تحليلات - شئون دولية

هل تتخلى فنلندا والسويد عن حيادهما وتنضمَّان لحلف الـ "ناتو"؟

طباعة

دفعت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيير تاريخي في مواقف فنلندا والسويد بشأن الانضمام لحلف شمال الأطلسي الـ "ناتو"، حيث بدأت الدولتان الاسكندنافيتان المطلتان على بحر البلطيق الاستراتيجي والمعروفتان بحيادهما التقليدي في مناقشة هذا الأمر بجدية خلال الأيام الماضية خشية أن يلقيا مصير أوكرانيا بعد أن أيقظت مخاطر الحرب ضدها مخاوفهما الأمنيّة. فهل يُقدم هذان البلدان على الانضمام للناتو، ويتخليان عن حيادهما التقليدي نهائياّ وهل تكتفي روسيا بالتهديد حينئذ وتصمت عن مواصلة استقطاب الدول الغربية لفنائها الخلفي؟

عُقدت الأسبوع الماضي جلسات متعددة بين وزراء خارجية الدول الأعضاء في حلف الناتو حضرها ممثلون عن فنلندا والسويد. وتشير المحادثات إلى أن الدولتين أصبحتا على أهبة الاستعداد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي بحلول الصيف بعد أن أصبح لدى هلسنكي، كما استوكهولم، مخاوف أمنية تجاه روسيا، كما تصدرت قضية ضمان أمن البلدين اهتمام السياسيين والرأي العام الداخلي بالبلدين، وإن انقسموا حول قرار الانضمام.

التخلي عن الحياد في مواجهة التهديدات الروسية:

لم تنضم فنلندا والسويد لحلف شمال الأطلسي(الناتو)، الذي تأسس في 4 أبريل عام 1949، واكتفتا بشراكة محدودة عسكرياً مع منظومة الحلف منذ سنوات. والمعروف عن الدولتين الحياد في سياساتهما الخارجية، والتي تميزهما سواء تجاه الأزمات داخل الاتحاد الأوروبي أو تجاه كثير من الأزمات حول العالم. وهو نهج تقليدي ظل قائماً على مبادئ سيادة الدول وتغليب العقل والدبلوماسية لخفض التصعيد ولم يختلف هذا النهج منذ الحرب الباردة برغم اختلاف مواقف القيادات والأحزاب اليمينية واليسارية التي تناوبت على الحكم في البلدين.

دأبت السويد من جانبها على القيام بدور سياسي إيجابي وحيادي تجاه كثير من الأزمات وفي مقدمتها الخلافات الروسية-الأوروبية، وقد طرقت استوكهولم مجدّداً قبل أشهر باب الحلول السلمية واستضافت اجتماعًا لأول مرة بين كل من وزير خارجية روسيا، سيرجي لافروف، ونظيره الأمريكي، أنتوني بلينكن، على هامش اجتماعات مجلس الأمن والتعاون في أوروبا.

أما فنلندا فعرضت بدورها تنظيم قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأوكراني، فولوديمير زيلنيسكي، من أجل إنهاء النزاع بين بلديهما. وهو النهج نفسه الذي سارت عليه من قبل عندما استضافت في عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، القمة الوحيدة التي جمعته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولم تكف فنلندا طوال الشهور الماضية عن تجديد الدعوة للحوار بين كييف وموسكو والتوسط للتهدئة بعد إعلان المزيد من العقوبات الغربية ضد موسكو، وتحفيز مختلف الأطراف الداعمة لهذا الخط السلميّ حتى توقف إشعال الحرب بين الطرفين.

خطوات على طريق الانضمام للناتو:

أصبح من الواضح الآن أن استمرار نهج الحياد أمرا بعيد المنال، في ضوء فشل الحلول السياسية لتجنب مزيد من تصعيد الحرب الدائرة قرب حدودهما، وهو ما دفع حكومتي السويد وفنلندا لرفع وتيرة الحديث المباشر عن الاستعداد لانضمام البلدين الأوروبيَّين إلى الحلف خشية مواجهة مصير مشابه لأوكرانيا، ومن المتوقع أن تتسارع الخطوات من الآن وحتى الصيف نحو تطبيق هذا الهدف.

