، العسكر، القطائع، والقاهرة الفاطمية.. بالإضافة إلى قاهرة إسماعيل، ثم إلى "مدينة نصر" و"مصر الجديدة"، وامتداداتهما إلى مدينة القاهرة الجديدة ومدينة السلام.

وأصبحت العاصمة المصرية مدنًا خلف مدن.. وراء مدن، حتى إنها تخطت الاسم الجغرافى المتعارف عليه جغرافيًا باسم المدينة المتروبوليتان التى لم تكن تتعدى مدينتين أو مدينة وثلاث ضواحى مثل نيويورك التى تمتد إلى مانهاتن إلى بروكلين إلى ستاتين.

وتحكي شوارع العاصمة وجدرانها تاريخ شعب مصر وحضارته العريقة التى أثرت البشرية على مر العصور فهى من أكثر المدن تنوعًا ثقافيًا وحضاريًا وتعد متحفًا مفتوحًا يضم آثارًا فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية، فيعود تاريخ المدينة إلى نشأة مدينة أون الفرعونية أو هليوبوليس "عين شمس حاليًا" والتى تعد واحدة من أقدم مدن العالم القديم كما تضم "حصن بابليون" فهو من الآثار الرومانية القديمة، وتضم أيضًا الكنيسة المعلقة وشجرة السيدة مريم، وهي الشجرة التي استظلت بها السيدة مريم في رحلتها من فلسطين لمصر هربًا من بطش الرومان.

يقول كاتبنا  الراحل عباس الطرابيلى: "لم تعد القاهرة مدينة يسكنها عدة آلاف، بل مدينة يسكنها الملايين.. وكان عدد السكان فى أول إحصاء -وهو الذى أجرته سلطات الاحتلال الفرنسى عام ١٧٩٩- هو ٢٦٠ ألف شخص، ثم أصبح مع تحديث المدينة أيام الخديو إسماعيل ٣٧٥ ألفًا، فإذا قفزنا نحو ١٠٠ عام نجد أن عدد سكان القاهرة عام ١٩٦٦ هو ٤ ملايين و٢٢٠ ألف شخص، وبعد ١٠ سنوات يرتفع عدد سكان العاصمة إلى ٦ ملايين و١١٥ ألفًا، أى زاد عدد سكانها نحو مليونى نسمة خلال ١٠ سنوات، والآن يصل عدد سكان العاصمة إلى ١٠ ملايين، وإن كان عددهم يبلغ فى النهار ١٣ مليونًا يعملون فيها إذ يدخلها كل صباح نحو ٣ ملايين، يخرجون منها كل مساء، لأنهم يعملون بها، ولا ينامون أو يقيمون فيها". واشتهرت القاهرة القديمة -وبالذات الفاطمية- بتعدد مسالكها.. هناك: الميدان، والشارع، والحارة، والدرب، والزقاق، وكانت الحارة هى أساس تخطيط المدينة قديمًا، ومنها يتفرع الدرب والزقاق، إلى أن نصل إلى العطفة، ثم إلى الخوخة.

والحارة كان يقيم فيها إما أبناء المهنة، أو الحرفة الواحدة، ومازال أبناء "الحتة  الواحدة" يتحدثون عن أبناء الحارة الواحدة بقولهم "عيب دا احنا أولاد حارة واحدة"، أى هناك ما يربطنا.

وإذا كانت الخوخة هى الأصغر، فإن الرحبة هى التى كانت توجد أمام بيوت الأمراء والكبراء والأغنياء.. وجمعها رحاب، أما الزقاق فغالبًا ما كان مغلقًا فى نهايته، أى هو عبارة عن مدخل لعدة بيوت، وكان غالبًا ما تتفرع من الزقاق عدة أزقة، وأما الدرب فكان هو الأكبر الذى يبدأ من الباب الكبير للحارة عندما كان لحارات القاهرة أبوابها.والزقاق غير "الزنقة" فى تونس والمغرب، فإذا كان الزقاق عندنا صغيرًا فى الطول والعرض، إلا أن الزنقة عبارة عن شارع، ولكن أقل اتساعًا وطولاً من الشارع الطبيعى.

ولكن انتهت الحارات.. وانتهت الدروب.. وانتهى عصر الأزقة.. كما انتهى -من زمن- لفظ الخط أو الخطة التى تساوى الآن الحى أو المنطقة، لنجد فى عصرنا لفظ الأحياء وأقسام الشرطة، ذلك أنه فى التقسيم الإدارى للمدن الآن نجد أن قسم الشرطة ينقسم إلى أحياء أو مناطق، فنقول مدينة المهندسين، أو حى المهندسين الذى هو من أحياء قسم العجوزة.. وهكذا.

