تحليلات - قضايا عالمية

آليات المباغتة والصمود: استراتيجيات الإعلام الأمريكي والروسي في الحرب على أوكرانيا

طباعة

تشكل الحروب الكثير من التداعيات والتحديات لوسائل الإعلام، حيث تتميز الحروب بالرهانات الكبيرة باختلاف وجهات النظر وتضارب المصالح وتشابكها بين الدول والشعوب، كذلك تتداخل عدة عوامل ذاتية مع بعضها البعض كالأمن القومي، والمصالح القومية والوطنية من جانب، مع الموضوعية، والمهنية،  والأخلاق من جانب آخر. إلا أنه في وقت الحروب يكون الهدف الأساسي إنجاح السياسة الوطنية والانحياز التام الي الطرح السياسي والعسكري بشأن الحرب، وفي هذا الإطار نستعرض آليات عمل الإعلام الأمريكي من جهة، والروسي من جهة أخرى حول الحرب في أوكرانيا.

أولا - آليات عمل الإعلام الأمريكي مع الحرب:

لا تعتمد الولايات المتحدة في التغطية الإعلامية للحرب فقط على الإعلام الأمريكي، بل إنما على وسائل الإعلام العالمية كذلك، إذ تستخدم أساليب الاختراق والتلاعب والتشويه في الدعاية والحرب النفسية في كسب الرأي العام الدولي بشكل تام تجاه أهدافها. وتعتمد الاستراتيجية الأمريكية على ما يلي:-

1. حق الامتلاك لكافة تفاصيل وأخبار الحرب: استفادت الولايات المتحدة من تجارب الحروب السابقة من خلال فرض الرقابة العسكرية فيما يتعلق بأخبار الحروب، بما يتناسب ويتناسق مع الخطط الاستراتيجية الأمريكية. إذ تعتبر الإدارة الأمريكية أن التغطية الإعلامية للحرب هي جزء لا يتجزأ من الحرب نفسها، وهو ما ظهر جليا في تحديد عدة مواعيد لشن الهجوم الروسي على أوكرانيا، بل تمادت إلى أكثر من ذلك بتحديد بعض الضربات الافتتاحية في الحرب، إضافة إلى تسريب ما سمته الإدارة الأمريكية بشفرات التواصل بين الجنود الروس.

2. الحرب النفسية وتهيئة الرأي العام: هيأت الولايات المتحدة الأجواء النفسية والسيكولوجية للحرب بالاعتماد على الحرب النفسية والدعاية وتجنيد الإعلام للتأكيد على وجود الحرب قبل اندلاعها بالأساس. وبهذا لجأت إلي براهين مثلت الرئيس الروسي وكأنه معتد مغتصب لحقوق الغير، كذلك أنه معاد للديمقراطية والحرية واحترام القوانين الدولية، كذلك قدمه الإعلام على أنه مصدر خطر على الدول الحليفة لأمريكا في المنطقة، وأخذت تستعين بالمواقف الدولية المناهضة لإعلان بوتين الاعتراف بجمهورتي دونيتسك ولوجانسك الشعبيتين من جانبه. هدفت الولايات المتحدة بذلك إلى التحكم في كل ما يتعلق بالحرب وخلفياتها وأهدافها وخسائرها وضحاياها، عبر بناء صورة كاملة للحرب وتسويقها لهندسة رأي عام يؤمن بأن الاعتداء الروسي هو اعتداء غاشم يجب الوقوف ضده ومناهضته.

3. صناعة العدو في شخص: ووفق هذه الآلية تحاول الآلة الإعلامية الأمريكية والغربية صناعة عدو قائد ممثل في شخصية بوتين وتسويقها للرأي العام العالمي على أنه هو الدكتاتور وليس البلد أو شعبها. ونجد هنا ربط الإعلام الأزمة بشخص القائد العدو وهو فلاديمير بوتين، وتسويق الجوانب السلبية في هذه الشخصية بالإضافة إلى تشبيهه بنماذج تاريخية لها ماض سيئ في الحروب، مثل هتلر، وستالين، وموسوليني وهو ما يضمن التعاطف الدولي ضده وضد أفعاله، وضرورة إيجاد وسيلة لتخليص العالم من دكتاتور وليس فقط رئيسا خطيرا.

4. تهديد الأمن والاستقرار الدوليين: هنا يتم تضخيم استعمال الدعاية بحجة تهديد الاستقرار الدولي عبر تضخيم الآثار الناتجة عن توسع إطار العمليات العسكرية، وتستهدف الآلة الإعلامية الأمريكية هنا هندسة الرأي العام الدولي بانعدام الأمن والاستقرار وأن حياته في خطر، وهو ما يدفع الرأي العام إلى تبني التحالف أو التماهي مع الاستراتيجية الأمريكية.

5.  الجانب التكنولوجي الدعائى في الحرب: تركز الدعاية في هذه الآلية على القوة التكنولوجية الهائلة في تصوير العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على أنها إبادة عرقية وموجهة ضد المدنيين، وصياغة عبارات تضامنية ضد الحرب الروسية، مثل الحرب غير النظيفة، والإبادة في أوكرانيا، تضامنا مع أوكرانيا. وتستهدف الآلية الإعلامية الأمريكية السيطرة على سبل تلقي العقول بمعنى السيطرة على العقل الجمعى من خلال السيطرة على مصادر معلوماته من خلال شبكات الإنترنت أو الوسائل الإعلامية الرقمية المختلفة.

