مقالات رأى

تقلبات أسعار النفط.. تاريخ طويل من التجارب والاختبارات

طباعة

لعب النفط والغاز دوراً كبيراً في تغيير نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والبنية التحتية فى جميع دول العالم، كما أن صناعة النفط وفرت مبالغ كبيرة لهذه الدول، حيث أمكنها تأسيس العديد من الشركات الصناعية والقيام بمشروعات استثمارية كبيرة تم من خلالها توظيف المواطنين، مما أثر في تحسين أوضاعهم المعيشية، أي أن النفط كان له الأثر الكبير في تغيير ملامح ومعالم الحياة للأفضل.

مرت أسواق النفط العالمية خلال العصور الماضية بالعديد من التقلبات السعرية والأحداث المهمة، وذلك ليس بغريب على أسواق الذهب الأسود، فقد كانت ولا زالت كذلك منذ تاريخ تداول أول برميل لها حتى تداول آخر برميل، فالمعادلة النفطية معادلة معقدة يؤثر فيها الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية والتقنية، ولذلك فعملية استشراف أسواق النفط وتغيراتها تتطلب حسابات معقدة وجهداً استثنائياً، ومتابعة دقيقة ولحظية لجميع العوامل المرتبطة والمؤثرة في صناعة النفط العالمية.

يتميز تاريخ النفط الخام بالأحداث السياسية والاقتصادية، والتغيرات التي تطرأ على صناعة النفط، والتطورات التكنولوجية، والتي لا تزال تؤثر في سعر النفط اليوم.

محطات تاريخية في صناعة النفط:

من أذربيجان كانت البداية، والتي يطلق عليها بلد النار الأبدية بسبب تسرب الغاز بشكل مستمر بين شقوق أراضيها في ظاهرة لم يفهمها القدماء فظنوا أنها ظاهرة خارقة فعبدوها، في العاصمة باكو التي كانت محط أنظار العالم، ومازالت، وهي التي جلبت ستالين للسلطة في روسيا، والتي أسهم النفط في جعلها عاصمة ثقافية عالمية تضاهي لندن وباريس في متاحفها ومكتباتها، والتي تعتبر عاصمة النفط الأولى في العالم، والتي تم اكتشاف النفط بها بكميات تجارية وقبل اكتشافه في كندا بنحو عشر سنوات، وأذربيجان كذلك هي الدولة التي شهدت إنشاء أول خطوط أنابيب للنفط الطويلة، وأول حاملة نفط في العالم، وأول بئر نفط بحرية، وهي التي شهدت أول عمليات تمويل نفطية على مستوى عالمي، وشهدت ميلاد شركة شل بوصفها شركة نفطية، فأصول صناعة النفط ترجع فى باكو إلى عام ١۸٣٧ الذى تم فيه إنشاء أول مصفاة تجارية للنفط، وذلك لتقطير النفط إلى نفط أبيض لاستخدامه كزيت للإضاءة والتدفئة.

وقد تلا ذلك أول بئر عصرية للنفط في سنة ١۸٤٦، والذي وصل عمقه إلى ٢١ مترا، وقد مثل آنذاك حقل واحد للنفط في باكو أكثر من ۹٠٪من إنتاج النفط العالمي، حيث كان موجها إلى فارس في ذلك الوقت، ومنذ ذلك التاريخ انطلقت شرارة الذهب الأسود في العالم، وسرعان ما تلا ذلك حفر آبار نفط في بولندا ١۸٥٤، ورومانيا ١۸٥٧، وكندا ١۸٥۸ والولايات المتحدة الأمريكية ١۸٥۹، وحققت الولايات المتحدة الأمريكية تقدماً ملحوظاً في صناعة النفط، إذ أصبحت في غضون عامين تنتج تقريباً نصف الإنتاج العالمي، ومعها ارتفعت الأسعار بصورة مذهلة من نحو 0.49 دولار للبرميل سنة ١۸٦١ إلى 6.56 للبرميل سنة ١۸٦٥. 

في سنة ١۸٧٠، قام جون روكفيلر بتأسيس شركة ستاندرد أويل في أوهايو، وأصبحت الشركة في وقت قصير هي اللاعب الرئيسي في صناعة النفط العالمية، توسعت الشركة في أرجاء البلاد وشرعت في التصدير إلى الأسواق الخارجية بما في ذلك الصين، وقد لقيت الشركة نجاحاً كبيراً، وأصبحت الشركة تسيطر تقريبا على ۹٠٪ من النفط المكرر في الولايات المتحدة.

