مقالات رأى

خطاب الإصلاح والمؤسسات الدينية

طباعة

مع أن الانتماء الديني، في أشكاله المذهبية المختلفة، أمر طبيعي وواقعي لا يمكن أن يكون محل نقاش وتداول الكلام عليه، إلا أن التوجه للأسف نحو الخيار الطائفي – السياسي كان قد برز وتنامى في مناخ داعم أو مُهيئ لحالة تفكك اجتماعي، ساهمت في تشكيله وبناء قواعده الظلامية بكل إصرار كريه توجهات جماعات التشدد المتعصبة على مدى قرن من الزمان، بما أثر على وعي وثقافة وانتماء أجيال تعاقب وجودها، وصارت تبشر وتدعم رسائل طائفية ترى عبر نشرها طاعة لتعاليم الأديان التي ما أدركوا جوهرها.

ولا ريب أن وجود وتعاظم شأن ما يمكن أن يطلق عليه تشكيلات "جماعات التعصب" بات مناهضًا لوجود حيز مطلوب ومهم لتفعيل دور المجتمع المدني الإنساني الطبيعي والمتوازن الذي يؤكد على فكرة مصطلح "المجتمع" بكل ما يحمل أطره وتكويناته من دوافع وقواعد لقيم التقدم ونزع لجراثيم التخلف المعثرة لعمل وجهود أي دولة للبناء والتنمية.

نعم، جماعات الطائفية والتعصب الديني باتت تُشكل حجر عثرة مضاد لعمل الأديان في دعم البناء المعماري الذي يسير عليه سلوك الفرد، وينتظم عليه بناء المجتمع، فهي تفسد أي جهود صادقة وطيبة ووطنية وإنسانية  قد تبذلها مؤسسات التنشئة التعليمية والاجتماعية والدينية في اتجاه بناء الوعي وإثراء معارف الأطفال والشباب بمضامين الوطنية والمواطنة وكل القيم الإيجابية.

لقد ظهر اصطلاح المجتمع المدني في منطقتنا العربية في مناخ تمكنت فيه حركات سلفية وأصولية من تلابيب عقل ووجدان الشارع العربي، وبات الاصطلاح العاثر الحظ "المجتمع المدني" في مواجهة حالة شيوع  التديين السطحى والمظهري في المجتمع والكثير من الأجهزة الإدارية، مما دفع لتوجه أبناء المجتمع بكل تركيباته وطوائفه ليستجيروا بالدين، وحيث الكثير من الأجهزة الحكومية والخاصة تماهت مع هذا الاتجاه لكي تعثر على شرعية لاستمرارية وجودها!

ولما كانت لبنات وأسس تصعيد الحركات الدينية وضعت منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي لدفع صعود الحركات الدينية في العالم العربي، فإن الاحتلال الأمريكي للعراق أسهم في الانتقال من الديني إلى الطائفي، أو في بعث المشاريع الطائفية بعثًا غير مسبوق على الأقل في الزمن المعاصر.

وعليه، كان من أولويات الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ العام الأول لولايته التوجه برسالة واضحة جلية معتبرة للمجتمع المصري لإصلاح الخطاب الديني والتعليمي والإعلامي بشكل عام، وللمؤسسات الدينية ومؤسسات التنشئة بشكل خاص ورموزها، والسبب إدراكه أبعاد دور تلك المؤسسات في بناء الوعي العام بأسس بناء الإنسان؛ إنسان الزمن القادم بكل تحدياته وصعوباته ونحن على عتبات الجمهورية الجديدة.

ولعلها نفس تلك التحديات التي أدرك بعض دوافعها الأولى وبدايات تأثيرها منذ ما يقرب من 70 سنة أهم وزير للمعارف الكاتب والمفكر والروائي والأكاديمي العظيم "طه حسين"، وما دفعه إلى توجيه رسالة للكنيسة المصرية حول أهمية تطوير التعليم الديني، وكان رد الفعل الجميل من جانب الكنيسة بنشر الرسالة بكاملها بكل ما تحمل من ملاحظات نقدية على صفحات أهم إصدار كنسي "مدارس الأحد"، والتي من بين ما جاء فيها:

 "إن إعداد رجال الدين المسيحي لإخواننا الأقباط يحتاج إلى عناية خاصة من الدولة ومن الأقباط أنفسهم، لأسباب طبيعية يسيرة أيضاً، فإن الأقباط مصريون يؤدون الواجبات الوطنية كاملة كما يؤديها المسلمون، ويستمتعون بالحقوق الوطنية كاملة كما يستمتع بها المسلمون، ولهم على الدولة التي يؤدون إليها الضرائب، وعلى الوطن الذي يذودون عنه، ويشاركون في العناية بمرافقة ما للمسلمين من الحق في العناية بتعليمهم وتقويمهم وتثقيفهم على أحسن وجه وأكمله. وما نظن أن أحدًا يستطيع أن ينكر ذلك أو يجادل فيه، بل لا نظن أن أحداً أنكر ذلك أو جادل فيه، وقد قرر الدستور المصري الذي نؤمن به جميعاً أن المصريين سواء في الحقوق والواجبات، لم يفرق في هذه المساواة بين المسلمين وغير المسلمين، والملاحظ أن الظروف المصرية الخاصة لا تسمح في هذه الأيام، ولا ينتظر أن تسمح في المستقبل القريب بإعفاء الدولة من التعليم الديني في بعض مراحل التعليم .. ونلاحظ أيضاً أن هذا لا يقتصر على المسلمين وحدهم، وإنما نلاحظ ذلك بالقياس إليهم وإلى غيرهم من أبناء مصر، ومادام القيام بالواجبات الوطنية هو مدار الاستمتاع بالحقوق الوطنية وجوداً وعدماً كما يقول الفقهاء، ومادام الأقباط يستوون مع غيرهم في أداء الواجبات الوطنية بغير استثناء، فلابد أن يساووهم في الاستمتاع بالحقوق الوطنية بغير استثناء أيضاً، والتعليم من هذه الحقوق، فلابد إذن من أن يشترك المصريون جميعاً فيما يمكن أن يشتركوا فيه من مقومات الوحدة الوطنية، ولابد إذن من أن تنفرد طوائفهم الدينية بما لابد من أن تنفرد به من التعليم الديني الخاص. ولا أرى بأساً بهذا النوع من الانفراد والافتراق، فهو لا يمس الوحدة الوطنية ولا يعرضها لخطر ما ولعله يعين على تقويتها وتذكية جذوتها..".

ويضيف د. طه حسين: "ولعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية، فهو لا يفسد وحدة اللحن، وإنما يقويها ويذكيها، ويمنحها بهجة وجمالاً، ولا أريد أن أدخل في تفصيل التعليم الديني للأقباط في بعض مراحل التعليم ـ وكيف يكون، وعلى أي نحو ينظم، فهذا شيء تستطيع الدولة أن تنتهي به إلى غايته، مستشيرة في ذلك القادرين على أن يشيروا عليها فيه من المثقفين المدنيين والدينيين بين الأقباط أنفسهم ...".

تحية لروح مفكرنا العظيم الذي احتفلنا منذ أيام بذكرى ميلاده (15 نوفمبر  1889).

طباعة

    تعريف الكاتب

    مدحت بشاي

    مدحت بشاي

    كاتب صحفى