قبل أيام قام الرئيس الفنلندي، ساولي نينيستو، بزيارة واشنطن، وعقد مباحثات مهمة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض، وانضمت إلى ذاك الاجتماع لاحقاً عبر خاصية الفيديو رئيسة وزراء السويد، ماجدالينا أندرسون، وناقش ثلاثتهم مسألة الانضمام للناتو. ولعل أهمية معاهدة الناتو تتمثل في كونها توفر لأعضائها الحماية المتبادلة والدفاع المشترك حال تعرض أيِّ عضو لتهديد أو عدوان على أراضيه، حيث تنصُّ المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو على أن "أي هجوم مسلّحِ ضد واحد أو أكثر منهم سيعتبر هجوما ضدهم جميعا"، كما يتحتم على الناتو اتخاذ الإجراءات التي يراها ضرورية بما في ذلك استخدام القوة المسلّحة لاستعادة الأمن في أي منطقة تشملها بنود المعاهدة والحفاظ عليها. ويضم حلف الناتو حاليا ثلاثين دولة، بينها إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، التي كانت جزءا من حلف وارسو الذي أسسته موسكو ردا على الناتو وازداد الحلف نموا وتوسعا رغم تفكك الاتحاد السوفيتي وهو ما تراه موسكو تهديدا وجوديا لمصالحها وأمنها الاستراتيجي والإقليمي، خاصة بعد أن أصبح هناك خمس دول متاخمة لروسيا أعضاء في الناتو، إضافة إلى أوكرانيا التي أصبحت تحظى بدعم فعلي من الحلف رغم كونها لم تنضم بعد إليه حيث تم تصنيف هذا الدعم منذ 2014 تحت بند التدابير الجماعية المُحسّنة التي تقع في مجال اختصاص مبادئ الحلف.

وقد أقدم في هذه الأجواء المشتعلة بالتوتر كل من الجيش الفنلندي والسويدي على المشاركة في مناورات الحلف الأطلسي في النرويج بقيادة المملكة المتحدة، وهي مناورات تُعدُّ الأضخم من نوعها حيث ضمت نحو ثلاثين ألف عسكري. وزادت هذه الخطوة غير المسبوقة من التوتر على الجانب الروسي حيث رآها استفزازا مباشرا على حدوده وتهديدا لأمنه.

جدل وانقسام في البرلمان وبين السياسيين:

حتى تكون خطوات الانضمام للناتو شرعية، يعكف برلمانا البلدين على مناقشة موضوع تقديم طلب رسمي للدخول في الحلف وسط جدل واسع داخل الكتل النيابية بين مؤيد ومعارض. ولا يزال هذا القرار حتى الآن قيد الدراسة ولم يحظ بتوافق بعد من جانب الأحزاب السويدية والفنلندية على حد السواء، التي لديها مخاوف من هذه الخطوة تحسبا لردود فعل عنيفة لا يُحمد عقباها من جانب روسيا، كما أن بعض القيادات الشعبية داخل الحكومتين اليساريتين الحاكمتين في البلدين يعارضون بدورهم الانضمام، حرصا على تأمين مصالحهما كدول للجوار الروسي، تربطهما شراكات اقتصادية واستراتيجية دائمة ربما تفوق الحلفاء الأبعد عنهما جغرافيا.

فنلندا، على سبيل المثال، تشترك مع روسيا في حدود برية ممتدّة في الجهة الشرقية، ويبلغ طولها 1300 كيلو مترا، كما أنها تستورد احتياجاتها من الغاز والنفط الروسي بكميات ضخمة، وهذا عنصر مهم في تحقيق أمنها واستقرارها. ولا يخفى أن تحرك فنلندا للانضمام للحلف الأطلسي سيمثّل تحدياّ لروسيا التي لم تطو بعدُ صفحة المعاهدة التي كانت هلسنكي قد وقعتها بعد الحرب العالمية الثانية مع الاتحاد السوفيتي وفُرضتبمقتضاها رقابة من قبل موسكو على معظم قراراتها الأمنية، ثم استطاعت فنلندا التخفف تدريجيا من قيودها إلى أن طواها النسيان.