نتيجة لتوسيع نطاقات الإنتاج في الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، انخفضت الأسعار بشكل ملحوظ وهبطت إلى ما يقرب من 0.56 دولار للبرميل عام ١۸۹٢، وسرعان ما دخلت التكنولوجيا وثورتها عام ١۸۹٦ وأذكت عمليات الطلب العالمي على النفط مع إطلاق أول سيارة تجارية في ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عام ١۸۹٦.

بزوغ نجم الأخوات السبع وثورة صناعة النفط العالمية:

إثر اكتشاف النفط في سبيندلتوب في ولاية تكساس، تم إنشاء شركة نفط الخليج عام ١۹٠١، وفى عام ١۹٠٧ تم إدماج كل من الملكية الهولندية وشل لتكوين تحالف Royal Dutch/Shell والذي كان يهدف إلى الإبقاء على روح التنافسية في مواجهة منافسة الأسعار المرتفعة من جانب الشركات الأمريكية، وتلاها إنشاء شركة النفط الفارسية عام ١۹٠۸، والتي تغير اسمها إلى BPإثر بداية اكتشاف النفط في إيران.

تم إنشاء كل من شركتي شيفرون واكسون موبيل عام ١۹١١ عندما فصل ستاندرد أويل من طرف محكمة النقض الأمريكية كنتيجة لانتهاكات الممارسات الاحتكارية، وتم إطلاق لقب الأخوات السبع على تلك الشركات، والتي سيطرت على أكثر من ۸٥٪ من الاحتياطي العالمي.

وفى عام ١۹١٢، تم اكتشاف النفط في كاشينغ في ولاية أوكلاهوما التي أصبحت في وقت قصير واحدة من أهم حقول النفط العالمية، حتى أصبحت المركز الذي يتم فيه حسابات سعر النفط العالمي، وبالرغم من تقلص أهميتها كمركز للإنتاج.

الحروب والاكتشافات وأزمات النفط ما بين أعوام ١۹١٤ و١۹٤۹:

مع بداية اندلاع الحرب العالمية الأولى، ازدادت عمليات الطلب العالمي على النفط، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار من 0.81 دولار للبرميل إلى 1.98 دولار عام ١۹١۸ وبعد الحرب ازداد الطلب على النفط، مما أدى إلى نقص واضح في البنزين في السواحل الغربية للولايات المتحدة الأمريكية عام ١۹٢٠، وتسبب في ارتفاع الأسعار العالمية للبرميل إلى أكثر من ٣ دولارات ثم بفضل عمليات زيادة الإنتاج تراجعت إلى 1.6 دولار للبرميل.

وما بين ١۹٢٢ إلى ١۹٣۸ تم اكتشاف العديد من الاكتشافات البترولية التجارية المهمة في العديد من دول العالم، ومعها تم تدشين أول حفارة بحرية في خليج المكسيك عام ١۹٤٧.

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة ١۹٣۹، وبالرغم من آثارها العالمية على الاقتصاد العالمي، لم يكن لها تأثير كبير على الأسعار هذه المرة بسبب وفرة العرض العالمي من النفط، إلا أن الحرب أوضحت أهمية استراتيجية كبيرة، وهي ضرورة السيطرة على إمدادات النفط بالنسبة للحكومات، كما دلل على ذلك أفعالهم على مدى العقود القليلة التي تلتها.

حرب السيطرة على أسواق وحصص إنتاج النفط:

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت دول العالم تتطلع إلى تأميم مواردها النفطية، فقامت كل من إيران والمملكة العربية السعودية بالبنية التحتية النفطية ما بين عامي ١۹٦٠ و١۹۸٠ ودخلت مصر اللعبة بالسيطرة الكاملة وتأميمها لقناة السويس، والتي كان يمر من خلالها أكثر من ٥٪ من إنتاج النفط العالمي.

 وبالرغم من كل تلك المحاولات، فإن السيطرة العامة على أسواق النفط العالمية ظلت محصورة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وعندما بدأت روسيا إلى لعبة إغراق الأسواق بالنفط الرخيص فى أواخر عام ١۹٥٠، اتفقت الأخوات السبع في ذلك الوقت على تخفيض أسعار النفط والعربي والفنزويلي لكي تظل قادرة على الوجود في حلبة المنافسة العالمية.