ولعل من المشاهد التى سجلتها ووثقتها عيون أهل الفن على أرض القاهرة، ما يأتى:

-   ثورة القاهرة الأولى: فى ٢١ أكتوبر سنة ١٧٩٨ حينما استولى الفرنسيون على مصر (١٧٩٨)، تحبب نابليون إلى المصريين وادعى احترامه لعقائدهم الدينية فأشرك العلماء فى شئون الحكم فى الدواوين التى أنشأها بالقاهرة والأقاليم. وبعد مدة قصيرة ثار المصريون والقاهريون، خاصة على هؤلاء المستعمرين لأسباب دينية واقتصادية ووطنية، فأخذت النفوس تغلي، ووجدت الدعوة إلى الثورة فى نفوسهم ارتياحاً. قام بتنظيم الثورة بعض المشايخ، وانضم إليهم فتوات الحرف ونودى بالثورة من مآذن المساجد، وكان الأزهر، خاصة، مركز الثورة الأولى.أخذ الفرنسيون على غرة وقتل الجنرال ديبوى حاكم القاهرة، وسرعان ما امتد لهيب الثورة فأمر نابليون بنصب المدافع على تلال المقطم وأرسلت نيرانها على حى الأزهر والأحياء المجاورة له واشتد الفرنسيون فى معاملة الأهالى فأعدم الذين اشتبه فى زعامتهم للثوار وفرضت الغرامات الفادحة على التجار والعلماء، وهجم الجند على حى الأزهر ودخلوا فى صحن الجامع وعاثوا فيه فساداً، وربطوا خيولهم بقبلته وحطموا القناديل. ولم يقبل نابليون إخلاء الأزهر من الجند إلا بعد شفاعة العلماء.

تلقى الفرنسيون هذا الدرس فشرعوا يحصنون القاهرة بإنشاء الحصون على المرتفعات، وألغى نابليون الديوان وألف ديواناً غيره وضم على أعضائه أخلاطاً من الطوائف المختلفة كالأقباط والسوريين والإفرنج والروم. وبلغ عدد أعضاء هذا الديوان الجديد ستين عضواً. وهكذا، أُخمدت ثورة القاهرة الأولى بعد يومين، لكنها خلفت آثاراً مهمة عملت على التباعد بين المصريين والفرنسيين..

-   ثورة القاهرة الثانية: فى ٢٠ مارس - ٢١ أبريل ١٨٠٠. بينما كان الجنرال كليبر منشغلاً بقتال العثمانيين، انتهز الفرصة فريق من الجيش العثمانى ومماليك إبراهيم بك ودخلوا القاهرة، وتحصنوا بها وأثاروا المصريين على الفرنسيين المقيمين بها، فحاصروهم وأقاموا المتاريس للدفاع وحفروا الخنادق وتمكن المصريون فى زمن وجيز من إنشاء مصانع للبارود والقنابل وصب المدافع وإصلاح السلاح عاد كليبر وأدرك حرج الحالة فى القاهرة وتمكن بدهائه من استمالة الأتراك والمماليك فكفوا عن القتال ثم حاصر الفرنسيون القاهرة أكثر من شهر وأكثروا من استخدام المدافع من المرتفعات. وعلى الرغم من بسالة ومقاومة المصريين، وتحملهم المجاعة، فقد تمكن الفرنسيون من إخماد الثورة، ودمروا حى بولاق ففتكوا برجاله وأحرقوا بيوته، ثم اشتد كليبر فى فرض الغرامات على المصريين فى القاهرة والأقاليم. فقد فرض على سكان القاهرة وحدها اثنى عشر مليوناً من الفرنكات فصودرت أموال كثير من التجار وتحمل العلماء نصيبا كبيرا من هذه الغرامات. وفى ١٤ يونيو عام ١٨٠١، طعن سليمان الحلبي الجنرال كليبر بينما كان يسير فى حديقة قصره، وحوكم سليمان وحكم عليه بالإعدام، وكذلك بعض العلماء الذين اشتبه فى تحريضهم له.

وما أطيب أن نردد تلك الأبيات من قصيدة "القاهرة" الشهيرة البديعة  للرائع الراحل سيد حجاب..

هنا القاهرة .. الآسرة الهادرة الساهرة.

الساترة السافرة.

هنا القاهرة .. الزاهرة العاطرة الشاعرة النيرة الخيرة الطاهرة.

هنا القاهرة .. الصابرة الساخرة القادرة المنذرة الثائرة الظافرة.

هنا القاهرة .. صدى الهمس في الزحمة والشوشرة.

رأس الوحدة في اللمة والنطورة.

هنا الحب والكدب والفشخرة.

هنا الحب والحق والرحمة والمغفرة.

هنا القاهرة.

وأنا في قلب دوامتك الدايرة بينا .. بأصرخ.

بأحبك .. بأحبك .. يا أجمل مدينة.

يا ضحكة حزينة .. يا طايشة ورزينة.

بحبك وأعفر جبيني في ترابك.

وأعيش في رحابك .. وأقف جنب بابك.

جنايني أروي بالدم وردة شبابك.

بأحبك .. بأحبك .. بأحبك.

بأحبك يا بنت اللذين!

ما رأيكم .. دام عزكم.

هنا .. القاهرة!

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مدحت بشاي

    مدحت بشاي

    كاتب صحفى