كل هذه العوامل من شأنها أن تجعل حسم الأطراف السياسية داخل فنلندا للجدل الدائر حول الانضمام للناتو أمراً في منتهى الصعوبة حالياّ وتحسبُ له ألف حساب تجنّباً للدخول في أتون معارك سياسية وأمنية جديدة مع موسكو هي في غنىً عنها.

أما عن الموقف في السويد، فكانت رئيسة الوزراء، ماجدالينا أندرسون، قد شدّدت مراراً منذ نشوب الأزمة الأوكرانية على أنَّ السويد لم تحسم أمرها بعدُ وأنها مازالت تراقب التطورات الدولية ولا تسعى للخروج عن حيادها، إلاّ أنَّها أعلنت، مؤخرا، ولأول مرة فتح الباب أمام احتمال الانضمام للحلف العسكري الغربي. وأكدت أندرسون التي تتزعم الحزب الديمقراطي الاجتماعي في بلادها في حوار مع قناة "إس في تي" التلفزيونية العمومية، أنّها "لا تستبعد" أن تقدّم بلادها طلباً للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وقالت إنها بصدد إجراء تحليل معمّق للإمكانيات المتاحة أمام بلادها في هذا الوضع، والتهديدات والمخاطر المرتبطة بها، لاتخاذ القرار الأفضل بالنسبة للسويد والسويديين. ووصف المراقبون هذا الموقف بأنه تراجع واضح من طرف رئيسة الوزراء عن موقفها السابق الذي اعتبر الانضمام للحلف الأطلسي تهديداً للأمن في شمال أوروبا. كما اعتبر المراقبون أن التصريحات التلفزيونية لأندرسون بمثابة التحضير للرأي العام في بلادها لتقبّلِ الموقف الجديد الذي يتجه نحو حسم الانضمام للناتو، على الرغم من استمرار معارضة أعضاء من حزبها الديمقراطي الحاكم نفسه. ويشير المراقبون أيضاً إلى أنّ هذه الخطوة ربما تكون تكتيكية، خاصة في ضوء قرب موعد الانتخابات التشريعية المقررة في 11 سبتمبر المقبل، حيث من المتوقع أن تحتلَّ هذه القضية صدارة محاور حملة الانتخابات التشريعية، خاصة في ضوء أن أنصار الانضمام لحلف شمال الأطلسي التقليديين، وهم في غالبيتهم من اليمين، يستمرّون في حصد النقاط لصالحهم في الأسابيع الأخيرة.

ومن جانبها، طالبت وزيرة خارجية السويد، آنا ليند، موسكو بالتوقف عن التعليق حول مسائل تخص السويد "كدولة ذات سيادة وقرار مستقل" بعد صدور تحذيرات روسية من الإقدام على تلك الخطوة السويدية الفنلندية المحتملة، حماية لأمنها القومي.

الأمين العالم للحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرج، أعلن بدوره بعد لقاء الاثنين الماضي مع وزيري خارجية فنلندا والسويد أن قرار الانضمام لحلف الناتو يعود للدولتين، والأعضاء الثلاثين في الحلف.

ختاما، في ضوء استمرار الجدل قد يأتي قرار الانضمام في الأفق القريب إذا تغلبت الأصوات المؤيدة لهذه الخطوة، أو قد يتم الاكتفاء بتعزيز التقارب حاليّاً مع الحلف الأطلسي. لكنّ المرجّح وفقا للمراقبين أن إعادة تقييم الموقف واتخاذ أي خطوة جدية في السويد نحو الانضمام لن تتحقّقَ إلّا بعد خطوة من فنلندا نحو الانضمام، أو تهديد أمنيّ "جلل" إلى حدّ يبدّل الحسابات السياسية الراهنة. لكن عندئذ ستكون صفارة الحرب الشاملة قد انطلقت بلا شك لتشمل أطرافا جددا، لأنها لن تبقى مقتصرة على أوكرانيا، فروسيا لن تتقبّل عضوية جارتين جديدين في حلف الناتو!

طباعة

    تعريف الكاتب

    ألفة السلامي

    ألفة السلامي

    صحفية متخصصة في الشئون الدولية