أوبك ومحاولات وضع نقطة نظام لأسواق النفط العالمية:

التقى مسئولون من المملكة العربية السعودية والعراق والكويت وإيران وفنزويلا في العاصمة العراقية بغداد عام١۹٦٠، لمناقشة سبل كيفية التعامل الجاد مع إجراءات تخفيض الأسعار الذي فرضته شركات النفط العالمية، واتفقوا على فكرة إنشاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، والتي تهدف إلى التقليل من حدة المنافسة بينهم والتحكم في الأسعار. ويتضح من السجلات التاريخية لمنظمة الأوبك أن الهدف الرئيسي من فكرة إنشاء المنظمة هو تحقيق العدالة، بحيث يحصل مالك الموارد الطبيعية على عائد عادل وحقيقي، يمكنه من عمليات تنويع مصادر الدخل والانتقال إلى مرحلة الاستدامة من دون الاعتماد على النفط بشكل رئيسي، هذه الدعوة سببت إشكالية تاريخية، فاتهم كلاهما بأنهما اشتراكيان وشيوعيان.

وحققت المنظمة العديد من النجاحات على مر السنوات الماضية، وجاء تأسيس منظمة أوبك في فترة حركات التحرر العالمية وانتشار كبير للأفكار القومية العربية، وجاءت بعد تأميم محمد مصدق للنفط في عام ١۹٥١، وتأميم قناة السويس في ١۹٥٦، بغض النظر عن هذه الخلافات، التي أغلبها أكاديمية، من الواضح أن أكبر نجاحين حققتهما أوبك كمنظمة هما، تنفيق الريع والعمل على تشجيع أعضاء المنظمة على المشاركة في الشركات كي يكون لها دور أكبر في عمليات الإنتاج والتصدير، ونجحت في ذلك نجاحاً كبيراً، حيث تم تنفيق الريع، الأمر الذي أدى إلى زيادة إيرادات الدول من النفط، وقامت بعض دول أوبك بالتأميم، بينما قامت دول الخليج بالمشاركة مع الشركات، الأمر الذي زاد إيراداتها من جهة، وأعطاها قدرة أكبر على التحكم في الإنتاج والتصدير من جهة أخرى.

وسيظل السؤال الذي يتكرر هو: هل حادت أوبك عن الطريق الصحيح؟

إن عدد المتخصصين بمنظمة الأوبك وفلسفتها وتاريخها ودورها قليل، ويعد على الأصابع، وهناك سؤال يدور بينهم عما إذا كانت الرؤية الأصلية لأوبك تختلف تماماً عن وضع أوبك الآن. هناك من يرى أنها حادت عن طريقها الصحيح، وهناك من يرى أنها سارت في طريقها وحققت أهدافها، ولكن ستظل الرؤية الشخصية أنها حادت عن طريقها الصحيح، ولكن لو احتفظت بنفس النهج لما كان يوجد مصطلح أوبك حالياً، فهذا التغيير هو الذي أبقاها حتى اليوم، لأنها لو تحولت إلى منظمة قوية مهمتها تطوير الدول الأعضاء بالشكل الذي تصوره ألفونسو والطريقي، لانتهي هذا المصطلح من قاموس صناعة النفط العالمية.

زيادة المفهوم الخاص بالعرض والطلب:

سيطرت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي على أسواق النفط العالمية لفترة طويلة، ولكن انتقل النفوذ إلى منظمة أوبك، كما ساعدت الظروف المحيطة بحرب أكتوبر عام ١۹٧٣، والأحداث المرتبطة بها، وظهور ميزة للنفط كسلاح استراتيجي قوى، عندما قرر أعضاؤها فرض حظر النفط على الدول الداعمة لإسرائيل (خاصة الولايات المتحدة الأمريكية)، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار من معدل 2.48 دولار للبرميل عام ١۹٧٢ إلى 11.58 بحلول ١۹٧٤ (وبلغت الأسعار أكثر من ذلك في بعض المناطق في الولايات المتحدة الأمريكية)، ولتلك الفترة مميزات أخري، أهمها اكتشاف حقول النفط في بحر الشمال، وهي المناطق التي تسيطر عليها النرويج والمملكة المتحدة.