ثانيا- آليات عمل الإعلام الروسي: 

اعتمدت روسيا على استراتيجية الصمود وامتصاص الصدمة في المواجهة الإعلامية مع الولايات المتحدة، فتعلمت روسيا الكثير من دروس الماضي والخطب الإعلامية التي كانت تظهرها في صورة الدولة الجائرة أو المعتدية على حقوق الغير، ومن هنا نجد اعتماد بوتين على استراتيجية واقعية جديدة يستهدف بها الآلية الأمريكية، وفيما يلي أبرز آليات الاستراتيجية الروسية:-

1. التضليل الاستراتيجي للخطاب الأمريكي: اعتمدت روسيا على سياسة الصمود إذ لم تجار دفاعا مع ما ظهر من الإعلام الأمريكي بأن روسيا تحشد للحرب، وتسريبات تتعلق بالشفرات وتوزيع الضربات الافتتاحية وغيرها، بل أخذت بسياسة تفكيك الخطاب وتضليله. إذ لم يظهر بوتين لينفي أيا من التهم الأمريكية الموجه إليه، بل خرجت تصريحات النفي من أجهزة الإعلام والأجهزة التنفيذية المختلفة، وعملت بذلك على أن الرئيس لا يخرج لينفي عن نفسه تهم في موقف دفاع، بل ربط ظهور الرئيس بوتين بسياسة الفعل وليس رد الفعل.

2. الاعتماد على سياسة المقاومة وليس الاعتداء: نجد هنا استيعاب الروس دروس الحروب السابقة، إذ ارتبط ظهور بوتين بخطاب إعلان استقلال جمهورتي دونيتسك ولوجانسك الشعبيتين، بمظهر المقاوم الذي يبحث عن مجد القومية الروسية لا الإرث السوفيتي، إذ عبر خطابه عن دروس تاريخية وإشارات واضحة بأنه لا يبحث عن الإرث السوفيتي، بل نقد بعد قياداته التي أدت إلى انهياره، بل عرض نفسه مقاوما قوميا يبحث عن قومية الأمة الروسية في جميع بلدان الإمبراطورية الروسية السابقة.

3. إثارة الشكوك، وصناعة الحيرة: اعتمد بوتين على استراتيجية إثارة الشكوك في نواياه هل سوف يتم الإقدام على الحرب أم لا، حيث حددت الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية عدة مواعيد للاقتحام الروسي لأوكرانيا ولم يقدم بوتين على الحرب في المواعيد التي أعلنت، كذلك عندما أعلن بوتين باستقلال الجمهوريات عن أوكرانيا، تشكك البعض في اتخاذه قرار الحرب خاصة بعد قبوله التفاوض جراء دعوة الإليزيه له لإجراء مفاوضات حول وضع الأمن في أوروبا. 

ثالثا- مستقبل الحرب الإعلامية بين الإعلام الأمريكي والروسي حول أوكرانيا: 

 يظهر من تحليل الاستراتيجية المتبعة من الإعلام الروسي والأمريكي، أن الحرب الإعلامية باتت جزءا لا ينفصل عن مجريات الحرب الحقيقة، بل هي المعركة الأهم لتسويق وشرعنة الحرب من جانب الروس أو مقاومتها ومناهضتها من الجانب الأمريكي، لذلك فإنه من المرجح أن يتخذ كل منهم ما يلي:-

· الجانب الأمريكي: سوف يستهدف الجانب الأمريكي من خلال الآلة الإعلامية إطالة أمد الحرب إلى أقصى درجة ممكنة، إذ يعلم الجانب الأمريكي أهمية استنزاف الروس في حرب طويلة في ظل وضع اقتصادي صعب في الداخل الروسي، إضافة إلى أن إطالة أمد الحرب يفقدها شرعيتها ويكون رأيا عاما ضاغطا لإنهائها وإنهاء معاناتها وتكليفاتها.  هذا إلي جانب اعتماد الآلة الإعلامية الأمريكية على إظهار ضحايا جراء الحرب موالين للروس أو يتحدثون الروسية أو من علاقات المصاهرة بين الروس والأوكرانيين فيما يعرف باسم السلافيين الشماليين، وهو ما يمثل ضربة قاسمة للحلم القومي الذي يتحدث عنه بوتين وهي الاستراتيجية التي سوف تظهر من اليوم التالي للحرب.

· أما الجانب الروسي: فسوف يعتمد على استراتيجية تطبيع السلوك، بمعنى جعل السلوك الذي كان لحدّ اللحظة منفرًا، شيئًا طبيعيًا، وهذه الاستراتيجية سوف تكون موجهة إلى الرأي العام الأوكراني والأوروبي بالأساس فهو يعتمد على كثرة المعلومات المتضاربة التي تصعّب من اتخاذ القرار المناسب، ومنه يدخل الفرد في دوّامة من الحيرة حتى يبدو تائها وجاهلا حول ما يجري، ويزيد العبء النفسي والذهني عليه، فيلوذ بقبول ما لا ينبغي القبول به، طمعا في النجاة من هذه الدوامة، وهذه تحديدا هي الغاية، فهو سوف ينتهج سياسة مفادها أن التدخل هو دفاع عن الجمهوريات المستقلة، وأن أي تحرك مضاد هو اعتداء لابد من مقاومته بكل بقوة وتحقيق انتصارات سريعة متتالية في وقت قصير. ليصبح الأمر الذي كان منفرا من الأمور المقبولة والمسلم بها. 

طباعة

    تعريف الكاتب

    مصطفى كمال

    مصطفى كمال

    باحث فى شئون الأمن الإقليمى