مع قرار إيران البدء في خفض الإنتاج والتصدير خلال ثورتها وبداية الحرب الإيرانية العراقية، ارتفعت الأسعار بصورة سريعة، وبالتحديد بين عامي ١۹٧۹ و١۹۸٠، ولكنها لم تستمر طويلاً فعادت الانخفاض، نظراً للصدمات المتتالية بخصوص الطلب مع زيادة الإنتاج خصوصا الاتحاد السوفيتي، الذي أصبح في ذلك الوقت أكبر منتج للنفط في العالم عام ١۹۸۸، وبحلول عام ١۹۹٠، واشتعال حرب الخليج بين العراق والكويت، جاءت صدمة العرض التي تسببت في زيادة سعر البرميل من ١٤ دولار إلى ٤١ دولارا للبرميل.

 ظلت أسعار النفط في الأسواق العالمية في التقلب بين الصعود والهبوط، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي عام ١۹۹١ سقطت صناعة النفط الروسية، وصاحب ذلك انخفاض الإنتاج إلى النصف على مدى العقد التالي، وذلك لانخفاض حجم الاستثمارات وتوابع سقوط إمبراطورية النفط الروسية، وأيضاً نتيجة طبيعية للأزمة المالية الآسيوية التي أدت إلى انخفاض الطلب على النفط حتى عام ١۹۹٧، ولكنه عاد للتعافي عام ١۹۹۹.

توابع اجتياح الولايات المتحدة الأمريكية للعراق على أسواق النفط العالمية:

خلّف الاجتياح الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ شكوكاً كثيرة حول مستقبل العرض والطلب على النفط العالمي، وفي هذا التوقيت، تزايد الطلب الآسيوي بشكل كبير (خاصة من طرف الصين)، مما ساهم في ارتفاع الأسعار من 28.38 في عام ٢٠٠٠ إلى ما يفوق ١٤٦ دولارا للبرميل في عام ٢٠٠۸، وبعد هذا الارتفاع الجنوني، عادت الأسعار إلى الانخفاض كنتيجة طبيعية للأزمة المالية العالمية في ذلك التوقيت، ثم عادت للارتفاع مرة أخرى لتصل إلى ١٢٦ دولارا بعد عام ٢٠١١، الذي مثل مجدداً نقصاً في عمليات الإمدادات للنفط.

ومع زيادة حجم الاستثمارات في صناعة واستخراج النفط، سهل التقدم التكنولوجي في السنوات الأخيرة ارتفاع إنتاج الزيت الصخري الأمريكي، وقد أدى ذلك إلى تراجع نفوذ أوبك، مما سبّب انخفاضاً في الأسعار وبدأت سلسلة جديدة من انهيار أسواق النفط العالمية، وهوى النفط من ١١٤ دولارا في عام ٢٠١٤ إلى ما يقل عن ٢۸ دولارا للبرميل في عام ٢٠١٦.

وفى بداية عام ٢٠٢٢، وبعد سقوط أسواق النفط في اختبار الكورونا، ومع ارتفاع أسعار النفط إلى نحو ۹٠ دولار للمرة الأولى منذ سبع سنوات، هل سيستمر في الصمود أم نرى سقوطاً آخر وهذا ما سنراه فى الأشهر المقبلة.

وفى الأخير، كل ما سبق من أحداث وتطورات متلاحقة شكلت سوق النفط العالمي والتي أدت إلى تدهور أسواق النفط، حيث وصلت أسعاره إلى مستويات تاريخية لم ينجح أحد في استشرافها أو حتى توقع أرقام قريبة منها، فمن من الخبراء في صناعة البترول والطاقة كان يتوقع أن تصل أسعار الخام الأمريكي إلى تحت الصفر؟ ومن كان يتوقع أن يصل خام برنت إلى مستويات الـ ٢٠ دولارا للبرميل؟ هذه الظروف الاستثنائية تفوق أحيانا قدرات البشر والخبراء وبيوت الخبرة والمراكز المختصة باستشراف أسواق الطاقة، وعلى رأسها النفط، ليس لضعف كفاءة وقدرات هذه البيوت والمراكز، بل لكون الظروف استثنائية وغير متوقعة، مثل جائحة كورونا على سبيل المثال، والتي شلت الاقتصاد العالمي، مما أدى إلى إغلاق كلي أو جزئي لجميع دول العالم وأنشطته الاقتصادية وحدوده البرية والبحرية والجوية.

 

طباعة

    تعريف الكاتب

    د . أحمد سلطان

    د . أحمد سلطان

    مهندس استشارى- رئيس لجنة الطاقة بنقابة مهندسين القاهرة